شهرزاد تخرج من عزلتها : ثيمة ضجّة المكان وهدوء الضوء

خاص- ثقافات

*حامد عبدالحسين حميدي

تذهب الناقدة الفرنسية سوزان برنار إلى أنَّ قصيدة النثر هي : ” قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية ، موحّدة ، مضغوطة ، كقطعة من بلّور…خلق حرّ ، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجاً عن كلّ تحديد ، وشيء مضطرب ، إيحاءاته لا نهائية ” ( 1 ) .
قصيدة النثر جنس فنيّ يكشف عن جمالية القيم الشعرية في لغة النثر ، وتهيئ مناخاً مناسباً للتعبير عن التجربة من خلال الصور الشعرية المكثفة والشفافة ، وأهميتها ترتكز : أنها تعوض الانعدام الوزني في القصائد التقليدية . وكما يقول الشاعر اللبناني أنسي الحاج  -أحد أهم شعراء قصيدة النثر العربية إن لم يكن أهمهم – عن شروط قصيدة النثر :” لتكون قصيدة النثر قصيدة حقاً لا قطعة نثر فنية ، أو محملة بالشعر ، شروط ثلاثة : الايجاز والتوهج والمجانية ” ( 2 ).
حبيب السامر(3) في مجموعته النثرية ( شهرزاد تخرج من عزلتها ) (4) ، والتي مثلت منطلقا للخروج من الصمت والعزلة الى البوح بالمكنونات التي هي تجسيمات خطابية لـ ( شهرزاد ) الانثى التي استطاعت بما تملكه من خبرة ودربة كلامية على المراوغة والتحايل طلباً للنجاة والخلاص من الهلاك المحتوم ، إنها تمثل تأريخاً لأرشفة ماض ٍ شكّل قوّة البقاء ،  لتعلن عن خروجها التامّ الرافض لكلّ الاغلال والأصفاد لتتحرّر من عبودية الذكوريّة ، وهي تلفظ انفاسها في مناخ من الجمال والتألق ، لتوغلنا بين المسموح والمحضور هذه الافاضات البوحية العابرة لمحطات قاحلة تطلق ما في خفايا النفس من المخفي والمستور والمخزون ، شهرزاد : أنثى وطن متخم ، بالمعاناة والشجن ، إنها خطابات التمرد والرفض على واقع امسى ممّلاً رتيباً خاوياً على عروش لم نجد فيها إلا هياكل منخورة من السبات لنخرج الى حرية التعبير والرأي .
يبدو أنّك لا تجيد الدوران إلا حول نفسك
وكلما حاولت ان تمد يدك لتقطف وردة المعنى
وجدتها موغلة في الفراغ
كم تتوق الى رؤية عينيك وهما تحلمان بصبية
يتقاذفون حصى الساحل في الماء !
الصورة التي يحاول ( السامر ) ان يوصلها الينا فيها احتمالية عن نتيجة معروفة سلفاً لديه ، وهي الفراغ ، وبما يشكله من قوة خارجية ضاغطة علينا ، لا نستطيع احيانا إلا ان نهرول وراءه محاولين ان نكون ظلاً  له ، نعقد عليه خيباتنا وهزيمتنا التي التصقت بنا ، فالدوران حول النفس / والمحاولات الخائبة ، والتوق بالحلم الزائف لصبية يمارسون قذف الحصى في الماء ، ما هي إلا انكسارات نفسية ناتجة عن قاع الفراغ المقيت ، بقايا لقطاف غير مجدٍ ، ( وردة المعنى ) دلالة الحياة واليقظة والضوء والصوت والسمع ، وما تشكله من وظائف متجانسة مع معطيات أكثر بعداً عن المحاولات البائسة .
نجد ان الشاعر يعمد الى تكرار تركيب ( يبدو أنّك ) في قصيدته ( ست ) مرات ، اشارة منه الى : ( يبدو أنّك لا تجيد الدوران / يبدو أنك لا تجيد الطيران / يبدو أنك لا تكترث .. / يبدو أنك تستيقظ .. / يبدو أنك تتناوب .. / يبدو أنك لا تجد مساحة .. ) أن كل ما يدور حولنا ما هي إلا ترددات لأسىً لم يكن لها مساحة كافية للخلاص بل كان ( الفراغ ) يملؤها .
يطالعون الصباح في وجهك
والضحى
في وجوههم بقايا نعاس وذبول
اصابعهم بوصلة لا تعرف الهدوء
عيونهم سهام
لا يأبهون بالقادم من الوقت (6)
رؤية الباطن وسبر اغواره والبحث عما يخبّئه ، لا يمكن ان تحدّده معالم معينة بقدر ما أن الابهام والغموض عن ماهية الاشياء باتت تتجلّى بروح المقاصد التي يسوقها الينا الشاعر نفسه ، كونه يجري مقابلة ما بين ( وجوههم ) الغائبية الذي تلاشت ملامحها ، وبين ( وجهك ) المخاطب الماطر بالحياة والصباح ، ليمنحنا صورة لانحسارات متتالية من خلال الميول الى استخدام الفعل المنفي بـ ( لا ) النافية ، كونه دال على الانكار والجحود : ( لا يأبهون بالقادم من الوقت / لا يحلمون بالماء والخضراء / لا يؤنس خطواتهم إلا نثار غبار ) ،  لتتكون لدينا حقيقة مترابطة تآصرياً ، ما بين مطلع القصيدة وخاتمتها : ( يطالعون الصباح في وجهك / مثل انحسار الغروب ) ، هذه الرؤية بُنيت على اساس المقابلة الصريحة بين ( الصباح / الغروب ) ( الحياة / الفناء ) (السعادة / الحزن ) ، فهؤلاء هم منفيون عنا ، فلا وقت لديهم ، ولا موسيقى ، كل ما لديهم هو بقايا ( نعاس ، ذبول ، بوصلة لا تعرف الهدوء ، شفاههم زرق ، في آذانهم وقر ، صفصافة مقبرة زائلة ، نثار غبار ) .
هل أنت حزين بما يكفي
لترقد من نومتك الاخيرة
أم أنك الأكثر سعادة منا الآن ؟
أيها الطائر
الذي فارق النخل
ولا غادر اغصان البمبر والسدر
كنْ كما تريد (7)
الحزن ثيمة ترويض النّفس عمّا نفقد ، الشعور بالألم والخيبة والتوجع والفقدان والعزلة ، لا يكفي أن يكون الرثاء حزناً بسؤال نطرحه أو نداءً نطلقه ، فالانتظار وجهٌ مملُّ لذكرياتٍ مشحونة بالنسيان ، بما يصاحبها من لحظات تأمل وصمت وهدوء : ( ها أنت حزين بما يكفي / أم أنك الأكثر سعادة منا الآن ) هذه المعادلة التي تحوّلت لدى الشاعر ( حبيب السامر ) الى إيضاحات : الحزن ليس اكتفاء ولا رغبة ، بقدر ما هو أمر محتوم وواقع ، يفرض علينا حينما لا نستطيع ان ندفعه عنا ، كذلك السعادة .
في ضجّة المكانِ وهدوء الضوء
الفراشة تناوب البوح
بوحٌ بلون الشمس
اصبعك يمسح الغبار عن كلماتي
حروفك الصغيرة تنمو
تشاطرين وردتي
لنتقاسم بقايا حياة مؤجلة . (8)
( الفراشة ) دلالة الانثى والطبيعة المتحرّرة من قيود لم نر فيها سوى تصدير الحراك باختناقات ـ تلوّنت بضجيج المكان ، وهدوء الضوء الذي كان له التأثير الدلالي في بيان الكشوفات الرؤيوية الماطرة بذلك ( البوح ) الذي ينصهر بلون الشمس خارجا من نقطة الارتكاز الحسيّ ، ( اصبعك يمسح الغبار / حروفك الصغيرة تنمو / تشاطرين وردتي / نتقاسم بقايا حياة ) كل هذه التراكيب منحت النصّ ايحاءً متراكما من التنامي والتصعيد ، كونها مشاطرات صراع بقاء واثبات وجود ، وهي مسارات ذات مستويات اختلاجية .
أيُّ أثر تقتفي
وأنتَ
لا أثر لك ؟
وأيّ وجهٍ تنتظر
وأنت
لا أحد ينتظرك ؟
تلقي الحجر
في ماء بركتك وتمضي ، (9)
نجد ( السامر ) يحاول ان يوصلنا الى لحظات قاسية علينا .. وموحشة بكل تفصيلاتها ، ( الاثر ) وتلاشيه دلالة الضياع والتشرد بعد خيبة تتبع خاسرة ، لذا / توهّجت نقاط الضعف والخيبة والخسارة النفسية لدى المتكلم والمخاطب : ( أي أثر  تقتفي / لا أثر لك / أي وجه تنتظر / لا أحد ينتظر / تلقي الحجر … وتمضي ) ، هذه المساقط كانت نوافذ حلم لم تتسع لضياع العمر ، بعد ذبول .
سريرك فارغ إلا من آخر تنهيدة
ملابسك في مكانها
أتعرف ؟ أن أمّنا تعطرها كل عيد
وتلقي التحية كل صباح
تترقبك هي :
ما عسانا أن نقول لها ؟
بالله عليك .. دلّنا على جواب . (10)
الغياب / فراغ ، وخوف ووسوسة ومحو لكل المحطات عدا الذكريات ، لكنها ذكريات موشومة بتنهيدة معطلة ، في خطابية رثائية ( السامر ) ينزف وحدةً مكتظة بالعراءِ ، بعد فقد أخ له … فكل الاشارات الدالة اصبحت لديه مبهمة ، ( سريرك فارغ ) موت وفقدان وشعور بخسارة كبيرة لا يمكن تعويضها ، ( ملابسك في مكانها ) ذكرى معطلة بالوجع والحزن ، ( أمنا تعطّرها كل عيد ) أمل مفقود لا رجعة له بل مجرد حراكات عاطفية ، ( تلقي التحية كل صباح ) احياء ذكرى وبثّ روح الحياة .
رسم باباً بالورد
وقال لها :
أخرجي الآن
حاولت أن تفتح الباب
تناثر الورد
وعبق المكان
فآوت الى صدره
وهي تردد
لا باب يسع احلامي
أنت باب بهجتي
مهما ضاق اتسع . (11)
النَبْرُ الذي يميل اليه الشاعر في هذا المقطع حكائية منبسطة ، تبدأ بأمنية ( رسم باباً بالورد ) كي يمهد للآخر الغائب الخروج ، ليتحوّل المكان الى حدائق من الجمال والبهجة ، فالأحلام لديه هنا ، عاطفة هادئة ، فلا ضجيج ولا صخب مثلما نراه عند الشعراء الاخرين ، ( فآوت الى صدره / وهي تردّد ) فيه نوع من الالتصاق العاطفي والإفاضة المتنامية ، فهي تراه باباً لسعادتها ، الذي يتسع افقاً لا مبالغة فيه ، هذه الانطباعات الحسية الدافئة بالنظر المشبع بضربات القلب وهي تتبادل الادوار في التقاط البؤر الجمالية لديه.
ماذا لو نظرت الى المرآة
ووجدت وجهاً
لم تألفه من قبل ، لا يشبهك تماماً
تكرّر النظر
هو ذاته الذي لا يشبهك أيضاً ،
لكنك في آخر الليل ،
حين تفكر ان تلقي النظرة الأخيرة عليه
تجد وجهك مطبوعاً في المرآة
أين الوجه الآخر ؟
أين تلاشى في بعد المرآة ؟ (12)
النظر في المرآة يحمل جرأة كشوفات لرؤية الملامح الحقيقية لصورة الذات الباطنية ، لكن حينما يطالعنا في المرآة وجهاً آخر ( قناعاً ) لا يشبه الوجه الأول ، وكلما حاولنا اعادة النظر طالعنا الوجه القناع ذاته ، بينما في النظرة الاخيرة نجد الوجه الحقيقي مطبوعاً واضحاً بكل ملامحه وتفصيلاته ، اراد الشاعر ( السامر ) ان يوصل الينا ان الانسان يمتلك اكثر من وجه وقناع ، لكنّنا – احيانا – لا نستطيع فرزها ، إلا من خلال الغور في باطنها ، لذا / مال الى السؤال : ( ماذا لو نظرت الى المرآة / اين الوجه الآخر ؟ / أين تلاشى في بعد المرآة ؟ ) الاسئلة ورش تنقيب وبحث عن مكنونات مبهمة ، ثم : ( لا يشبهك تماماً / لا يشبهك ايضاً ) هذا النفي يفصح عن خداع الاقنعة التي يرتديها البعض في تعامله اليومي مع مجريات الحياة ، لكنّها : ( تجد وجهك مطبوعاً في المرآة ) نرى ان هذه الاقنعة الزائفة ما هي إلا انعكاسات للإنسان ذاته .
( حبيب السامر ) شاعر أمتلك قدرة على تطويع المفردة والتركيب وشحنهما بطاقات ارسالية خطابية ضاجّة ، استطاع من خلالها ان ينقلنا معه الى متابعة الحدث النصيّ الذي كان له تأثير كبير علينا ، ( شهرزاد تخرج من عزلتها ) نصوص تستحق ان نقف عليها ، نرصد فيها ثيمات دالة على حضور الاشياء في لغة شعرية متناسقة .
…………………………………….
(1) ينظر : سوزان برنار : قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا ، ترجمة د. زهير مغامس ، دار المأمون ، بغداد 1993 .
(2) ينظر : أنسي الحاج : لن ، دار الجديدة ، بيروت 1994 ، ط 3 (المقدمة) .
(3 ) حبيب السامر  :  شاعر وكاتب تولد البصرة ، بكالويوس لغة انكليزية ، عضو اتحاد الادباء والكتاب في العراق عضو نقابة الصحفيين العراقيين ، صدر له : مرايا الحب ، مرايا النار ٢٠٠١ ٢/ حضور متأخر جدا ٢٠٠٥ / رماد الاسئلة ط١ ٢٠٠٧ ،  ط٢ ٢٠١٣ لمناسبة بغداد عاصمة الثقافة العربية / اصابع المطر ٢٠١٢ / بابيون ٢٠١٥ / شهرزاد تخرج من عزلتها ٢٠١٧ .
(4) شهرزاد تخرج من عزلتها : حبيب السامر ، دار الشؤون الثقافية العامة / وزارة الثقافة – بغداد ، الطبعة الاولى لسنة 2017 .
(5)  يبدو أنّ ، ص 5 .
(6)  مقاصد مبهمة ، ص 7 .
(7) معبد الكلمات ، ص 9 .
(8) فرح مؤجل ، ص 15 .
(9) أثر ، ص 19
(10) غامضة نومتك الأخيرة ، ص 21.
(11) قلائد ورد ، ص 25 .
(12) مرآة ووجوه ، ص 27 .

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *