حياة عاصفة من الآلام والصدمات عاشتها الشاعرة الإيرانية الشهيرة فروغ فرخ زاد، بدأت وهي ابنة ستة عشر ربيعاً من عمرها بزواجها من رجل يكبرها بـ15 عاماً، لم تكن سعيدة، بل حاولت الانتحار مرتين بتعاطي الأدوية المنومة، وزارت المصحة النفسية أكثر من مرة بعد إصابتها بانهيارات متعددة، ودخلت في خلافات أسرية عنيفة، هربت وهجرت المنزل، وعانت من المجتمع المغلق، وتجرعت مرارات الاعتقال.
وكانت صدمة النهاية في يوم 13 فبراير (شباط) 1967، حيث لقت حتفها إثر حادث مرور وهي تقود سيارتها، لتتوقف حياتها على حافة الاثنين والثلاثين عاماً، العام الذي تمنت فيه وكما تقول في إحدى رسائلها أن تموت «لتبعث من جديد لترى الحياة في ثوب جديد في دنيا خالية من كل هؤلاء الظلمة».
عاشت فروغ حياة قصيرة، إلا أنها كانت حافلة بالتمرد والإبداع، شهدت صدور الكثير من دواوينها الشعرية، كما شاركت في بعض الأدوار السينمائية، وأعدت فيلما عن مرضى الجذام، ورسخت حضورها كإحدى أهم تجارب الشعر الإيراني الحديث. واعتبرت إلى جانب الشاعرة بروين اعتصامي أهم شاعرتين في مسيرة الشعر الإيراني. ولاقت أشعار فروغ اهتماماً واسع النطاق، وترجمت إلى الكثير من اللغات، حازت العربية على قدر كبير منها، وتعدد مترجمو قصائده، وحياتها التي تحولت إلى أيقونة للتمرد النسوي.
مؤخراً صدر بالقاهرة كتاب «نصوص نثرية… مقابلات، رسائل، رحلات» فروغ فَرُّخ زاد، عن المركز القومي للترجمة، بالاشتراك مع دار العين القاهرية. من ترجمة الكاتب والمترجم الكويتي خليل علي حيدر.
لم تكتب فروغ سيرتها الذاتية إلا أن هذا الكتاب الصادر يمكن أن نعتبره كتاباً سردياً، إذ يحوي الكثير من تدوينها، حيث تعبر بصدق عن حياتها ومعاناتها وآلامها وآرائها وأيضاً فرحها وانتصارها.
تنقسم مجموعة الأعمال النثرية لفروغ إلى مقتبسات من رسائلها، إضافة إلى مذكرتها التي سجلتها عن رحلة إلى أوروبا (لم تكملها) وأجزاء من خواطرها ورسائلها إلى عائلتها، وبالأخص إلى والدها، ثم نقدها لديوان «نهاية الشاهنامه» للشاعر مهدي إخوان ثالث، ثم مجموعة حوارات أجريت معها.
وفي رسالة أرسلتها في مرحلة شبابها إلى إحدى المجلات الأدبية، وهي في عمر العشرين عاما، تكشف فروغ عن هذه الروح المتألمة والمتذمرة من النظرة التي يوجهها إليها المجتمع، وتؤكد على ضرورة تحطيم هذه القيود المجتمعية، معبرة عن اعتقادها أن الشعر شعلة من الأحاسيس القادرة وحدها، «فالشعر الجميل هو الذي يوفق الشاعر فيه إلى أن يكون قد عكس من خلاله كل الانفعالات والآلام الروحية والجسدية».
وتعبر فروغ في رسالتها عن الصعوبات التي تلاقيها كونها امرأة، وتؤكد أنه «من الصعوبة أن تحيا في هذا الوسط الفاسد وتبقى محافظة على معنوياتها». وتقول: «لقد أوقفت حياتي على فني أريد الحياة لأجل فني… ولكنني مؤمنة بحتمية تحطيم القيود».
وفي أكثر من موضع تظهر الشاعرة نقمها على ما سمتهم «الفئات التي تتظاهر بالتقوى علناً بينما تفعل كل شيء في الخفاء ولا تكف عن الحديث في حماية قيم المجتمع». مع هذا تصر «فروغ» على المواجهة بالتعبير «لن أهزم». وتتمنى الفتاة العشرينية آنذاك «أن تتحرر المرأة الإيرانية، وأن تكون مساوية للرجل، ولذا تكرس نصف مواهبها لتجسيد آلام المرأة وأوجاعها».
وفى مقتبسات من رسائلها إلى المخرج والكتاب الإيراني إبراهيم كلستان، تظهر فروغ بجلاء ما تتحمل من شعور مقبض يسيطر على روحها ويشعرها الخسارة، ويخنقها لدرجة أنها تكتب: «أشعر أنني قد خسرت حياتي… وأعرف أقل بكثير مما ينبغي أن أعرفه وربما كان السبب في هذا أنني لم أعش يوما حياة بهيجة».
وتُرجع فروغ السبب في ألمها المتقدم لـ«زواجها المثير للسخرية في سن السادسة عشر، وهو ما زلزل أسس مستقبلها» كما تقول.
وفيما يشبه الاعتذار عما سمته «مساوئها»، فإنها تؤكد أنها «ليست ناجمة عن تعمد الإساءة… إنها بسبب شدة الإحساس بالإحسان اللا مجدي»، وتقول في رسالة أخرى: «ما سيئاتي سوى أنين عبوديتي وعجزي حيث لا ترى العين على امتداد النظر سوى الأسوار والأسوار والأسوار واحتجاز الشمس وجدب الفرص والخوف والاختناق والاحتقار….».
وفى مواجهة القسوة المجتمعية، حاولت فروغ الحفاظ على ذاتها بأن «حاولت دائماً أن تكون كبَاب مغلق كي لا يرى أحد أو يعرف حياتها الداخلية المتوحشة»، ملقية باللوم على الآخرين، فهي حينما تنظر لا تجد نفسها مقصرة، «بل الآخرون هم الذين تسببوا في هذه الأخطاء».
وتمنت فروغ في أحد كتاباتها الموت «لتبعث من جديد لترى الحياة في ثوب جديد في دنيا خالية من كل هؤلاء الظلمة، وبشراً تطهروا من هذه الندالة المتأصلة، حيث لا يقيم أحد الأسوار حول منزله».
ورغم محاولاتها الهروب من الواقع الشرقي المقبض بالسفر إلى أوروبا، فإن ذلك لم ينجح في إنقاذها وظلت تعيش في انقباض دائم، وتعبر عن ذلك في مذكراتها عن الرحلة، «فلا يزال قلبها مظلماً» و«لم يكن هذا الصخب (الأوروبي) منسجماً مع ما تشعر به من حزن وانقباض»، مما يجعلها «تحيا داخل نفسها مشاعر مرة مؤلمة من زوال وعدم ديمومة وقابلية الأشخاص والأشياء والكائنات للفناء».
وفى خواطرها، تعبر «فروغ» عن فشل روحها في الخروج من الحصار المفروض عليها، تقول: «أتمنى أن أقف على ذلك الخط الذي يصل البحر بالأفق ويبتعد عني كل شيء وأتنقل كما ريشة خفيفة»، ولكن ذلك لا يتحقق «فشيء ما ينهش روحها».
وفى رسالة إلى والدها، تلقي الشاعرة باللوم لما وصلت إليه على أسرتها، مؤكدة أن «ألمها العظيم يأتي من أنهم لم يعرفوها، ولم يرغبوا في ذلك يوماً… فهي لم تنعم أبداً بالراحة في أي مكان ولم تكن قادرة على فتح فمها وتعبر عن رأيها وأن تشرح ما داخل نفسها لهم وللآخرين».
وتشتكي فروغ من نظرة أسرتها لها على أنها «مجرد امرأة فارغة الرأس حيث حشت قراءة الروايات الغرامية والقصص رأسها بالأفكار الحمقاء».
وتتمنى الشاعرة، في رسالتها التي تحمل المزيد من اللوم على أسرتها، وبالأخص والدها، إن كان باستطاعتها أن تكون سعيدة، وتحيا حياة أسرية بسيطة كأي امرأة، «تكتفي آنذاك بنفس تلك الغرفة الصغيرة وزوج يريد البقاء موظفاً صغيراً طوال عمره، ويرفض تحمل أي مسؤولية، ويتجنب كل محاولة للارتقاء الوظيفي».
وتمنت فروغ لإرضاء أسرتها أن تكون مجرد زوجة عادية تحيا وتموت في ظل زوجها، أو حسب تعبيرها: «أن أقنع نفسي بالذهاب إلى حفلات الرقص وارتداء الفساتين الجميلة والثرثرة مع نساء الجيران، والدخول في معارك مع الحماة، وباختصار أن أقنع بألف عمل تافه… وأجهل دنيا أوسع وأجمل… أدور مثل دودة القز في عالم شرنقي مظلم محدود وأنمو وأفني عمري هناك».
ولكن ما تحمل فروغ من تمرد، وما يشتعل في وجدانها من قصائد وطموحات فنية تأبى أن تتركها لحالها، لتعيش كامرأة شرقية في حمى رجل لا يريدها إلا كزوجة وأم تعيش كآلاف البشر ممن يولدون ويموتون، فهي حسب قولها «لم أستطع أن أعيش هكذا، عندما عرفت نفسي بدأ تمردي وعصياني في وجه الحياة بهذا الشكل الطائش، أريد أن أكون كبيرة، لا أستطيع أن أعيش مثل مئات الآلاف من البشر الآخرين ممن يولدون في يوم، ويغادرون الدنيا في يوم آخر، دون أن يترك ميلادهم ورحيلهم أي أثر».
وترفض فروغ بشدة النظر لها على أنها «فتاة سيئة» فهي «لم ترغب في حياتها أن تكون سبباً في الإضرار بسمعة عائلتها»، وتصل بها دفوعها لدرء الظنون العائلية حيالها لأن تؤكد أنها «لم تنم ليلة واحدة خارج المنزل»، تتابع: «كلا فأنا في غرفتي ليل نهار أنجز أعمالي، وغير راغبة حتى في الخروج، بعكس ما تتصورون، فأنا لست امرأة تحب التجوال في الشوارع بل أنا ذاتي امرأة تحب الجلوس إلى طاولة المكتب، وتقرأ وتكتب الشعر وتفكر… لأنني أشعر أنني ملك نفسي، ولهذا أشعر بالارتياح داخل المنزل… لن يرميني أحد بعد الآن بنظرات الاستياء والاحتقار لن يقول لي بعد الآن افعل هذا واترك هذا».
وقبيل عامها الأخير (الثاني والثلاثين)، وفي إحدى رسائلها الأخيرة، عبرت الشاعرة عن سعادتها بابيضاض شعرها وظهور خطوط التجاعيد في وجهها، حيث لم تعد مثيرة وحالمة. وظنت فروغ بهذا أنها وجدت نفسها أخيراً، تقول في الرسالة ذاتها: «يعنى وأنت في الثانية والثلاثين أن ينتهي ويضع المرء خلف ظهره اثنتين وثلاثين عاماً من سهمه في الحياة غير أنني في المقابل وجدت نفسي».