«أنا لست مريضة، أنا مدمّرة، ولكنّني أمعن في البقاء، ولسوف أشعر بالابتهاج طالما تيسّرت لي سبل الرسم». كلمات مفردات توجز على نحو فاجع حياة فريدا كاهلو، قتيلة جراح ممضة، حبست أنفاسها على مهل. ولئن كانت الألوان قد خضّبت أرضها وبيتها ورسوماتها، فإنّ ألوان حياتها كانت على النقيض من ذلك، باهتة، بل شاحبة بسبب ابتلاء صادم.. قاصم.. اِبتلاء المرض والعجز: لقد خضعت هذه الفنّانة لما لا يقلّ عن 32 عملية جراحية، واضطرت أثناء حياتها على حمل 28 مخصّراً تجبيرياً من فولاذ، من الجلد أو الجبس. لذلك تتبدّى لنا فريدا كاهلو من الوهلة الأولى على هيئة محاربة شوساء، تستمدّ قوّتها من ضعفها، وتمضي إلى أقصى الحدود، في مواجهتها لقدرها.
أبدت فريدا مقاومة مدهشة لتخطى كل العقبات التي كانت تنتصب أمامها. وكان فنّها هو ملاذها، مصدر ثورتها، ووسيلتها المفردة كي تبقى على قيد الحياة، وتقاوم الفساد الذي كان لا يني ينخر كيانها؛ فجاءت أعمالها أقرب ما تكون للانفعالات المنبثقة من عمق عذاباتها..
البيت النيلي
ولدت مغدلينا كارمن فريدا كاهلو، التي كانت تدعى باسمها الثّلاثيّ (الذي يعني في اللغة الألمانية «سلام»)، في 6 يوليو 1907 في كيوكان، في حي سكني بضاحية مكسيكو، ضاحية كان يغمرها جلال الأزرق العميق الذي يلفّ المكسيك.. إنّها صبيّة بستان لاكازا أزول، ذلك البيت العائلي المخضّب بأزرق نيليّ، الذي يذكّرنا بروعة معابد وقصور الآزتيك.
كابنة ثالثة من ضمن أربع بنات، وجدت فريدا كاهلو هناك، حنوّاً خاصّاً من قبل والدها، الذي كان حسب وصفها هي له «سخيّاً، فطناً، مهيباً..»، والذي كابد هو الآخر داء الصّرع لمدة ستين سنة، ولم يثنِه ذلك عن الإمعان في العمل. وقد تعلمت منذ صغرها كيف تسعفه كلّما انتابته نوبات ذاك المرض. كما شاركته منذ طفولتها الباكرة نفس الهشاشة. وبالمقابل، كانت علاقة فريدا بأمها علاقة ملتبسة، امتزجت فيها المحبّة بالتّجاهل والازدراء.
الظّبية الجريحة
وهي في سن السادسة أصيبت فريدا بشلل الأطفال الذي اضطرّها إلى الانحباس داخل غرفتها طيلة تسعة أشهر، حيث كان والدها يتولّى بكلّ لطف وحنوّ.. رعايتها. ولئن تعافت بعض الشّيء، فإنّ ساقها اليمنى ظلّت مهزولة وموجوعة، وعرجها الذي كانت تحاول تصحيحه بحذاء طويل الساق، كان يثير من حولها الكثير من السخرية والاستهزاء. لذا.. كانت حتّى أيّامها الأخيرة تمقت رجلها الذي أنحلها المرض.
وسوف تعيش فريدا في عالم خياليّ، عالم عامر بالأحلام، سوف تختلق فيه صنوا لها لن تفارقه أبداً: «كنت أغوص نحو مركز الأرض، حيث كانت صديقتي الخياليّة بانتظاري. كنت لا أذكر صورتها ولا لون شعرها، ولكنّني كنت أعلم يقينا أنّها كانت في غاية الابتهاج والفرح، ولا تتوقّف عن الضّحك. دونما صخب، كانت حيويّة ورشيقة الحركة، وترقص، وكأنّ جسدها بات أخفّ من الهواء، وكنت أنا أرافقها في رقصها وأبثّها كلّ أسراري».
وتوافق سنوات شبابها فترة اندلاع الثّورة المكسيكيّة التي امتدّت من سنة 1910 إلى 1920. وقد بلغ تحمّسها لذاك الانقلاب الاجتماعي حدا حملها على أن تجعل من سنة 1910 سنة ميلادها الحقيقي.
وفي سنة 1922، وبعد إنهاء دراستها بإعداديّة آلان، اِلتحقت بالمدرسة الوطنيّة التحضيريّة. وعلى مجموع ألفي فتاة مترشّحات لدخول تلك الجامعة، كانت فريدا كاهلو من ضمن خمسة وثلاثين فتاة تمّ قبولهنّ. ومع بعض هؤلاء الطّلبة المنفلتين، انخرطت فريدا في عمل نضاليّ من أجل إدخال إصلاحات على نظم الجامعة، ومناصرة الأفكار الثّوريّة لخوسيه فسكنسيلوس، الفيلسوف والمحامي اللاّمع.
وفي تلك الأثناء، اِلتقت فريدا بدياغو ريفييرا، رسّام الجداريات، وشاركته إنجاز جداريّة كبرى بمسرح بوليفار.
الرّسم.. من أجل البقاء
غير أنّ حادثاً مأساوياً غير حياتها فجأة وبصورة قاسية: كانت لم تتجاوز بعد سن الثامنة عشرة، حين تعرّضت إلى حادث ساحق. ففي صدام بين قطار وحافلة كانت قد استقلّتها قبل لحظات، اخترقها قضيب حديديّ من الظّهر وحدّ الرّحم. فيما اخترقها من الجانب الأيسر قضيب آخر، ليخرج ثانية من الغمد.
ومنذ ذلك اليوم المهلك المريع، بدأ صراعها المضني مع تدهور منهك عنيد لحالتها الصحية. ورغم تكرر الانتكاسات، وانحباسها في حجرتها، واستنجادها بالعكاكيز وكرسي المعوّقين، كانت فريدا تبدى تصميما صارما على أن تعيش. وبعد سنتين، تمكّنت من استعادة حياة شبه عاديّة، ولكنّها تخلّت عن دراستها، لتتفرّغ إلى الرّسم الذي أضحى مبرّر وجودها. وقد أسرّت للناقد الفني أنطونيو رودريغاز: «كنت أعتقد أنّي أمتلك ما يكفي من الطّاقة لأتفرّغ لشيء آخر غير دراسة الطبّ.. ومنذ سنوات خلت، كان لدى أبي صندوقا به ألوان زيتيّة.. وكانت أمّي قد جهّزت لي محمل رسم تم تثبيته في الفراش، وشرعت حينها في رسم أولى لوحاتي، وكانت صورة شخصيّة لإحدى صديقاتي».
كان فراشها مغطّى بستارة تحتها مرآة بحجم السّرير، على نحو يجعلها ترى نفسها لتتخذها، في غياب مواضيع أخرى، مثالاً أو موديلا. ويفسّر هذا كثرة ما أنجزته في تلك الآونة من صور شخصيّة: قرابة السّبعين لوحة: «إنّي أرسم نفسي لأنّي أمضي أوقاتا طويلة وحدي؛ ولأنّه لا مثال آخر لديّ أرسمه وأعرفه جيّداً، غير صورتي الشّخصيّة».
الصور الذاتية
كلا.. لم يكن الرسم عندها موهبة مبكرة.. كان الرسم ينبجس من جراحاتها، من دمها ومن أحشائها، من سرها وحميميتها، ومن تخيلاتها. كانت تلك الأعمال أشبه ما تكون باِعترافات على شكل رسوم لرَقْيِ الموت. «كلّ ما عرفته من خيبات ومآسي، وذلك الألم العميق الغور، ليمتزج بحياة فريدا، ونجده معروضاً بجلاء في رسمها، بجسارة صامتة وتحرّر فكريّ اِستثنائي» (جان ماري لوكليزيو).
