«دفاتر» غرامشي للمرة الأولى خارج إيطاليا

*ندى حطيط

لا تكمن أهمية المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891 – 1937) فقط في أن مُجمل أعماله تتيح للمعنيين المعاصرين اليوم، وعبر مجالات متعددة من علوم السياسة إلى الفلسفة والنّقد الأدبي والتاريخ والمَسرح والصحافة وفلسفة اللغة والتعليم، الاستناد إلى نظرية متكاملة في تفسير وتحليل ظواهر معقدة في الاجتماع الإنساني، بل وأيضاً في تقديمه نموذجاً شخصياً نادراً من التجرد والالتزام وحس القيادة لأحد أهم زعماء التجربة اليسارية في أوروبا فترة ما بين الحربين العالميين.

وقد حازت كتابات غرامشي المبثوثة في نصوص عديدة متفرقة في الصحف والمجلات والرسائل الشخصية على اهتمام غير معهود في الأوساط الأكاديمية الغربية، بالنسبة لكاتب يساري، حتى قيل إنه أكثر المفكرين الإيطاليين على الإطلاق لناحية عدد المرات التي اقتُبس فيها عنه في الدراسات الاجتماعية النظرية. وهذا بالطبع إلى جانب النقاشات الواسعة التي أثارتها أفكاره في الأجواء اليسارية منذ السبعينات، والتي تُعد نقلة نوعية في تطوير الفكر الماركسي، لا سيما نظريته في «الهيمنة» السياسية والثقافية التي تفسر أسباب عدم قيام الثورات في المجتمعات المعاصرة.

كان غرامشي مثّل بشخصه أكبر تهديد لنظام بينيتو موسيلليني الفاشي الصاعد في عشرينات القرن الماضي بسبب من قدرته الهائلة على صياغة الأفكار، وقيادة العمل الثوري على الأرض في الوقت ذاته، ولذا فقد حكمت عليه محكمة فاسدة بالسجن عشرين عاماً – رغم تمتعه بالحصانة البرلمانية، إذ كان انتخب وقتها نائباً في البرلمان الإيطالي – قضى منها أكثر من نصفها قبل أن يلقى حتفه بعد إفراج متأخر عنه عام 1937 بسبب من تردي أوضاعه الصحية، لكن دون أن يقدّم أي تنازل لسجانيه.

أهم كتابات غرامشي وضعها خلال فترة اعتقاله الطويلة تلك في سجون موسيلليني من خلال 33 دفتراً كان يسجل فيها ملاحظاته الفكرية، وتعليقاته على الكتب والأحداث ونقده العميق لأهم نتاجات مثقفي عصره. ورغم أن تلك الملاحظات كانت شديدة التشتت في الموضوعات التي تناولتها، وغير نهائية، وتتسم بالمُراوغة اللغوية لتجنب مصادرتها من قبل إدارة السجن، إضافة إلى اللغة «الغرامشية» المتقدمة في صياغة المصطلحات ووصف الظواهر، فإنها تحولت بمرور الأيام إلى مجموعة من أهم ما كُتب في الفكر السياسي الإيطالي الحديث، وثروة فكرية نهلت منها أجيال من المفكرين المعاصرين في صياغتهم لنظرياتهم بشأن الثورات وبُنية السلطة وأدوار المثقفين، والثقافة الشعبية والنظرية الثقافية والنقدية والاستشراق والإمبريالية وتأثيرات الصناعة الرأسمالية على الاجتماع البشري.

وقد ضمّت الدفاتر – البسيطة كأنها أوراق تلميذ مدرسة – 2500 صفحة تقريباً مكتوبة بالإيطاليّة بخط أنيق ومرقمة من الخارج. ويبدو أن أخت زوجة غرامشي الروسية نقلتها عند وفاته إلى موسكو قبل أن يستعيدها الإيطاليون مع نهاية الحرب العالمية الثانية، لتنشر في لغتها الأصلية بطبعة غير محكمة لكنها كافية لاستعادة الاهتمام بالرجل وأفكاره، خصوصاً في أوساط يساريي جنوب أوروبا.

حلّقت أفكار غرامشي في فضاء العالمية من بوابة اللغة الإنجليزية، إذ نُقلت إليها في بداية السبعينات نصوص مختارة من «دفاتر السجن» – كما صارت تعرف بين المهتمين – مع تبويب وتصنيف سمح بقراءة النصوص في ضوء جديد، لتثير موجة واسعة من الاهتمام عبر الغرب الأنغلوفوني كلّه، ولتتبعها عشرات الكتب والنصوص التي اتخذت من أفكار غرامشي منطلقاً لها، إضافة إلى ترجمات للنصوص الأصلية أو مقتطفات منها في كل اللغات الحية تقريباً (بما فيها العربيّة). ويبدو أن تنظيرات غرامشي بشأن شكل السلطة ونُظم الهيمنة لقيت آذاناً صاغية بين الشبان الغربيين الذين كانوا يعيشون مرحلة ما بعد ربيع براغ وثورة طلاب باريس 1968 (وجدالات الحقوق المدنيّة والحرب الأميركيّة على فيتنام في الجانب الآخر من الأطلسي).

وقد ترافقت موجة العالمية هذي مع إعادة اكتشاف الإيطاليين أنفسهم لقيمة مفكرهم الذي عانى صنوف الظلم المتعدد، فبدأت قطاعات واسعة بتبنيه كرمز إيطالي عظيم بعيداً عن المواقف الحزبية الضيقة التي أملتها أيام الحرب الباردة، وتأسست في البلاد عدة لجان وطنية وجمعيات تعنى بحفظ تراث غرامشي ونشره وتوسيع نطاق الاهتمام به.

وقد اختارت الدولة الإيطالية ممثلة بمعهدها الثقافي في العاصمة البريطانيّة لندن أن تحيي الذكرى الثمانين لغياب غرامشي من خلال مجموعة أنشطة يُتوجها معرض لدفاتر السجن الـ33، بحيث يمكن للجمهور، ولأول مرة خارج إيطاليا، الاطلاع مباشرة على النصوص الأصلية بيد المفكر الراحل. كما نظمت عدة محاضرات لمؤرخين ومفكرين نجوم عالميين يتناولون فيها تاريخية غرامشي وراهنيته (البروفسور سيلفيو بونز)، والمكانة الخاصة لفكره في بريطانيا تحديداً (البروفسورات جوسييبي فاكّا وكلوديا مانسينا)، إضافة إلى غرامشي معاصرنا (البروفسيور دونالد ساسون). ويتضمن معرض الدفاتر شاشات إلكترونية تسمح للزائرين بالتنقل بين صفحات نسخة مصورة من الدفاتر الـ33 عبر اللمس.

افتَتَح المعرض 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي باسكال تيراسيانو السفير الإيطالي في لندن الذي تفاجأ بجمهور غفير، لا سيما من الشباب، ملأ أروقة المعهد الثقافي الإيطالي الذي شهد طوابير طويلة من المنتظرين للدخول إلى قاعة عرض «الدفاتر»، وهو لذلك اضطر للتخلي عن كلمته المكتوبة التي تتحدث عن أن البريطانيين ربما لا يعلمون الكثير عن هذا المفكر العظيم، ليرتجل كلمة عبّر فيها عن افتخار كل إيطاليا بسجينها الشهيد، ومعيداً الاعتبار له بوصفه واحداً من أهم مفكري إيطاليا عبر العصور، ومعبراً عن فرحِه بالحشود التي حضرت للاطلاع على ما خطته يد غرامشي خلال سنوات سجنه الطويلة.

بالفعل فإن لغرامشي مكانة استثنائية عند المثقفين البريطانيين، لا سيما يسارهم، تعود بداياتها إلى علاقة الصداقة الخاصة التي كانت تربط غرامشي ببيرو سرافا أستاذ الاقتصاد بجامعة كامبردج البريطانيّة، الذي كان على تواصل دائم معه أثناء فترة سجنه، وكان يزوده بالكتب والمجلات، وفتح له حساباً لدى إحدى المكتبات الإيطالية كي يطلب منها ما يريد من المطبوعات. ومن المؤكد أن البروفسور سرافا كان وراء الحوار – عبر البحار – بين غرامشي والفيلسوف النمساوي اللامع لوديغ ويتجينشتاين أثناء سنوات الأخير في كامبردج، لا سيما أنهما كانا مهتمين بتأثير اللغة على الفكر. وبعد نشر المختارات من دفاتر السجن بالإنجليزية عام 1971 (ترجمها كوينتن هواري وجيوفري نويل – سميث) تأثر أكاديميون كثر بآرائه منهم ستيوارت هول وزملاؤه في مركز الدراسات الثقافية بجامعة بيرمنغهام الذين قدموا أفضل مساهمة في تطوير النظرية الثقافية ودراسة الثقافة الشعبية بالغرب، بينما وصفه إريك هوبزبوم أهم مؤرخ بريطاني في القرن العشرين بـ«غرامشي العظيم»، ونشر نصاً هائلاً في تثمين أفكاره كأدوات لا بد منها لفهم عالمنا المعاصر.

بالطبع فإن لـ«دفاتر السّجن» قيمة تاريخية وفكرية وعاطفية لا تقدر بأثمان، ليس لأننا نحتاج لأن نقرأ غرامشي من خلالها، فتلك الدفاتر صوّرت وترجمت وحفظت نصوصها إلكترونياً، ولم نعد نخشى عليها من الضياع. لكنّها تبقى على مستوى آخر رمزاً إنسانياً شامخاً لانتصار الفكر على القضبان، ولمواجهة يقودها بالكلمات والأفكار رجل واحد محاصر ضد ظلام الفاشية والهيمنة وكراهية الآخر.

القاضي الإيطالي الذي حكم على غرامشي بالسجن قال له «هذا العقل الذي لديك سنمنعه من التفكير لعشرين عاماً». لم يعد أحد يذكر اسم القاضي، وغاب جسد مفكرنا المنهك، لكن ذلك لم يمنع أفكار عقله المشتعل من المُضي في إلهام المثقفين والمفكرين والثوريين بعد عشرات الأعوام، الذين يعرفون تاريخ العالم ويتأملون في حكمته، يعلمون جيداً، أن للأفكار أجنحة وهي لا تُسجن ولا تموت.

______
*الشرق الأوسط

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *