قد يكون هذا العنوان البديل التجريدي لثنائية الوردة والرغيف، وإذا كان الإنسان لا يعيش بالخبز وحده، فهو أيضا لا يعيش بالورد وحده، وتلك هي جدلية الضرورة والحرية، والجائع كما تقول أغنية هندية قديمة يرى القمر رغيفا ساخنا ملقى على قارعة السماء، والضرورة هي تلبية نداءات الغرائز للاحتياجات العضوية. أما الحرية فهي تجاوز لهذه الشروط وتصعيد لما هو بدائي وبري، بحيث يصبح وعيا وترشيدا للواقع، بمعنى محاولة فهمه وإدراك منطق حراكه وبالتالي اتجاهات بوصلته.
وشعارات الحراكات العربية غالبا ما كانت تدور في نطاق الثالوث ذي الأقانيم التاريخية والأرضية، وغالبا ما كان الرغيف يتوسطها، وأحيانا يتقدمها، وما يحدد ذلك هو مجمل الظروف في كل مجتمع على حدة. والمجتمعات العربية رغم وفرة القواسم المشتركة بينها، لغة وتاريخا وثقافة، إلا أن ما فرض عليها من تباعد قسري خلال قرن على الأقل منذ سايكس بيكو أدى إلى خصائص بيئية، تتجسد في تباين الأمزجة النفسية وترتيب الأولويات. وقد لاحظت على سبيل المثال أن هناك مجتمعات تغلب على معجم مفرداتها الخشونة، لأسباب سياسية وتاريخية، يختار أفرادها لتسمية أبنائهم ما هو أقل نعومة من تلك التي تختارها مجتمعات يغلب عليها مزاج أقل عنفا، وتلك بالطبع مسألة لها مقام آخر ومقترب أنثربولوجي قد يضطر من يتورط به من الباحثين إلى اجتراح طريق بكر.
أما ترتيب الأولويات في ثالوث الحرية والرغيف والكرامة الوطنية، فإن ما يحدده هو الراهن الضاغط والحاجة بمعناها الدقيق، حيث لا مجال لرفاهية المفاضلة والانتقاء.
وحين تتحكم الضرورة بالفرد أو الدولة يصبح الحديث عن الحرية وأدبياتها وثقافتها عبئا، لأن ما يسمى السرفايفل أو الباحث عن النجاة، بأي ثمن سواء كان فردا أو دولة يعيش رهينة لسايكولوجيا المتسول، الذي لا وقت لديه للتفكير بما هو أبعد من الوجبة المقبلة. والمسألة في النهاية أبعد وأشد تعقيدا من تلك الطرفة التاريخية عن بسكويت ماري انطوانيت والقمح الذي يبحث عنه الجياع، فالحرية في بعدها الثقافي على الأقل تعبير عن فائض تخطى الإشباع العضوي إلى الرغبة في تحقيق الذات.
وحين تقدم لائحة باسماء أطعمة مجهولة تماما لدى الجائع، لا يحرك ساكنا ولا يستجيب عضويا بحيث يسيل لعابه، لكنه يستجيب بقوة لأسماء أطعمة يعرفها ويختزنها في ذاكرة لسانه ولعابه أيضا، وإحدى أهم الإشكاليات المسكوت عنها عربيا، هي هذا الاشتباك بين الضرورة والحرية، وبالتالي بين الرغيف والوردة، وإذا كنت قد اخترت الوردة مقابل الرغيف فذلك لأنها ذات وظيفة لا صلة لها بالحاجة، لأنها لا تؤكل وغالبا ما تترك حتى تذبل وتموت، وهناك مشهد تراجيكوميدي تم بثّه فضائيا قبل عدة أعوام عن أكوام من الورد ملقاة على الأرض، لأن الاحتلال في إحدى حلقات حصاره لقطاع غزة منع تصدير الورد، وقد شاهدت بعض الحيوانات تحاول مضغ باقات من الورد ثم تلفظها، ربما بسبب مرارتها، ولا أدري ما إذا كانت تتلذذ برائحتها فقط .
والمسكوت عنه أيضا في هذا السياق هو تلاعب الدول بقائمة الأولويات، فهي قد تغدق على إعلام يغسل سمعتها وصورتها، ما لا تنفقه على التعليم والصحة، كما أنها اكتشفت حيلة أخرى هي تحويل المحسوس والمرئي إلى تجريد، فهي مثلا تعلن الحرب على الفقر بمعزل عن الفقراء، وعلى الفساد بمعزل عن الفاسدين، وكأن الظواهر السلبية التي تفتك بها مبنية للمجهول أو نائب فاعل، وربما لهذا السبب قال خبير اقتصادي افتضح الحيل الاقتصادية لبعض الدول وهو هانكوك: إنهم يقترحون وصفة إبادية للفقر، تتلخص في قتل الفقراء، ووصفة أخرى للتخلص من المرض وهي قتل المرضى.
وبهذا المقياس المعكوس أيضا يتم تمجيد العروبة على نحو مجرد والتنكيل بالعربي، والإنشاد لفلسطين وتهميش بل تهشيم الفلسطيني، وأخيرا إدانة الفساد وتبرئة الفاسدين. إن جدل الضرورة والحرية تاريخيا هو الصياغة الأدق لما يسمى ثنائية الناقص والفائض، أو الوردة بكل رمزيتها والرغيف بكل واقعيته، وهناك قصيدة يابانية من طراز ما يسمى الهايكو عن قليل من الرز وكثير من الورد، لهذا لا أظن أن محمود درويش حين كتب إنّا نحب الورد، لكنا نحب القمح أكثر، كان يعبر عن ذاته أو عن رأيه الشخصي، بل عن مزاج سائد، وهذا ما دفعه فيما بعد لإصدار مجموعة شعرية بعنوان «ورد أقل». وفي البلدان التي عبثت النظم السياسية بأولوياتها وبوصلاتها قد نسمع أن ما يحتاج إليه الناس هو الأكل والمأوى، وأن الموسيقى والرسم وسائر الفنون لا تسد رمقهم، لكن سرعان ما تتكشف هذه اللعبة حين نقرأ إحصاءات عن إنفاق الشعوب الفقيرة على المكالمات الهاتفية أو المباريات الرياضية أو التظاهر بالثراء لإخفاء الفقر كما لو أنه عورة.