الموت في ساحة الذئاب الضارية

خاص- ثقافات

*سفيان سعيداني

الأرض تطيب بأهلها ، و تزهو بكل حب صادق ، ذي حظ قد يناله المحبون منه أو ذي أذى ، و قد حفظ الزمان بذي القرى ، أيام متيمين كانا تائهين بذاك الهوى ، منذ أن فتحا لهاته الدنيا عين مبصر و أبصرا ، على الأغنام ترعى و السهول الجامحات روابيا ، و الأنهار الجاريات الفالقات جداولا ، و النجوم الراقصات في الخطب يمانيا ، لم يتفارقا يوما و لا هما تخاصما ، قد كانا في ما مضى ، طفلين ، صغيرين ، سواد الشعر فيه ليلا مداجيا ، و زرقة العين فيها بحرا عاتيا  ، في سنين لاحت و انطوت ، رسمت طريقا و ارعوت ، و علمت بالقلب نبض صبابة و تقوضت ، لما أشعت براءة المقلتين الصافيتين ما وجدتا سوى اسمين ، اسمان يطوفان بالدنيا زهوا و مرحا و لا ينفكان بالعفاف ينشدان ، عزام و فيروز  ، من عائلتين أجوار هن قليلتا الزاد المتاع ، على أن الذي مهد لقصة عشق ، وصال مابارح ينفك منذ الصبا ، أيام خوالي ، تعز ذكراها فلا تتقى ، كانت فيهما حبة الزيتون تفلق بالحجارة فتنظي عنها الزيت حتى يظن بها نزفا أو دموعا جواريا ، و كان الرغيف رغيف خير ، و بركات تطوف البلاد أقطار البراري ركضا و البحر سوابحا ، و ترنو في الأفلاك شهبا لواهبا ، زمان الحب الذي به الحب يفتخر فيقول أنا الحب ، ذاك أنا .

في تبسم الصباح رأيتهما يخرجان ليلعبا بالتراب يبنيان به قلاعا حصينة ثم يهدمان و ينشدان مع البلابل فيطربان ، و يضحكان حتى يشهقا ، و ينظران إلى الغروب سويا و يتحادثان حتى كأنهما من فرط الكلام لا يصمتان ، و يحدقان ببعضهما بشوق لا يماثله ولع و لا به يحتذى ، و أياما يرعيان فيها المواشي فيمسيا إلى الغدران يجمعان زهر النرجس العابق ريحا و مسكا شاذيا ، و يعودان أدراج ظلماء و قد تخوف الأهل حتى ظنوا بهما ضياعا أو خطبا مفاجئا .

قال لها يوما : أحبك كما لا يحبك قلبك ذاته ، و كفى بعشقي لنفسي كما تركته في و ما قصر عنه فوهبه و لا هابه ، و إن وقف الأحبة ضدي و الأعادي و أنت بجانبي فلست آبه ، ألا رفقا بحال من لا يدري لحاله شافيا .

تبسمت و تحرجت و وضعت كفها على كفه ثم غضت طرفها حياء و اختفت  .

أيام كانا يسافران في عرض المدينة يجران الناقتان ، و يمتطيان ، و يتجولان في بقاع الأرض و يصوران عند العود قصصا قد خاضا غمارها فيدونان و يخبران و للتاريخ يتركانها لحظات مطايا ، لا تمحى و لا تنتسى .

أيام كانت الصحراء بالتمر يانعة ، و لهما مستقبلة ، على الكثبان يتمايلان و يتأرجحان ، يتناقشان و لأشعار عصف بها الزمان ينشدان و يرددان .

كبرا و كبر الحب فيهما ، فلم يبصر هو فتاة غيرها و لا هي فتى آخر على الرغم من اتساع البلاد و عرضها ، و ارتجاسها بالأغنياء و الوزراء و المترفهين الخيلاء .

بنى من القش منزلا ، و ظل في الجبل يحتطب و يجني قوت الزفاف ، و هي تراقبه بأعينها و تخفظه بأرمشها و تحميه فتنسيه إذ تبقيه طول اليوم بين طيات قلبها .

و في عشي حالك ، سقطت على عزام إحدى الأشجار التي كان بصدد قطعها ، فأعاقت قدمه فما عاد يقوى حراكا ، و طال به الوقت حتى خيم الليل ، و ارتفع عوي الذئاب في أرجاء الغابة المعتمة ، و لكن نور أطل من بعيد ، و قد كانت هي ، تحمل مصباحا و تبحث عنه ، وجدته ، هرعت إليه ، بكت و أشفقت فإذا بجوانحها قد تقطعت و عدول الدمع ساخنة على خديها انهمرت و استلت فأسه فضربت به ساقها حتى دوت صرختها و تهالكت بجانبه .

فبكى و أجهش باكيا و قال : لما كل هذا ؟ لما ؟ …

فقالت : حببتك بقلبي حبا ، ففديت ساقك بساقي … أحبك .

و انطفأ لهب المصباح ، و اغرورقا في البكاء أنينا ثم تحاصرتهم الذئاب .

كاتب تونسي

 

شاهد أيضاً

كأس وظلال

(ثقافات) كأس وظلال عبد القادر بوطالب تلك الظلال التي طوت تفاصيل أجفاني سارت خلفي ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *