القاهرة- يتذكر «ألبرتو مانغويل» في كتابه «تاريخ القراءة»، الذي ترجمه سامي شمعون إلى العربية، الكلمة الأولى التي قرأها، ويتحدث عن شغفه بالقراءة منذ نعومة أظفاره، وي روي قصة علاقته بالكاتب الكبير بورخيس الذي كان يقرأ عليه في بوينس آيرس، لمدة عامين كاملين، ثم ينتقل إلى بدايات الكتابة وإلى فن طباعة الكتب والأدب وشكل الكتاب وإلى فعل القراءة وسلطانها.
يقدم مانغويل نخبة من عظماء العالم الذين كانوا يكتبون ويحبون القراءة، ويحدثنا عن قصة الأمير الفارسي الذي كان يصطحب مكتبته المؤلفة من 117 ألف كتاب على ظهر قافلة من الجمال، مصنفة بحسب الأحرف الأبجدية، ولا ينسى أيضاً حكاية أكبر سارق للكتب في العالم «الدوق ليبري».
يتخذ أحد فصول الكتاب عنوان «البدايات»، وفيه يتحدث مانغويل عن زيارته عام 1989 للعراق، وتحديداً لمدينة بابل وبرج بابل الشهير، حيث كانت ملحمة جلجامش وكان حمورابي الذي تعتبر قوانينه التي سنها أول محاولة معروفة في تاريخ البشرية، لوضع قواعد وأحكام تنظم حياة مجتمع بأسره في القرن 18 قبل الميلاد.
يشير مانغويل إلى أنه في بابل تترسخ جذور الكتاب في أواسط الألفية الرابعة قبل الميلاد، غير أن الكتابة ليست الاكتشاف الوحيد الذي له علاقة بهذا الفعل، في الوقت نفسه تطور فعل آخر، فنظراً لأن الغرض من فعل الكتابة كان المحافظة على نص من الضياع، أي قراءته جرت مع اكتشاف الكتابة عملية خلق القارئ، الدور الذي كان موجوداً قبل ظهور القارئ الأول، وعندما خط الكاتب الأول علاماته في الصلصال فإنه استبق في الواقع فن القراءة الذي كانت تدويناته ستصبح بدونه عديمة المعنى، كان الكاتب يعد الرسائل ويخلق العلامات إلا أن علاماته كانت بحاجة إلى شخص آخر، يستطيع قراءتها وإعطاء الرسائل صوتاً تنطق به، الكتابة كانت بحاجة ماسة إلى القارئ.
يرى مانغويل أن الكاتب عندما خلق دور القارئ، فإنه مهد بهذا الفعل الطريق إلى حتفه، لأنه عندما يختتم نصه يترتب عليه الابتعاد عنه والتوقف عن الوجود، مادام الكاتب موجوداً يبقى النص غير مكتمل، وبعد أن يطلق الكاتب سراح النص يبدأ وجوده الذاتي الصامت، إلى أن يأتي قارئ ويقرأه، لذا فإن جميع الكتابات تعتمد على سخاء القارئ الذي يبديه تجاهها.
وينتقل مانغويل بنا إلى فرنسا، حيث كانت المكتبات الخاصة ما قبل الثورة، تعتبر ثروات عائلية، تصان من جيل إلى آخر، وكانت ترمز إلى المكانة الاجتماعية ونوع المعيشة، ومع حلول القرن الثاني حصلت الكتب على مكانة السلع التجارية، وأصبحت قيمة كتاب ما أساساً للتثمين ما جعل الدائنين يعترفون بالكتب كضمان، وفي القرن الخامس عشر استقرت تجارة الكتب كعامل اقتصادي إلى درجة أصبحت فيه الأسواق والمعارض التجارية في فرانكفورت وغيرها، بمثابة سلعة تجارية.
وكان الثوار ينهبون المكتبات الخاصة، وانتهت المكتبات المصادرة من النبلاء ورجال الدين إلى مستودعات ضخمة في باريس وليون وديجون، وفي غيرها من المدن الفرنسية، وأصبحت عرضة للأوساخ والرطوبة، خاصة أن حكومة الثورة لم تكن تهتم بالقرارات المتعلقة بمصير هذه الكتب، وكان الدوق ليبري أكبر سارقي الكتب على مر العصور، ولم تكن سرقة الكتب جريمة، يعاقب عليها، إن لم يقم السارق ببيع الكتب، كان الدوق يزور جميع مكتبات فرنسا بحكم منصبه، مستغلاً معارفه لالتقاط نفائس الكتب من الرفوف، بل كان يسرق صفحات مفردة أيضاً ويقوم ببيعها أو عرضها أحياناً. وتعالت أول أصوات الاتهام ضد الدوق ليبري عام 1846 وانبرى كثيرون للدفاع عنه، لكنه كان قد هرب إلى إنجلترا وحكم عليه غيابياً بالسجن عشر سنوات، ونزعت عنه جميع مناصبه، ومات فقيراً، دون أن يرد إليه اعتباره، فتاريخ سرقة الكتب يعود إلى بداية المكتبات الأوروبية الغربية ودون شك إلى زمن المكتبات الإغريقية والشرقية، واستمر السارقون يمارسون أفعالهم إلى أن أصدر البابا بنديكتس الرابع عشر مرسوماً يهدد السارقين بتجريمهم كنسياً، ثم صدرت عقوبات صارمة بحق هؤلاء السارقين، وفي إحدى المكتبات وجد هذا التحذير معلقاً: «من يسرق كتباً أو يحتفظ بكتب كان قد استعارها، عليه أن يتحول الكتاب الموجود في يده إلى أفعى رقطاء، وعسى أن يصاب بشلل ارتجاف قاهر، وأن تشل جميع أطرافه، عسى أن يصرخ عالياً طالباً الرحمة، وعسى ألا تنقطع آلامه إلى أن يتحول إلى رقة متفسخة، وأن تعشش الديدان في أحشائه مثل دود الموتى الذي لا يفنى، وعندما يمثل أمام يوم الدين لتلتهمه نار جهنم إلى الأبد».
_____
*الخليج