تمثال وبندقية

خاص- ثقافات

*بسباس عبدالرزاق

ساحة مكتظة بالصراخ، نظرات عشوائية يوزعها المارة عليه، هناك أمام مسرح المدينة يقف بشموخه المعهود متحديا ضوضاء وضجيج المدينة.
ريح ثرثارة، وأعجاز نخل مرتبة بملل على الرصيف.
وسرب أطفال يعبثون بالقرب منه، غير مبالين به، يحملون ألواحا خشبية، يصوبونها نحو بعضهم، يتخيلونها أسلحة.
هو الآخر يحمل سلاحا إسمنتيا، يعبث به أحيانا ولكنه مطلقا لم يتخل عنه.
بثبات وثقة كان ينظر بعيدا، يثقب بنظراته الجدران والطرقات، كمن يبحث عن سر خلفها وربما يفكر في قضية تؤرقه.
يركض الأطفال حوله، وهم يحدثون أصواتا حربية بأفواههم الطرية، يتخيلون المكان ساحة لمعركة قاسية، هو الآخر يخوض معركته مع ذاكرته.
للأماكن ذاكرة قوية، وحدها من تحفظ حماقاتنا.
انتبه لطفل اختبأ خلفه، وهو يطلق رصاصاته نحو أصدقائه، لوهلة كاد يساعده، يشبه هذا الفتى صديقه عمار، عمار صديق البطولات والكفاح.
خلفهم كان فتى آخر يتسلل نحوهما.
أراد أن ينبهه:
-خلفك.
كيف لطفل أن يسمع تمثالا؟
-إنه يلقم بندقيته.
كيف لألواح خشبية أن تحدث ضجيج أسلحة، فيسمعها طفل برئ.
-عمار، خلفك العدو…
هناك في المعركة كان جنود الاحتلال أمامهما، خلف الأشجار يختبئان من رصاصات العدو، ولأنهما يعرفان المكان جيدا فقد اختارا جيدا مكان المعركة.
دوما تتحالف الأماكن مع أصحابها ضد الدخلاء، للأماكن ذاكرة قوية ووفاء نادر.
واصل الطفل المقاومة وهو يتصيد خصومه، يتساقطون أمامه.
عمار أيضا كان قناصا بارعا، وهو يقتنص جنود العدو ببراعة.
كيف للحياة أن تنصب له كمينا آخر ضد ذاكرته، وهي تختبر صبره الاسمنتي.
-إنه يصوب بندقيته نحوك.
الطفل في خياله يعبث، وخلفه تعبث الحياة به، وهي تحضر كمينا صادما.
يتعثر التمثال في ذاكرته، عندما رآى صديقه عمار مصابا في ظهره برصاصة غادرة، بحث عن الماسورة التي أطلقت حقدها نحو ظهر صديقه.
-العدو دوما يختبئ في الأماكن الآمنة، خلفك تماما حيث يستند ظهرك.
تفادى الطفل الرصاصة الأولى برشاقة، والثانية كانت قريبة من رأسه، ولكنها أصابت التمثال في قدمه.
مرة أخرى تستيقظ أحزانه، عندما سقط صديقه بين يديه، وهو يتألم، كان ألما عميقا، لأنه كان في ظهره.
أراد أن يسدد نحو الطفل الذي كان يتسلل نحوهما، ولكنه مرة أخرى عجز عن إنقاذ عمار.
تتكرر المأساة في الحياة بطريقة غريبة ومؤلمة.
انطلقت الرصاصة الثالثة بسرعة فائقة، حامت فوقهما، سخرت قليلا منه، وهي تتجهز لاختراق جسد الطفل.
حاول حمايته، كاد يكسر الاسمنت، ولكنه عجز، لأن من صنع تمثاله كان غبيا، وربما ماكرا حتى ينجز مشهدا متكررا لمأساته.
عندما نريد التخلص من بطل نصنع له تمثالا، أو نطلق اسمه على ميدان فيضيع في زحمة الحياة.
وربما يصبح مجرد نقبا تذكاريا، يلتقط عنده السياح الصور، وفي أحسن الحالات يمارس عنده العشاق حماقاتهم.
مزقت الرصاصة جسد الطفل، سقط عند قدميه، سقوطه كان مدويا في ذاكرته.
-عمار.
عمار لم يقل إلا: سننتصر عندما نتخلص من الخونة..
-هل رأيته؟
– إنه الوهم والخرافة يا صديقي.
-أخبرني أرجوك
-الجهل والخوف الذي يعشش فينا.
-عمار، عمار….عمار لا ترحل..
أراد أن ينحني ليحمل الطفل ولكنه دوما يعجز في مهامه.
عجز مع عمار، وعجز عندما قبلته رصاصة طائشة من رصاصات العدو، عجز أن يعلن رفضه لنصبه تمثالا في وسط المدينة.
واليوم يعجز في إنقاذ طفل، ويعجز في إقامة جنازة تليق به.
قام الطفل وهو يبتسم في وجه صديقه: ماكر حقا أنت.
خبأ الأطفال أسلحتهم قرب التمثال وانصرفوا نحو منازلهم.
وحده هناك بقي بثباته المعهود يحرس المكان، وهو يحضر للغد؛ للمعركة، ربما يرسم معالمها عكس ذاكرته.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *