مقعـد رونالدو

خاص- ثقافات

*محمود شقير

لم يأبه كاظم علي لكل المتاعب التي تعرّض لها، بسبب حماسته للاعب كرة القدم البرازيلي، رونالدو. كاظم علي يعشق كرة القدم، وأهل حارته لا يعشقونها، ولا يعيرونها أيّ اهتمام. يقولون: لدينا هموم كثيرة، ولا نملك وقتاً لنضيّعه على الكرة. من فرط حماسته، أكدّ كاظم علي أن ثمة مراسلات على الإنترنت بينه وبين رونالدو. أثمرت هذه المراسلات، كما قال كاظم علي لأهل الحارة، وعداً قاطعاً من رونالدو، بالقدوم هو وزوجته وطفله، لزيارته، ولقضاء شهر أو شهرين في ضيافته، كاظم علي أكّد بأن رونالدو قادم لا محالة.

حتى هذه اللحظة لم تقع أية مشكلة جراء ذلك، فقد اعتاد أهل الحارة على سماع قصص غريبة يرويها كاظم علي، بين الحين والآخر، تتمحور في الغالبية العظمى منها، حول كرة القدم. يقول الواحد منهم للآخر بعد الاستماع إلى كاظم علي: حُطْ في الخُرْج، ولا تصدّق ما يقوله هذا السائق الثرثار. لم يكن هذا الكلام يقال لكاظم علي مباشرة، لكنّ الكلام كان يصله بهذا الشكل أو ذاك. يشعر بالاستياء، ويواصل تأكيداته بأن رونالدو قادم.

ذات صباح، حاول أكثر من واحد من أبناء الحارة، الجلوس في المقعد الأمامي لسيارة الأجرة التي يقودها كاظم علي. لم يسمح كاظم علي لأحد بالجلوس في المقعد الأمامي، اكتفى بتكرار جملة واحدة على أسماع الجميع: هذا المقعد محجوز لرونالدو. تنطلق السيارة إلى المدينة دون أن يصعد إليها رونالدو، ودون أن يفكّر أحد بالدخول في نقاش عقيم مع كاظم علي. لم يكن من الصعب طرح عدّة تساؤلات سريعة: أين هو صديقك البرازيلي يا كاظم علي؟ أين هي زوجته وطفله؟ أين هو هذا المدعو فونالدو؟ (يضحك كاظم علي ويحاول تصحيح الاسم دون جدوى) ولا يجيبهم عن تساؤلاتهم بشكل واضح، ما يزيد الأمر غموضاً وغرابة. ولا يتوقّف في الوقت نفسه عن تكرار السلوك نفسه، والتلفّظ بالكلمات نفسها في الصباح وفي المساء: هذا المقعد محجوز لرونالدو. يسكت الجميع ولا يفكرون بمجرّد الاعتراض، ولا يعودون إلى طرح الأسئلة.

غير أن شائعة لم تخطر على البال، ثارت كالزوبعة في الحارة: كاظم علي يحجز المقعد الأمامي في سيارته، لغايات التهتّك والولدنة مع بنات الناس! رآه أحد أبناء الحارة، (هكذا تقول الشائعة) وهو يميل برأسه نحو فتاة تجلس إلى جواره في المقعد الأمامي بعد الغروب، ولم يكن في السيارة أحد سواهما. كاظم علي ولد ملعون، قليل الأدب، يسخّر سيارته لخدمة نـزواته الطائشة، ولا بدّ من تلقينه درساً في الأخلاق.

وصلت الشائعة إلى كاظم علي، سخر منها، اعتبرها مجرّد كلام أطلقه شخص مأزوم، فالحارة كلها تعرف أن كاظم علي يحب زوجته التي تزوّجها بعد شهرين من اقتران رونالدو بفتاة أحلامه. كاظم علي لم يعد إلى التحرّش بالبنات بعد زواجه مباشرة، على العكس من بعض أصدقائه سائقي سيارات الأجرة، الذين لم يعصمهم الزواج من الاستمرار في إقامة علاقات خفيّة مع بنات جميلات. كاظم علي له رأي ثابت بخصوص الزواج: لا تتزوّج الفتاة التي تستجيب لك من أوّل نظرة. وقد اقترن بزوجته استئناساً بهذا الرأي: ذات صباح، صعدت فتاة إلى سيارة الأجرة، لم يكن فيها أحد سوى سائقها كاظم علي. صعقته الفتاة بجمالها، تأمل خديها وعنقها وأصابع يديها، قال دون مقدمات: أنا طالب القرب. خلعت الفتاة فردة حذائها، هزّتها في وجه كاظم علي، كادت تضربه لولا أنه اعتذر لها في الحال.

ظلّ كاظم علي يبحث ثلاثة أيام متواصلة عن بيت الفتاة، ولما عرفه أرسل أمه وخالته وأخته للتعارف مع أهل الفتاة تمهيداً لطلب يدها. بعد عدد من الإجراءات الروتينية تمت الخطوبة، ثم الزواج. ظل كاظم علي منجذباً مثل المجنون إلى جمال زوجته، لم يفكّر أبداً بالنظر، مجرد النظر، إلى أية فتاة أخرى، والآن من هو هذا المأزوم الذي أطلق شائعة فاقعة من هذا النوع! ليذهب إلى الجحيم هذا الشخص اللعين.

