خاص- ثقافات
*د. مازن أكثم سليمان
تستمدُّ قصائدُ الحداثة العربيّة الأولى أهمّيّتَها البحثيّةَ بفعل جانبيْن: الأوّل يرتبط بقدرتها على الاستجابة المستمرّة للقراءات المفتوحة في مستوياتها الفنّيّة؛ والثاني يرتبط بالمستوى النظريّ الذي يَكشفُ كيفيّةَ تأويل “الحداثة” عربيًّا عبر التشابكات بين أُسسها الفكريّة ونظريّاتِها الشعريّة وتطبيقاتِها النصّيّة.
ينتمي ديوانُ البئر المهجورة ليوسف الخال (دار مجلّة شعر، 1958) إلى الأعمال التي تستحقُّ مزيدًا من التفكيك الفنيّ والمفهوميّ المتراكِب، وتحتلُّ ثلاثيّة “نداء البحر ــــ قصيدة في ثلاث” آخِرَ الديوان. ولا يمكن فهمُ عتبة العنوان إلّا بالاتّكاء على تقديم الخال، إذ يحتفي بقصّة كزينوفون الإغريقيّ الذي أنقذ أحدَ الجيوش الإغريقيّة، بعدَ مقتل قائدها على يد الفرس، وعاد بجنوده عبر دروبٍ ملأى بالمَخاطِر والأعداء إلى أثينا، عابرًا بهم البحرَ.
هكذا تغدو الروايةُ التاريخيّة، باشتباكها الدلاليّ مع عتبة العنوان، مفتاحًا إيحائيًّا، يَنفخُ فيه الشاعرُ روحَ الأسطرة، عبر دمجها الفنّيّ بالمراحل الزمكانيّة للثلاثيّة، التي تفتتحُ عوالمها، موزَّعةً على محورين ملتبسين ومتداخلين: يوتوبيّ وإيديولوجيّ.
تؤسّس بؤرة “نداء البحر” التوتّرَ الشعريّ عبر انطوائها على قوّة المُتخيَّل الذي يمثّلُه هذا النداء، في وصفه نداءَ الحضارة المفقودة في المشرق. ولذلك يأتي البحرُ نقيضًا للجفاف والعُقم الحضاريّ الراهن، ولتمثّلَ الاستجابةُ لنداء البحر الرغبةَ في الخلاص من الواقع المشرقيّ المظلم.
تأتي أوّلُ استجابةٍ لهذا النداء عبر قصيدة “الدُّعاء،” وهي القصيدة الأولى من ثلاثيّة “نداء البحر،” تعويذةً حتميّةً لاستدراج الخلاص، بالاتّكاء على البعد التمّوزيّ، الذي احتلّ حيّزًا واسعًا في شعر الحداثة العربيّة، رمزًا لانبعاث الخصب. وهو ما يرمز إليه فعلُ “إدارة الوجوه” في مطلع القصيدة الأولى في الثلاثيّة:
“وأدَرْنا وجوهَنا. كانتِ الشمسُ
غُبارًا على السنابكِ، والأفقُ
شراعًا مُحطّمًا؛ كان تمّوزُ
جراحًا على العيون، وعيسى
سورةً في الكتاب.”
يذكِّر حضورُ عيسى في هذا المطْلع بالعمق المسيحيّ المكوِّن لبنية الشاعر، العقائديّةِ والشعريّة، ويَعضد الآليّةَ التي نهض عليها الدعاءُ. ذلك أنّ الدعاءَ يكون عادةً من الأدنى إلى الأعلى، من الإنسان إلى الإله؛ رسالةً تُبيِّن حاجةَ البشر الضعفاء إلى تدخّل الآلهة. والشاعر هنا يوظّف دعاءَه ليجذّر الحاجةَ المشرقيّة إلى “مخلّصٍ” ما. ولهذا نجده يقول:
“هذه الأرضُ
مواتًا أمسَتْ، وأمسَتْ عروقًا
من حديدٍ: أنَّى تلفّتَّ منها
غربة بابل، وتلك السبايا
رضيَتْ أن تظلّ تركعُ للعجلِ
وتُحني رقابَها للخطايا،
آهِ تُحْني رقابَها للخطايا،
والصدى ما يزالُ يرجعُ، يمتَدُّ
(اصلبوه، اصلبوه!).”
كما يقول أيضًا، مشيرًا إلى المُصاب الجلل الذي حلّ بصوت الألوهة المُغيّبة عنّا:
“ليتَ ذاك النهارَ لم يكُ؛ اُنظُرْ
كيف غارت جباهُنا، كيف جفَّتْ
في شرايينِنا الدماءُ، وكيف
انبَحَّ فينا صوتُ الألوهة؛ اُنظُر
هو ذا الدربُ مُوحِشٌ، ورحابُ
الدارِ قفرٌ، والشطُّ مَضجَعُ رملٍ
هجرتْهُ الأمواج.”
وعلى هذا النحو، يرتبطُ الظلامُ الحضاريُّ العارم لدى الخال بغياب الإله ــــ المخلِّص. ولا يجد مناصًا من أن تكون حركيّةُ الخلاص قادمةً من السماء، وهابطةً إلى الأرض، كي تضخَّ في الواقع المرير دماءً جديدةً:
“أيّها البحر، يا ذراعًا مَدَدناها
إلى الله، رُدَّنا لكَ، دَعْنا
نستردُّ الحياةَ من نورِ عينيك
ودَعنا نعود، نُرخي مع الرّيح
شراعاتِنا، نروحُ ونغدو
حاملينَ السماءَ للأرضِ دمعًا
ودماءً جديدة.”
لعلّ عمليّة التقليب التأويليّ لحضور البحر تقود إلى فهمه من زاوية ارتباطه بالانفتاح الحضاريّ على الآخر من جانبٍ أوّل، وبكونه حاملًا لروح الإله ــــ المُخلّص من جانبٍ ثانٍ. ولذلك يتداخل الدعاءُ والابتهال ويتموّه؛ فيبدو كأنّ الشاعرَ يؤلّهُ البحرَ نفسَه، أو كأنّ البحرَ يتماهى مع الإله ليكونَ الضامنَ الوحيدَ لبلوغ الخلاص:
“يا نفسُ بُوحي
بالذي صار، مزّقي الحُجُبَ السودَ،
أطلّي على الجديدِ وثوري
يفتح الشاطئُ الخلاصُ ذراعيْهِ
وتعلو على مداهُ السفينُ.”
ويختتمُ الشاعر قصيدةَ “الدعاء” قائلًا:
“مَن يُعيدُ الرجاءَ غيرُكَ يا بحرُ،
دعوناكَ فاستجِبْ لدُعانا.”
***
تلي القصيدةَ الأولى في الثلاثيّة قصيدةُ “السفَر.” فبعد أن يستكملَ الخال عُدّتَه الروحيّةَ اللازمة لضمان رحلة الانبعاث الحضاريّ، تنطلق هذه الرحلةُ نحو الغاية المرجوّة؛ فالمسافرون يُخلّفون شاطئَ التخلّف والخنوع وراءهم، ويصعدون المراكبَ مُصرّين على بلوغ شواطئ الحضارة الجديدة:
“وفي النهار نهبط المرافئَ الأمانَ
والمراكبَ الناشرةَ الشراعَ للسفَرْ.
نهتفُ يا، يا بحرَنا الحبيب، يا
القريبُ كالجفونِ من عيونِنا
نجيءُ وحدنا؛
رفاقُنا وراءَ تلكُم الجبالِ آثَروا
البقاءَ في سُباتهم ونحن نُؤْثرُ السفَرْ.
أخبَرنا الرعاة ههُنا
عن جزُرٍ هناكَ تعشقُ الخطَرْ
وتكرهُ القعودَ والحذَرْ،
عن جزُرٍ تُصارِعُ القدَرْ
وتزرعُ الأضراسَ في القفارِ
مُدنًا، حُروفَ نورٍ تكتبُ السيَرْ
وتملأ العيونَ بالنظَرْ.
بها، بمثلِ لونِها العجيبِ، يحلمُ
الكبارُ في الصغَرْ.”
وبهذا الشكل تبدأُ رحلةُ الإبحار في سَفرٍ قاسٍ ينطوي على اقتحام المصاعبِ، والنأيِ بالنفسِ عن القعود والجمود والحذر. ويبدو أنّ الشاعر يتسلّل إلى جنّته التمّوزيّة الخصبة عبرَ الاتّكاء على محوريْن: الإيمانِ بالأصل الأسطوريّ الحضاريّ السوريّ، والاعتقادِ بتداخل الأصل السوريّ مع الجذر الإغريقيّ للحضارة الغربيّة. فالشاعر هنا يُنشئ حلمَ النهوض المشرقيّ الجديد على الانفتاح الحضاريّ القديم بين ضفّتي المتوسط؛ وهو الأمر الذي يعود في أصوله النظريّة إلى انتماء الخال إلى الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ، وإلى انغماسهِ في مفهوم الحداثة، مستفيدًا بعمقٍ ممّا طرحهُ أنطون سعادة في كتابه الشهير، الصراع الفكريّ في الأدب السوريّ. وهذا ما يتجلّى في الاستجابة لنداء البحر عبر قصيدة “السفَر،” التي تنبسط حركيّتُها من الشرق إلى الغرب، وتحتفي بالروح الأسطوريّة السوريّة القديمة بوصفها أصلَ العودة الحضاريّة بعد أن تستعيد وجهَها المتوسّطيَّ اللائقَ:
“وقبلَما نهمُّ بالرحيلِ نذبحُ الخرافَ
واحدًا لعشتروتَ، واحدًا لأدونيسَ،
واحدًا لبعلَ، ثمّ نرفعُ المراسيَ
الحديدَ من قرارة البحرْ،
ونبدأُ السفَرْ:
هلّلويا.
هلّلويا.
وفي هنيهةٍ تغيبُ عن عيونِنا
الجبالُ، والمرافئُ الأمانُ، والمرابعُ
المليئةُ اليديْنِ بالزهَرْ:
هلّلويا.
هلّلويا.
هلّلويا.
ونبدأُ السفَرْ
وسيرةَ الرجوعِ والصراعِ والظفَرْ.”
***
لعلّ الانطلاقَ من قفلة قصيدته الثانية، في انطوائها على فكرة الرجوع، يمهّد للحديث عن نكوص في المرجعيّة الفكريّة اليوتوبيّة لدى الشاعر، أكثر ممّا يمهّد للحديث عن فكرٍ تحرّريّ تقدّميّ. وهذه المسألة تتّضحُ في قصيدته الثالثة والأخيرة، “العودة”؛ ففي هذه القصيدة يتواشجُ البعدُ الإيديولوجيُّ السوريّ القوميّ الاجتماعيّ مع الارتماء في أحضان مركزيّة الغرب، ارتماءً قائمًا على إخصاء الذات والشعور الفادِح بالدونيّة. والمقطع الشعريّ الآتي يكشف عمّا نرمي إليه:
“غدًا يعودُ سيّدي،
يعودُ، يا هلا!
من المجاهلِ الوراءَ قبرصَ الحبيبةِ،
الوراءَ قرطاجنّةٍ يعودُ لي:
جبينُهُ العريقُ وجهُ جبَل،
وزرقةُ الخضَمّ، عمقُهُ السحيقُ
في عيونهِ ــــ يعودُ لي
مُحمّلًا بالذهَب،
بفضّةٍ تُصاغُ للهياكل
الرّخامُ ههنا مَجامِرًا،
للبطلِ الإله مقْبضًا لِسيفهِ؛
مُحمّلًا يعودُ سيّدي
بالعاج صولجانَ ملكٍ، سريرَهُ،
بالجوهَرِ الغريب خاتمًا له،
فرائِدًا لتاجه؛
مُحمَّلًا يعودُ سيّدي
بالشوقِ لي، والأمل
(…)
من المَجاهلِ الوراءَ قبرصَ،
الوراءَ قرطاجنّةٍ يعودُ لي
مُكلّلًا بالظفرِ.”
إنّ يوتوبيا الانبعاث التمّوزيّ الحضاريّ تتعرّضُ هنا إلى عمليّة إخصاءٍ إيديولوجيّ. فهي تتأسّس أوّلًا على إقصاء العمق الحضاريّ العربيّ عن فكرة الانبعاث؛ وتتأسّسُ، ثانيًا، على إجراء مطابقة ثقافيّة بين العروبة والإسلام. فها هو ذا يقول في قصيدتهِ “الدُّعاء”:
“كُلّ الجراحاتِ يا بحرُ
حَبالى، ونحنُ مهدٌ عريقٌ
للولادات: أيُّ، أيُّ إلهٍ
ما رأى النورَ بيننا، ما تربّى
كيف يحيا، يشقى، يموت.”
فـ”الولاداتُ” العريقةُ هنا هي حضاراتُ المشرق القديم قبل الإسلام، أو قبل العروبة ــــ الإسلاميّة. ولذلكَ يغدو البحرُ (الحضارة) نقيضًا “لـلرمال” أو “الصحراء” (غِياب الحضارة). وهذا مضمون قوله الآتي:
“يا عجوزَ
الدهرِ قُصّي، قُصّي حكاياتِ أمسٍ
ما طوَتها كفُّ الرمالِ الضريرة:
ألفُ جيلٍ يردّ في ألفِ جيلٍ
ردّةَ الموجِ في المياهِ الأسيره”.
ويقولُ أيضًا في قصيدة “السفَر”:
“يا أنتِ يا مَراكبُ،
جئنا إليكِ وحدَنا،
رفاقُنا الهُناكَ في الرمالِ آثَروا
البقاءَ تحتَ رحمةِ الهَجيرِ والنقيقِ والضجَرْ
ونحن نُؤثرُ السفَرْ.”
وهكذا، تبدو “العودةُ” الحضاريّة، لدى يوسف الخال، نمطًا من الاغتراب، أو نوعًا من أزمة الهويّة القائمة على تبطين اليوتوبيا بإيديولوجيا تَقْطع مع المستوى الحضاريّ العربيّ، من بوّابة واقعهِ المزري:
ــــ فـ”الرمال الضريرة” ليست سوى رمز للبداوة العربيّة المتخلّفة في خلفيّة الشاعر الثقافيّة الإيديولوجيّة.
ــــ و”الرفاقُ” الذين “آثروا البقاءَ” في حياة الرمال، “تحت رحمةِ الهجيرِ والنقيقِ والضجَر،” ليسوا سوى النخَب العربيّة المُتمسّكة بالهويّة العربيّة.
ــــ أمّا “العودة” فهي هُروبٌ من الانتماء العربيّ، وشعورٌ بالغٌ بالدونيّة، والتحاقٌ واهمٌ بحضارة الغرب من مدخل حضارات البحر المتوسِّط.
وبناءً على هذا المنحى، فإنّ أزمةَ الهويّة التي يعانيها الخال، شأن شعراء كثيرين من شعراء الحداثة العربيّة في تلكَ المرحلة، تتّصل أوّلًا وأخيرًا بعقدة النقص الحضاريّة. ولو أنّ تمّوزيّته أسّسَت الانبعاثَ الحضاريّ عبر ربط الأصل الأسطوريّ السوريّ ــــ المتداخل أصلًا مع ثقافات المحيط المشرقيّ العربيّ القديم وحضاراتِ المتوسّط ــــ بالثقافة العربيّة (المسيحيّة والإسلاميّة)، لكان لنا حكمٌ آخر.
***
أخيرًا، فإنّه من الإنصاف أن نعتبر الشاعرَ ابنَ عصره. فالخال، مثل كثيرين غيره، كان ضحيّةً للاستشراق من ناحيةٍ، ولمحدوديّة الاكتشافات الآثاريّة التاريخيّة في تلك الحقبة من ناحية ثانية، إذ سادَ فهمٌ ضيّقٌ لتاريخ سوريّة الحضاريّ القديم. وهو الأمر الذي بدأ يتغيّر تغيّرًا واسعًا منذ تسعينيّات القرن الماضي، وبدأ عددٌ من الباحثين الغربيّين، قبل العرب، يُعيدون قراءة الوجود العربيّ القديم في سوريّة منذ ما قبل المسيحيّة، وقراءةَ صِلته المتشابكة بالوجود العربيّ في شبه الجزيرة العربيّة.
________________
*شاعر وناقد سوري