والحقيقة أنّه لا شيء ترك للمصادفة في رسمها، الذي كان مرموزاً ومشفّراً، على غرار رسومات جيروم بوش وبيتر بروغل. استلهمت كتب الرموز للقرن السابع عشر لابتكار صور رمزيّة مختلفة. وحين مثلت نفسها في صورة ظبي مصاب بسهام مميتة، فإنّها كانت في ذلك متماهية مع إحدى بطلات ملحمة «إينييد»، الملكة القرطاجنيّة ديدون.
أصبحت فريدا رسّامة، وبالرّسم سوف تلج حياة دييغو ريفييرا. فبعد مضيّ ثلاث سنوات على الحادثة، تجدّد اللّقاء بينهما، وانعقد مصيره بمصيرها.
فتلك المراهقة التي كان دييغو بالكاد قد تعرّف إليها، غدت راشدة، بملامح يستكين فيها الوجع، وعينين سوداوين يحدّقان في من تخاطب من النّاس، وحيث نلمس في حجريهما طبيعة تملّكيّة ساحرة ومرتابة، وأحياناً مستخفّة. فكانت مزيجاً عجيباً من النّرجسيّة والانبساط، من الحزن والتحدّي، من رغبة جامحة في أن تحظى باعتراف الآخرين، وميل إلى التّواصل معهم.. أمّا حاجباها، فيتّخذان شكل أجنحة طائر، ويرتسمان على جبينها على هيئة خطّ لا انقطاع فيه.
ومن ناحيتها، كانت فريدا قد وقعت في حبّ هذا الرجل الذي كان يكبرها بإحدى وأربعين سنة. وقد انتهت تلك العلاقة بين دييغـو وفريدا بالزّواج في 21 أغسطس 1929، زواج سوف تتخلّله الكثير من التوتّرات.
بداية من معرض السريالية العالمي الذي افتتح في 17 يناير 1940 في رواق الفنّ المكسيكي لإيناس أمور، سوف تحظى فريدا بمزيد من الاعتراف. وفي سنة 1942 انتخبت عضوة في «مجموعة الثّقافة المكسيكيّة»، وكانت تعمل من أجل تحفيز وإشاعة الثّقافة المكسيكيّة. وفي السّنة نفسها اِلتحقت بأكاديميّة الفنون الجميلة للفنون التشكيلية «لا إسميرالدا»، ودعيت إلى الإشراف على قسم الرّسم، فكانت تدعو طلبتها باستقاء أفكارهم من الشّارع. غير أنها، وعلى إثر أوجاع مبرّحة في الظّهر، اضطرّت إلى إعطاء دروسها في منزلها. و طيلة تلك الأثناء انضاف إلى وجعها الجسديّ ألم آخر، ألا وهو يأسها من أن تصبح أمّا.
وفي سنة 1932 وأثناء زيارة لديترويت، عرفت إجهاضاً عفويّاً آخر ترافق بأوجاع لا تطاق. وقد مثّلت ذلك في لوحة «مشفى هنري فورد»، حيث رسمت نفسها عارية، مستلقية على فراش مضرّج بالدمّ.
كان تمثيلها للجسد ولجنسويّة المرأة لا تجميل فيه، وإنّما جاء أكثر واقعيّة، وأحياناً ما كان قاسياً ومحطّماً للممنوعات في عصرها.
تظاهر بالسّعادة
في أكتوبر 1938 أدخلت عليها نيويورك سعادة كبرى، حين أقيم أوّل معرض لها برواق الفنّ لجوليان ليفي، الذي عرف نجاحاً مدويّاً، وكانت له أصداء رائعة في الصّحافة. ولكنّ الأمر كان على عكس ذلك في باريس، إلى حيث انتقلت أربعة عشر شهر بعد ذلك، بدعوة من أندري بروتّون، الذي كان يأمل في انضمـامها إلى جماعة السّوريّاليين. فحال وصولها إلى باريس، تبيّن أنّ هذا الأخير لم يشرع بعد في الإعداد لذلك المعرض. وسوف ينتظم معرض آخر بباريس في مارس 1939، بمبادرة من الرسام مرسال دوشان، تحت عنوان «مكسيك». و مع ذلك فقد اقتنى لها متحف اللّوفر لوحة «صورة شخصيّة» كأوّل عمل لرسّامة مكسيكيّة معاصرة.
في صورها الشّخصيّة الأكثر إيلاما، لا أثر لعواطف زائفة ولا استدرار للمرحمة ولا ملاطفة لذاتها.. كانت تتظاهر بالسّعادة، مستفيدة من ميلها الفريد لمسرحة الأشياء للحفاظ على حميميّتها وكرامتها ككائن بشريّ. (…). لذلك كانت تعيش مع صنوهــا، فريدا الأخرى التي ينبغي أن تعيش وتتألّق وتتباهى، وإذهال كلّ أولئك الذين يقتربون منها.
لئن كان الموت الصّموت كسبيل للخلاص يسكن باستمرار كلماتها ورسوماتها، فإنّها كانت تختار مع ذلك الحياة، رغم الجهد المتلف الذي تستوجبه. وبالهيكل العظميّ الذي قامت بمحاكاته بأسفل لوحة «صورة شخصيّة للوثر بوربانك»، حيث يبدو هذا المربّي الشّهير للنّباتات كائناً هجيناً، نصفه إنسان ونصفه شجرة، كانت فريدا قد تناولت موضوعاً أثيراً لديها: تشكُّل حياة جديدة بوساطة الموت، الموت بوصفه سيرورة، طريقا أو مكان عبور.
لقد انتهت حياة فريدا كما بدأت.. بوضع مأسويّ. ففي سنة 1950 تدهورت صحّتها واضطرّت إلى إمضاء تسعة أشهر في المستشفى بمكسيكو. هناك.. بترت أربع أصابع من قدمها اليمنى بسبب انسداد في الشّرايين، ثمّ إنّ عمودها الفقري الذي كان يسبّب لها آلاما حادّة، تطلّب هو الآخر إجراء عمليّات جراحيّة جديدة. وبفضل محمــــــل رسم ثبّت فوق فراشها، أنجزت لوحة «الصّورة الذّاتيّة للدّكتور فاريل» الذي أهدته لجرّاحها ورفيقها في الألم.
غير أنّ الألم، ويا للأسف، كان قد تفجّر من جديد، واسوداد العجـز بات يكتسح جسدها. الماريخوانا وحدها كانت تمنحها بغض اللّحظات من الذّهول وفرصة للغوص في عالم الأوهام. و في ربيع 1953، وحين أدركت أنّها أضحت أقرب إلى الموت منها إلى الحياة، قرّرت صديقتها، المصوّرة لولا ألفريز، تنظيم معرض فرديّ كبير لها يضمّ جميع أعمالها. وفي مساء التّدشين، نقلت على فراشها إلى قاعة العرض، وهي تكاد تكون في حالة ذهول تامّ، فشاركت بالشّرب والغناء، المدعوّين.. احتفالهم.
وفي الأشهر التي تلت، استوجب سريان داء الغنغرينا في جسدها بتر رجلها اليمنى. وقد قالت ذات يوم وهي مبتهجة: «فيما قد تنفعني هذه الأرجل، و أنا لديّ أجنحة تتيح لي الطّيران». كانت الحياة لا تزال باقية، ولكنّ الجسد كان قد دبّ فيه الفناء.
مصابة بالتهاب رئويّ حادّ، لفظت فريدا أنفاسها الأخيرة في 13 يوليو 1954، أي سبعة أيام بعد عيد ميلادها السّابع والأربعين. وكانت كلماتها الأخيرة المدوّنة: «آمل أن يكون الخروج من الدّنيا مبهجا، وأن أعود إليها مجدّداً».
خلّفت فريدا كاهلو، التي جبلت من دم و ألـــوان، مائتي لوحة خلال حياتها الفنيّة. وقد تعدّدت بشأنها السّير الذاتية والروائية، وفي سنة 2002، جعل منها شريط «فريدا» وجهاً كونيّاً له ملامح سلمى حايك.
________
*الاتحاد الثقافي