المتحف؛ منطوق الأزمنة والأمكنة

خاص- ثقافات

*محمد كريش- المغرب

مثلما تشكل المتاحف مرتع الدهشات والتحيرات، ومعدن الأحجيات  والأسئلة المستعصية العالقة في حلق التاريخ. ومكتنزا  ومنهلا  للعلم والثقافة، والمعرفة والتربية، وحقل  تلاقيها وامتداداتها، وتلاقحاتها السابقة واللاحقة، عبر الزمن والمكان. وعبر  الفكر وأجياله. وفيها تُطرَق أبواب  الألغاز والأسرار، وتُستكشَف ضمنها الممكنات. ويَستشرِف فيها الحاضرُ المستقبلَ عبر الماضي وبقاياها. توقا لفهم واستفسار الأشياء والوجود، والمآلات… تمثل المتاحف كذلك  مرايا للموت ومرافئ للضحايا والجثث. وبقايا قصص ومصائر. مثلما  رصاصة  تغدو فارغةً بعد الطلقة. دونما فائدة بعدُ  للتصويب، سوى كونها أثرا شاهدا على جريمة قتل فظيعة، ونهاية أسطورة… تبقّى منها ظلها.

المتحف مقبرة شاسعة بقبور مشرعة على العراء، تتنافس فيها الأرقام  وبطاقات التعريف. هو  نهاية مطاف مأساوي. واختزال معركة  كانت، وماتزال، مع الوجود والكينونة. إيجاز لكلمة عبور من كون إلى كون. وبرزخ الأصداء بين الماضي والمستقبل… المتحف مدينة الفناء  والموت وموطن ذاكرتيهما. مرأب  لأشيائهما ومخلفاتهما وما تبقي من الأثر لنسج نُتف من المعنى. في المتحف أثر الموت يمسك بزمن الأشياء ويصادر حركيتها وأنفاسها. كما أمكنتها؛ وقد انتزعها من جغرافيا الوجود. فيغمر الهواء برائحته ورطوبته الأزلية. في المتحف يستحيل الزمان منارات أصنامية منطفئة، مهجورة   كخراب في عجاج بحر التاريخ، عبر  مده وجزره. منارات فارغة من البيان والإشارة. متوقفة عن الوظيفة والفعلية. فقط متشبثة  بالذاكرة ورمزيتها، ولواحقها وامتداداتها في العبرة والمسيرة. شاهدة  كمذكرة  أحدهم  يتأمل  طويلا عبثية المادي في صد البقاء. وجدوى فعل  الحبر والكلمة وبينهما القول، وفحواهم  في تأبيد  الحكاية  والأثر، والذكرى مع الدمع. المتحف احتفاء بـ” أركيولوجية وأنثروبولوجية” الكائن الإنساني وزمكانيته، وبمآله وحتفه. واحتفاء في صمت قدسي بالموت وما دمّر وبدد. فيه الحاضر  يرثي مصيره والمصيبة والمأساة، وألم الفراق، ووهمه الكبير مع التمادي، مثلما كذلك،    يُستشرَف فيه  الوارد المحتوم… يقولون إن للموت عباءة سوداء، يمتطي صهوة جواد بلون السخام، ومنجل حصاد يبرق بيديه يتعقب السنابل في فدادين الحياة. فهكذا يتغذى الموت على إعدام الوجود ليحيا.

نعرج على المتحف كمزار ومحراب لنتأمل رفات الآلهة تحكي تراجيديتها الكبرى في صمت ملغوز. فنخمن ما خفي وما لا يُرى. نحدق بأبصارنا وبصائرنا في ما وراء ذاك الأفق فينا. نستكشف الزمن وما يضمر، ومدى تلك العبثية فيه وفي الحياة كتجربة وجودية. في المتحف نعاين الحصاد قد أتى على  السنابل. ونستقبل  جثثنا  معبأة في جثث الأسلاف. فنستشعر فينا الأحفاد ونحن أسلاف. الكل يعبئ الكل. بينما الطريق مشرع على الفراغ. وكالعقرب في قرص الساعة، تلكم هي  دورة الحياة؛ تنطلق من  بوتقة العدم لتأوي إليها ثانية في اطراد لانهائي. حيث  هناك، في جنون، تشتغل على أشدها  ثنائية جدلية متناقضة، قطباها “الملْء والإفراغ”. ولا ثمة اكتراث ولا استثناء… لتتعاقب الحيوات وأشياؤها… فقصتك أنت، تبدأ حيث انتهت تلك التي كانت لأبيك. ولكل منكما  خاصته، على مقاسه القدري. كينونات، في مجرى النهر، متصلة متسلسلة في اختلاف وتقاطع لازم.

ندخل المتحف مثلما مُرافقٌ لمسافر في محطة قطار، يستأنس بصديقه والمسافرين ريثما يتم الإقلاع مع الوداع، فيعود… وقد عاين كيف يزحف الرحيل وكيف يتخلله الزمن. فهكذا السيل الكوني  يجرف الكلمات وأصحابها إلى  قاع  الليل في صمته  الفظيع. ليُبقي فقط على: “كان ذات يوم”. وفي المتحف نعبر إلى حيز الماضي عبر حيز الحاضر. مثلما ثقب أسود ينفتح على الزمنين. لنقرأ ما كان. ولتمتزج الذوات بالذوات ويعانق الحنين الحنين. والكلمات الكلمات. وينصهر  الكائن “نحن”، والماكان “أولئك”…

فالمتاحف كيفما هي مقابر وشواهد على الموت والرحيل، هي كذلك شواهد على مقاومته وصده  بالأثر والتوقيع. فالتاريخ مرآة لتلك الفطرة المنغرسة في رحم الحياة على مداراة الموت ومخادعتها عن طريق التبقية والدلائل والبقايا. وبالأحرى هو حتما ذاك  الإسرار الذاتي والفطري على الصمود ضد سطوته وجبروته، من خلال درع  الفن والكلمة، وما بينهما من علوم ومعرفة وثقافة… ونطفة الشعر.

المتحف الحديث  مسرح حي  بعبق أزمنة ما مضى. تتحرر فيه  الذاكرة الإنسانية بأشيائها، طازجة حية، من أسر الغياب وغياهب المجهول والضباب، عبر آليات صناعة الخيال الافتراضي المعاصرة  وتقنياته الاستحضارية اللامتناهية.

عبر المتاحف، نفتل الحاضر بالماضي وبالمستقبل. فنعيد كتابة قصتنا نحن من جديد، لكن؛ بحبر أنصع وأوضح وفي كنه أشمل غير معهود…
__________

*(الصورة لمتحف القاهرة)

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *