في الحاجة إلى سوسيولوجيا التكنولوجيا

*زهور كرام

تعرف المجتمعات تحولات في أنظمتها، وعلاقاتها الاجتماعية، بفعل طبيعة الاستعمال التكنولوجي. وتتفاوت المجتمعات في نوعية التحولات، حسب علاقة أفراد ومؤسسات المجتمع بالتكنولوجيا.
وإذا كان علم الاجتماع يهتم بدراسة المجتمع، وبالقوانين التي تحكم تحولاته، وبمظاهره وظواهره، ويبحث في طبيعة سير التحول، وموقع الأفراد فيه، فإن المجتمعات اليوم في حاجة إلى سوسيولوجيا التكنولوجيا، بهدف تحليل وضعية المجتمع وأفراده، وتحليل سلوك الأفراد، وعلاقاتهم بالتكنولوجيا، وتأثير العلاقة في مفهوم الحياة والقيم والفرد والأسرة والذاكرة.
تعود أهمية الحاجة إلى سوسيولوجيا التكنولوجيا إلى أربعة عوامل. أولا: الاستعمال الكبير والسريع للتكنولوجيا، وفي كل الأوساط الاجتماعية، ما يجعل المجتمع يتحول بسرعة، ويتجاوز نظامه المألوف. ثانيا: طريقة الاستعمال التي أصبحت تطرح أسئلة على طبيعتها ووظيفتها، ومدى خدمتها للمجتمع. ثالثا: ما تلحقه عملية الاستعمال التكنولوجي السيء من خرقٍ واضحٍ وملموسٍ للإنسانية وللحضارات، وما تحدثه من أذى للأفراد والمجتمعات. رابعا: لكون هذا الأذى تصبح له ذاكرة تكنولوجية، يستمر تاريخيا ومع الأجيال.
تصبح الحاجة إذن، ملحة لسوسيولوجيا التكنولوجيا، من أجل دراسة علمية وموضوعية للمجتمع، وهو يتحول مع الاستعمال التكنولوجي. وعليه، فإن الاهتمام السوسيو تكنولوجي ببنية المجتمع والتكنولوجيا، سيسمح بالوعي الاجتماعي بهذه التحولات، وقراءة عناصره، وتحليل أسبابه، من أجل فهم التحول، في أفق تجاوز السلبيات، التي قد تهدد توازن المجتمع إنسانيا، وذلك من خلال البحث في مختلف العناصر التي تشكل البنية، من ذلك: التكنولوجيا في الحياة الاجتماعية، من حيث مدة الاستعمال اليومي، وطبيعة التوظيف، والعلاقات الاجتماعية في مجتمع التكنولوجيا، وتأثير هذه العلاقات على المجتمع الواقعي، والموقع الافتراضي للفرد، ولغة الاستعمال التكنولوجي، والسلوك الفردي في المجتمع التكنولوجي، والتشريعات القانونية المرافقة للاستعمال التكنولوجي، والذهنية التكنولوجية، وغير ذلك من قضايا التكنولوجيا باعتبارها استعمالا اجتماعيا. وهذا من شأنه أن يجعل الدرس السوسيولوجي يُعيد النظر في مفاهيم عديدة منها: الفرد، المكان، الزمن، العلاقات الاجتماعية، المجتمع، النسق، البنية الذهنية، الأسرة، المدرسة، التربية، إلى جانب الاهتمام بمفاهيم جديدة، باتت تحدد نظام المجتمع مثل: الافتراضي، الروابط، وغيرهما. ولكون مظاهر الاستعمال التكنولوجي تأخذ ـ في غالب الأحيان- أبعادا نفسية، فإن الدرس السوسيو نفسي يُصبح ـ هو الآخر- ضرورة علمية وثقافية، لمقاربة ظاهرة الاستعمال التكنولوجي. كلما تأخر البحث العلمي والمعرفي في اعتماد مثل هذه المقاربة السيوسيو نفسية – تكنولوجيا، انعكس ذلك على نمو ظواهر اجتماعية ونفسية وقيمية وقانونية، ستحتاج لا شك في ذلك، إلى عقود من الزمن لتجازها، بدون تجاوز آثارها، مادامت الذاكرة التكنولوجية تتجاوز اليوم إرادة الشعوب والأفراد. وعليه، فإن الدرس السوسيو نفسي للتكنولوجيا أصبح مطلبا ملحا، من أجل صياغته وبناء منظومته المفاهيمية والإجرائية، ليصبح مقاربة علمية للاستعمال التكنولوجي، هذا يتطلب من علماء السوسيولوجيا تطوير المقاربة الاجتماعية، والانفتاح على الظاهرة التكنولوجية بعلمية ومعرفة، واستنباط آليات التحكم فيها من منطقها، وتطوير مفاهيم علم السوسيولوجيا، انسجاما مع تحول المجتمعات اليوم.
لعل من بين الظواهر اللافتة للانتباه، التي باتت تشكل مظهرا تكنولوجيا، يعبر عن السلوك الاجتماعي اليوم، في علاقة بطريقة الاستعمال التكنولوجي، نشير إلى ظاهرة، تحتاج إلى مقاربة سوسيونفسية تكنولوجية. تتمثل في فعل التقاط صور جثث الموتى والقتلى، والتسابق في اقتسامها، ثم اقتسام الاقتسام الذي يطال مختلف الوسائط من «فيسبوك وسناب وواتساب وانستغرام وتويتر». لا نتحدث هنا، عن الإعلام العربي الذي لا يحترم حقوق الموتى، التي تكفلها الأديان والقيم والقوانين الدولية، عندما يقوم بإشهار صور الجثث في جغرافيات القتل والدمار، وعند محطات القتل الإرهابي، إذ يتم التشهير بالجثث، وملء الفضائيات وأخبارها، وإعلانات برامجها بصور الموتى والقتلى، وأحيانا يتم التقاط سيلفي مع الجثة، وهو السلوك الذي لا يتورط فيه الإعلام الغربي. فكم من جرائم قتل وعنف، وتفجيرات إرهابية شهدتها مدن غربية، وتحدث عنها الإعلام بالمباشر، وبالتحليل الدقيق، لكن دائما هناك حرص على احترام صور الأموات والقتلى. نكتفي هنا، بطرح سؤالٍ: ألا يعني هذا، أن الاستعمال التكنولوجي هو حالة حضارية، ذات علاقة بالمكتسبات التاريخية والثقافية والحقوقية والقانونية؟
لا نقصد هنا، إذن الإعلام العربي، الذي يحتاج – بدوره- إلى تحليل سلوكه الإعلامي، وهل يمكن اعتباره عاملا مساعدا في انتشار الظاهرة، ولكن نركز في ظاهرة السلوك الاجتماعي التكنولوجي على الشارع العربي، ونهتم بالفرد الاجتماعي، وتعامله مع الحدث الاجتماعي، وعلاقته بالاهتمام الكبير بالتقاط صور ما يحدث في الشارع، بدون احترامٍ لحرمة ميتٍ، أو مصابٍ أو جريحٍ، أو لأهل المُصابِ، وما يمكن أن ينتج عن هذا الفعل، من أذى يطال حاضر الأهل ومستقبلهم.
لا ننكر أهمية الشارع في إيصال الأحداث إلى الإعلام أو القضاء، كما لا نُبخس دور الفعل الاجتماعي في توثيق الحدث، بطريقة سريعة، تتحول ـ أحيانا كثيرة- إلى دليل قضائي أو اجتماعي أو إعلامي. إن هذا الفعل الاجتماعي الذي يُنجزه المواطنون، باستثمار التكنولوجيا، من أجل فضح الفساد، والإخبار عن أبطاله وفضاءاته، والتعبير عن الظلم ومآسيه، والتضامن مع المحتاجين، والمطالبة بالحقوق، وتعرية الواقع، هو فعلٌ نضالي وبامتياز. لا نقصد بالظاهرة، إذن، الفعل الاجتماعي الذي تحول إلى فعل سياسي وإعلامي وحقوقي، وبات يتجاوز- في كثير من الأحيان- دور الأحزاب والمؤسسات التمثيلية للشعب، إن هذا الفعل مُحصن بشرعيته الوظيفية التي تجعل من المجتمع فاعلا سياسيا. إنما نعني بالظاهرة، تلك المتعلقة، بالتركيز على التقاط صور الضحايا، والإسراع باقتسامها مع الآخرين، ونشرها في المواقع.
عندما يقع حادث سير في الطريق، أو جريمة قتلٍ، أو ممارسة عنفٍ أمام الملأ، أو انهيار منزلٍ، أو ما شابه من الأحداث التي تعرفها حياة المجتمعات، فإن أكثر الأفعال نشاطا من قبل أفراد المجتمع، هو فعل التقاط صور الضحايا قبل الاهتمام بالحدث في حد ذاته، أو بالفعل الإنساني من مساعدة، أو خدمة. تصل الصورة بسرعة قاتلة، وبدم باردٍ إلى مواقع التواصل الاجتماعي، ويتم اقتسامها عبر وسائط الواتساب وانستغرام، والفيسبوك مثل النار في الهشيم، أو أكثر بكثير. تصل الصورة قبل الخبر، وتتعثر المعلومة عند الصورة، وتبدأ الحكايات تنصب الخيام عند عتبة الصورة، وتنفجر التعليقات، إما مخترعة حكايات، تتوالد وتتعقد، وتبتعد عن حقيقة الصورة، أو تأتي عبارة عن ضحك وسخرية، تُحول الميت إلى موضوع لعبور انطباعات غير مسؤولة إنسانيا. وهنا، يحق لنا طرح بعض الأسئلة حول أسباب هذا السلوك التكنولوجي لدى بعض أفراد المجتمع: ما هي الدوافع السوسيونفسية والثقافية التي تُحول المأساة إلى مشهد للعبث؟ ما الذي يدفع الناس إلى الانشغال بالتقاط صور الضحايا، بدون اعتبار لحق الضحية في صيانة كرامته وهو ميت؟ ما هي العوامل النفسية التي تجعل البعض يستمتع بأخذ سيلفي مع جثة؟ لماذا يتم اقتسام صور القتلى، بدون الاهتمام بمشاعر الأهل؟ ولماذا تنشط حركة اقتسام ما هو مُسيء لكرامة الإنسان، بدون التريث؟ لماذا تنشط حركة اقتسام ما هو مسيء لحقوق الناس؟ هل يُمكن الحديث عن حالة نفسية تولدت مع الاستعمال التكنولوجي؟ وهل لكاميرات المحمول سلطة على المُستعملِ؟ هل باتت المجتمعات تعيش فراغا وجدانيا، يتم ارتواؤه بكل ما هو مثير ومُرعبٍ ومخيف؟ هل يُعبر ذلك عن أزمة قيم ومشاعر؟
تلك بعض الأسئلة التي نقترح التفكير فيها، وفق مقاربة سوسيونفسية للاستعمال الاجتماعي للتكنولوجيا.
إذا كان تاريخ التفكير الإنساني يشهد تطورا مستمرا في العلوم والمعارف، فإن أكبر تحد للإنسان هو حمايته لحقوق الإنسان مهما تعددت وتنوعت واختلفت العلوم والتكنولوجيات. والسبيل الوحيد لتحقيق هذا التحدي، هو امتلاك الوعي الثقافي بالعلوم واستعمالاتها.
_________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *