لماذا “الذباب والزمرد”؟ قراءة في رواية الروائي عبد الكريم العبيدي
نوفمبر 12, 2017
خاص- ثقافات
*خلود البدري
النقد قراءة عميقة، أو هو “قراءة جانبية” ) تكتشف في العمل معقولا معينا. إنه في هذا، والحق يقال، يفكك تأويلا ويشارك فيه ……. إن “المعنى الذي يعطيه النقد للعمل، وله الحق في ذلك، ليس في نهاية الأمر سوى إزهار للرموز التي تصنع العمل” على حد وصف رولان بارت. هناك عدة خيوط حاك الكاتب من خلالها هذه الرواية. وهناك عدة شخصيات قد حركها فيها. فالرواية تتحدث عن حقبة من الزمن الذي مر به العراق حيث تقع الأحداث في مدينة عراقية شهدت حربا استمرت لسنوات عديدة، إنها مدينة البصرة. افتتح الكاتب الرواية بزراعة بذور الورد من القرنفل والنرجس والكاردينيا والجوري والقديفة والجعفري والرازقي ودم العاشق .. شممنا روائح الورد لكننا بعد عدة صفحات من الرواية شممنا احتراق تلك الورود! كيف؟ لنرى: بأسلوب شيق أدخلنا الكاتب لزمن الحصار الذي مر بالعراق فهو قد رصد بعدستة الروائية حالات عدة: فالأستاذ الذي يقوم بالبيع في سوق العتيق والمواد المستعملة والذي يفترش الأرض مع غيره ليبحث عن قوت يومه هو وعائلته فما عادت الوظيفة التي يعمل بها تكفيه معيشة يومه. الضياع الذي يعيشه شباب المدينة اتخاذهم لمقبرة اليهود لقضاء أمسيات ضائعة كأيامهم. المعتقل والتعذيب وعملية إعدام مرعبة شهدها يوم عصيب ،حالة الحب التي سرعان ما تبددت مثل ضياع بطلها وانتحاره في نهاية الأمر. يصف الروائي حالة الضياع في إحدى مقاطع الرواية قائلا: “وها أنا الآن يا أزيريه في أتون الحصار أعاصر السموم واليورانيوم والسرطانات والتشوهات الخلقية وأشهر هجرة إلى بلاد المهجر ،أنا الآن ابن مفردات الحصة التموينية الشحيحة ودقيقها الأسود المخلوط بنوى التمر ،ابن القحط والاحتضار والقليل من رائحة التمرد يسعفني فعلا أن أضع قبضتي الواهنتين في جيبيّ المثقوبين ،وأن أسير مثل متشردي الأفلام السينمائية، أركل بحذائي علبة فارغة أو حجرا صغيرا في أي شارع أسلكه وأنا أتسكع في كل نهار بحثا عن فرصة عمل مستحيلة ،أو وجه ضيعته منذ أعوام ،أو سكرة مجانية تعيد لي توازني المؤقت في المساءات الكئيبة . أنا “خطية ” يا أزيريه مزقتني الحروب والسواتر وعيون القتلى لم تفلح أية إجازة بلهاء في ترقيع ثقوبي ،ولم يفتح لي تسرحي المكرر من الجيش أية نافذة في تلك الأسوار الشاهقة ،كنت وما زلت أعبر من دمعة إلى غصة ومن شهقة إلى أسى على مدى أكثر من عقد دون أن يهدأ ذلك الأنين الممطوط في دمي ، كوارثي مثل كوارث وطني ،تعددت ونمت ،صارت نكهتي وهواي، وعبقا مشؤوما لخارطة وطن” ……….. ص8 لم يكتف الروائي عبد الكريم العبيدي بفترة الحصار والضياع والجوع والمأساة التي حصدت الكثير من العوائل المتعسرة بل أخذتنا خيوط روايته للحقبة السياسية والمآسي التي تعرض لها الأبرياء ورحلة الألم والعذاب والعوائل المنكوبة بأبنائها .. “حيث احترقت باقات من الورد” في زمن ليس ككل الأزمان. الكاتب هنا لم يبتعد كثيرا عما مررنا به.. نحن الذين عشنا هذه الحقبة من الزمن . الرواية رغم أنها تعتبر رواية قصيرة لكنها أخذت مني عدة أيام لإكمال قراءتها ليس لأنها لم تشدني للقراءة .. لا .. بل لأن كل حرف من حروفها سيجعلك تتألم حتى أنك تبحث عن مهرب لتتنفس بعيدا عن كل هذا الألم. الألم .. الذي مررنا به نحن ..نعم نحن مررنا بكل هذا الألم .. لقد أعادني الكاتب إلى فترة من الزمن حاولت بشتى الوسائل أن أتناساها وها هو بروايته تلك جعلني أعيش مرة أخرى مع كل دفقة ألم لبطل من أبطاله يعتصرني الألم معه من جديد ..
في احد المقاطع يصف السارد شخصية محورية في الرواية وهي “أوسم “الشخصية الحالمة الضحية العابرة إلى وهم الأنتينوستالجيا التي تعاني منها الذي من أشهر أعراضه عدم حب الوطن أو مسقط الرأس …. وكنت أراه طيلة ضياعنا في الحروب كمن قدم من أقصى الحياة إلى أقصى الموت ،طردته الماسحات المطاطية إلى تلك المنطقة الضيقة والمغبرة …..ص10 لم أقرأ رواية “جوستين” كاملة لقد قرأت فصلا منها كانت تحمل من الألم الشيء الكثير ، نعم وبهذه الرواية ألم كبير وكثير. استوقفت أمام أسم الرواية الذباب والزمرد لكنني عند غور أسبارها عرفت لماذا الذباب والزمرد ! يقول الكاتب: “لا ذباب قرب بلورة الزمرد ،وإذا رأت الذبابة هذا الحجر الغامض في أي مكان لا تدخل فيه ،وإذا رأته الحية تفجرت عيناها ،وهو مفرح ،مذهب للهم والحزن والكسل والصرع ،ولابسه لا يتنكد أبدا ،وهو يبطل السحر وهذا هو ما جعل إيزيس تتحلى به وحده ،ثم اختاره النيرونيون عينا ملوكية خاصة بهم ليروا عبيدهم ،ليرانا ،فنحن وعبيد نيرون من شجرة واحدة . ذباب ذليل يصنع من نشوة فائقة من هلاكه المتعاقب خلف أحجار الزمرد ،ليستمتع بها آلاف النيرونات المدمنة على مص دمنا الأخضر المزرق ،لون الأباطرة الذي لا يجيد صنعه الا زمردهم ” ص38 في هذه الرواية كل فصل من فصولها حكاية ،حكاية من الضياع .. حكاية من فقدان الأمل .. حكاية من البكاء حد الضحك .. والضحك حد البكاء. رواية أجاد فيها الكاتب توثيق حقبة مهمة وخطيرة من تاريخ العراق الحديث .. لكنه لم يغفل رغم تدوينه أحداثا حقيقية وجرى الكثير منها على أرض الواقع .. لم ينس حرفته الروائية والأسلوب السردي المميز واللغة السلسة .. ووصفه للبيئة البصرية التي تحضر بشدة وبوضوح ، كيف لا والكاتب أبن مدينته .. “الذباب والزمرد” رواية تستحق منا الوقوف عندها والتمعن بها كثيرا.