غير أن كاظم علي دفع ثمن الشائعة. اعترضه ثلاثة رجال ملثمين، أوسعوه ضرباً، ومع ذلك، لم يكفّ عن حجز المقعد الأمامي في سيارته لرونالدو. وزاد على ذلك، بأن ثبّت صوراً عديدة لنجم الكرة المحبوب على زجاج السيارة. ولم تلبث شائعة أخرى أن انتشرت في الحارة: كاظم علي يتستّر على شخص له صلات مشبوهة مع سلطات الاحتلال. راجت هذه الشائعة، ووجدت من يصدقها، بعد أن أقدمت هذه السلطات على هدم ثلاثة منازل جديدة في الحارة، بحجة أنها شيّدت دون ترخيص من الجهات المسؤولة! المسألة واضحة ولا تحتاج إلى فصاحة زائدة: أهل الحارة متضامنون مع بعضهم بعضاً، ولا يمكن لأحدهم أن يقوم بالوشاية على جاره أو قريبه. إذاً، كيف عرفت السلطات المحتلة بأمر هذه المنازل الثلاثة؟ المسألة واضحة مثل عين الشمس. وقد توطّدت الشكوك، حينما داهم جنود الاحتلال، الحارة في إحدى الليالي، واعتقلوا أربعة عشر شخصاً من أبنائها.

حركة “الأفعال لا الأقوال” التي تأسّست قبل أشهر قليلة، ولم يزد أعضاؤها حتى الآن عن سبعة وعشرين عضواً، التقطت المبادرة على الفور، دعا زعيمها أهل الحارة إلى اجتماع حاشد، فلم يحتشد في الساحة سوى ثمانية رجال، نصفهم على الأقل من أعضاء الحركة، ونصفهم الآخر من أعضائها كذلك. قال زعيم الحركة متوعّداً: ألا فليعلم المدعو بونالدو، أننا لن نغض الطرف عن كلّ مارق زنديق، ولن ندع العابثين يزرعون في صفوفنا الفرقة والخراب. (التهديد الأخير موجّه تلميحاً لا تصريحاً إلى كاظم علي).

كاظم علي دفع الثمن. اعترضه سبعة رجال ملثمين، ليست لهم علاقة بالثلاثة السابقين، أوسعوه ضرباً، وبالرغم من ذلك، لم يكفّ عن حجز المقعد الأمامي لرونالدو، فانتشرت شائعات كثيرة جرّاء ذلك، كادت تهدّد مستقبل الحارة بويلات لها أول وليس لها آخر. صاح رجل في الساحة ذات مساء: يا ناس، ألا يكفينا ما نعانيه من ويلات على أيدي سلطات الاحتلال، حتى يجرّ علينا هذا الكاظم علي ويلات جديدة؟ تحلّق من حوله حشد من الناس. بعد جدال صاخب، تم اتخاذ القرار: نرسل وفداً إلى عائلة كاظم علي، وعلى العائلة أن تتدبّر أمر ابنها العاق.

انطلق ثلاثة عشر رجلاً من أبناء العائلة، يتقدّمهم كبيرهم الجزّار، إلى بيت كاظم علي. بيت صغير في طرف الحارة، لكنه مملوء حباً. كانت نوال قد انتهت للتوّ من هدهدة طفلها في سريره قبل أن ينام، طبعت على خدّه قبلة وهي تقول: والله إنه شبه ابن رونالدو مِخْلَق مِنْطَق. ابتهج كاظم علي لهذه الملاحظة التي سمعها من زوجته للمرة العشرين، تقدّم نحوها واحتضنها بشغف، حملها بين ذراعيه، ثم أنـزلها حينما سمع دقّات عنيفة على الباب.

أطبق ابن عمه الجزار بضراوة على ذراعه النحيلة، ضغط على رقبته بحدّ السكّين الذي يستعين به لتقطيع لحم الخراف، ولمهاجمة الخصوم حينما تندلع المشاجرات العائلية التي لا تنقطع. صاح فيه: مين هو هذا كونالدو يا ولد؟ إحك، انطق. مين هو كونالدو هذا؟ حاولت نوال التدخّل لحماية زوجها من هجمة أبناء العائلة، فلم تتمكّن. تدبّر أمرها ثلاثة منهم، جرّوها نحو المطبخ وهم يغلقون فمها بأيديهم الخشنة.

واصل ابن عمّه الجزّار طرح الأسئلة باستنكار: مين هو كونالدو هذا؟ قل لي، فهّمني. اعتصم كاظم علي بالصمت، ولم يفه بأية كلمة. احتمل تعنيف أبناء العائلة، احتمل لكماتهم التي انهالت على وجهه، احتمل حدّ السكّين الذي كاد يجزّ رقبته. قال ابن عمّه الجزار: اسمع يا ولد! ما بدي أسمعك تحكي عن كونالدو السافل هذا، ولا تجيب سيرته على لسانك، سامع! ومن بكرة لازم يطلع من الحارة هذا الكونالدو، فاهم! لم يفه كاظم علي بأية كلمة، ظلّ يكظم غيظه حتى اللحظة الأخيرة. انصرف أبناء العائلة، أعطوا أهل الحارة وعداً بأن ابنهم لن يثير من الآن فصاعداً أية مشكلة، وبأن المشبوه كونالدو سيغادر الحارة نهائياً مع بزوغ شمس الصباح.

شعر كاظم علي أنه تعرّض للإذلال، بكى على صدر زوجته، على صدرها الحنون بكى. بشفتيها مسحت دموعه المالحة، أمضت الليل كله وهي تسرّي عنه، حتى خفّ ألمه واعتدل مزاجه.

جلس كاظم علي في الصباح خلف مقود سيارته. اقترب منه أحد أبناء الحارة، همّ بالصعود إلى المقعد الأمامي للسيارة. صدّه كاظم علي بكلمات حاسمة: هذا المقعد محجوز لرونالدو!


_________
*روائي وقاص فلسطيني / من مجموعة “صورة شاكيرا” (2003).

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *