خاص- ثقافات
*إبراهيم مشارة
كانت تكاد تتعثر في مشيتها، وهي تخرج من عند الطبيب النفسي بوصفة فيها أنواع المهدئات والمنومات ناحلة شاحبة شاردة لم تنم منذ أيام جربت مشروب النعناع ، قرأت القرآن في ليال ومع ذلك لم يغمض لها جفن ، قبل اليوم زارت شيخا للرقية قرأ عليها وأعطاها ماء تفل فيه أخذ منها مبلغا شربت الماء ولكنها لم تنم ولم تهدأ صداع ، يكاد منتصف الجمجمة ينفجر وتيهان وقلق وزوغان رؤيا تحس أن خلاياها منتفضة تغلي ورغبة في الانصراف والانزواء.
كانت قد تحررت من كل شيء إلا من بطاقة هويتها لضرورة الكشف الطبي حتى الهاتف الذي كان لا يفارقها في الليل والنهار، وتحت الوسادة وفي المطبخ والصالون تحررت منه لأول مرة!
لما استلمت الهاتف الجديد في عيد ميلادها الأربعين فرحت به منذ مدة وهي تلح على زوجها أن يشتري لها هاتفا ذكيا مثل بقية النساء ، الحياة تعقدت وتطورت هكذا أقنعت نفسها وزوجها ثم لم يحرمها وهو يتمتع به؟
في الحمام تعرفت على تيتا امرأة نصحتها بفتح حساب تدردش ، ترفه عن نفسها ومن هناك ولجت الفضاء الأزرق .
مشاكل الحياة كثيرة معقدة لا بد للإنسان أن يتواصل مع الآخرين يدردش يبوح، يتبادل الأفكار هذا عصر الدردشة هكذا قالت لنفسها وقالت لها الأخريات. وبحصولها على الهدية أحست أنها امراة عصرية حقا.
من مدة صارت تشكو من برودة في حياتها رتابة ملل كل شيئ يجري على نمط واحد حتى حميمياتها فقدت نكهتها إنها مثل بطيخ الشتاء.
آه كم هم أنانيون أولئك الرجال يتجاهلون أن المرأة مثل النبتة لا بد أن تتعهد تسقى تشذب أغصانها وإلا أدركها اليباس !فكرة مرت على خاطرها.
وتحسست أنوثتها كل شيء فيها يحتاج إلى تعهد، ثناء، كلام عسلي لتحس به
تحسست صدرها مرة أخرى بدا كحبة تين يابسة
قالت في نفسها لم يدرك قيمتي إلا هو
حين تعرفت عليه في أوائل الليالي الزرقاء بدا شخصا خجولا انطوائيا كتوما في الثلاثين بالكاد
ولكن بالرغم من الرغبة المتضادة عند كليهما متعة المغامرة قربت بينهما هي تبحث عن ثناء واهتمام ووله وهو يبحث عن ما وراء الاهتمام.
منذ أن شاهد فيلم طروادة حلم بدور آخيل أن يحاصر طروادة ،يقتحمها يشعل الحرائق فيها.أعجبته فكرة الحصان.
تساءل هل هو حقا في مثل بطولة ونبل آخيل؟
في البداية كان يتحادثان لماما في النهار ولكن شغلها والمضايقة جعلها ترجئ ذلك إلى الليل طمأنته أنها متفرغة ليلا وأزالت عجبه زوجها ينام باكرا تارة ويقضي أعمالا مكتبية ليلا تارة أخرى.
كان كلاما عاما عن كل شيء التزم كل واحد أن يقدم الصورة المثالية رقيق، محب للحيوانات، محب للخير محب للزهور وحديث عن الطقس ، مشاكل الحياة، هموم اليوم ثم تخصص ثم انتهى غراما ألفته وألفها حين تأتيها رسالة منه أو مكالمة تنتفض كل خلية في جسدها يخفق قلبها يرتعش جسمها تتسلل إلى الصالون إلى المطبخ إلى الدش لتقرأ وتعيد القراءة وتستغرق في الخيال نشوة لا يحس بها إلا من هو في حالة هيامها وتقرأ كرة أخرى، كثيرا ما تستلقي على الكنبة بعد الكلام وتسمع مداح القمر، وتهتف في أعماقها تحيا الرومانسية !
لا تنام حتى تسمع كلامه الرقيق كتابة أو صوتا كأنه الهمس، وحتى تطمئن صارت تختلي بنفسها في الصالون .
سألها مرة : أين زوجك؟
أجابت : يبحث عما تبحث عنه أنت
تعودا على بعضهما وصارت تنتظر الليل انتظار الملهوف يبدأ الكلام عاطفيا حارا وينتهي كلاما حميميا حميميا جدا ينتشي كلاهما تنتشي تصرخ ثم تجري إلى الدش تسعل تتظاهر بالكحة .
في الصباح تأخذ دشا تعجب زوجها من ذلك ولكن لم يسأل، لم يهتم
حين تلوذ بالفراش تجد ه يغط في نومه تحدجه بنظرة قاسية صارت تراه كائنا ترابيا مغبرا كتلة خامدة بلا لسان بلا أنف بلا مسامات بلا روح غمغمت إنه يدخر حواسه لغيري، أحيانا حفظا لماء الوجه يندغم الجسد في الجسد أو ينهار الجدار على الجدارتغمض عينيها تتخيله هو وكان زوجها يتخيل الأخرى وينام هو بينما تستعيد هي ما تراه وصال الروح دخلة القلب زفاف الخاطر العاشق تستعيد الكلمات التي يقولها وتهمس إنها ليست كالكلمات، منذ أن تعرفت عليه وخاضا في كلام حميمي أحست أن الارض أزهرت والأفنان برعمت والزمن استعاد شبابه.
قالت في نفسها والله إنني لفتاة في العشرين وتحسست صدرها لم يعد حبة تين عجفاء !
حين يلوذ آخيل بفراشه يلقي بجسده المنهك المحترق على فراشه في سنه لم يعرف فتاة خجله وبطالته وإملاقه أقصته من الصحبة الحقيقية كم مرة قال في نفسه بسخرية:
إن درجة التحضر في مجتمع تقاس بشيوع اللحم إلى حد التخمة !
يبدو له الفراش كحية رقطاء تصئ تلفحه نيراها يتأوه يبدو السرير فضاء موحشا هوة بلا قرار يتقلب يتأوه يكاد الليل أن يتصرم ولم ينم يستعيد الكلام التأوهات وحتى الصور يتأملها طروادة مزهرة، نوارها على أسوارها رايات عزها مركوزة على هاماتها ومع ذلك لم يقتحمها قال في نفسه هذا الحصان الافتراضي متى أدخل به ؟
ولكي ينام يريح أعصابه يتأمل الصور مليا يقرأ الكلام المكتوب والحميمي جدا يخفق قلبه تزداد شهقاته تنتفض فيه رجولته يتألم وأخيرا يستعين بيده طالما أسعفته يده تذكر بسخرية تلك الكلمة التي سمعها ذات مرة أن الإنسان تحضر لما استعمل اليد فالقرد بقي قردا لأنه لم يحسن استعمال يده !
حين سمعها مرة زوجها تتحدث حديثا أوقع في نفسه الشك قرر أن يراقبها وبيسر وجد صورة لفتاها ثم كلاما حميميا :
– خائنة
– وأنت لست خائنا؟
بهت حين واجهته بحقيقته ولكن الرجولة فيه انتفضت :
– للرجل أن يفعل مايريد وليس للمرأة ذلك هكذا قضت سنة الحياة
في قمة غضبه حطم هاتفها بقرة إبليس هذه لا بد لها من تأديب من حصار من مراقبة وعقاب لفتاها هكذا أقنع نفسه وانتصر لرجولته.
مرت أيام على الحصار بدت الدنيا سوداء موحشة والوقت يمر رتيبا ثقيلا عقارب الساعة تسير على عكاز كأنها شيخ ،سرحت بخاطرها في تلك الليالي الزرقاء حين يبدأ الكلام تحية وسلاما وينتهي غراما وهياما حد الإشباع والاستحمام تذكرت مرة كان القلب يخفق والروح منتشية كيف أن ولدها المحموم نسته في غمرة الوصال الافتراضي ارتفعت حرارته تعدت الأربعين درجة أغمي عليه حين هرعت إليه باكية منتحبة كانت عينه اليسرى انحرفت من أجل ذلك كلما نظرت إليه تذكرت تلك الليلة وكيف صار ولدها أحول . سحقا للحب قالت !
في ذلك المساء كان الشوق قد اشتد بها همست لنفسها يجب أن أذهب مهما كانت الأحوال ارتدت حجابها وخرجت إلى السيبر حين همت بالدخول أحست بالخجل أطرقت أمام صاحب المقهى تظاهرت بشغل مهم خجلت مرة أخرى وهي تأخذ مقعدا إلى جوار فتى يدردش يقول كلاما كالذي تعودت عليه سألت نفسها مالذي أتى بها؟
حين رأت صورته المباشرة خفق القلب كرة أخرى ارتعش البدن انتشى البال :
– حبيبي
لكنه قرر أن يصدها بعد أن تعرف على أخرى مالذي يجمعه بها إنها تصر على وصال الروح فقط ؟ خيط لم تجرؤ على قطعه قال في نفسه: يبدو أن هذا الفضاء مكمل عاطفي كالمكمل الغذائي وهكذا كل سيدة تتزوج رجلا جسديا وآخر افتراضيا والعكس صحيح ! وسنبقى نحن العزاب في جمهورية الحرمان الضحايا فالمرأة سلعة طبقية .
– أشكرك على اللحظات الجميلة التي منحتني إياها ولو أنني تعذبت أكثر مما استمتعت ومن أجل ذلك قررت أن أنسحب من حياتك وإلى الأبد وداعا
كانت تلك آخر كلماته، وتذكر حكاية القرد الذي بقي قردا لأنه لم يحسن استعمال يده !
أجفل قلبها ما كانت تظن أن ينتهي ذلك في لمح البصر
– أكان يلعب؟
لقد ملأ حياتي وأخد قلبي ولأجل ذلك لا أقدر على نسيانه صحيح لم أعطه مايريد ولكنني أعطيته قلبي إنني كائن بلا روح .
خرجت كسيرة أسيفة مطرقة كما دخلت ،تحاشت النظرات وفي طريقها تساءلت أيكون ذلك عبثا تمثيلا لقد أخذ قلبها ولكن لا تستطيع أن تسلوه كلامه آهاته تحياته كان ذلك كله يقع من نفسها موقع الإعجاب ، والانتشاء .
ترجته أن يبقى على صلة معها للزوج الجسد وله القلب لمح لها من قبل أن القلب قاطرة والجسد عربة الروح شذا والأكمام جسد مالوردة بلا رائحة؟ وأين الشذا لولا الأكمام؟
صراع خاضته أتفتح االأسوار أم تصمد في المقاومة والتمنع تسأل الله الثبات التوفيق أن ينعم عليها بالنسيان ولكن الله أسلمها إلى إرادتها لتحل أنشوطتها بيدها.
من أجل ذلك صارت لا تنام لا تأكل تتيه ولما تفاقمت الحالة زارت الطبيب النفسي الذي أثقلها بحمولة من مختلف أدوية القلق الأرق وحتى الاكتئاب !
أثقلها الدواء وأرجعها بدينة نوعا ما مع قلة الاكتراث بولدها.
تذكرت تيتا تلك المراة في الحمام التي شجعتها على فتح حساب للدردشة واستكمال النقص العاطفي بمكمل افتراضي ولكنها وقعت فريسة للفصام،للاكتئاب ، للقلق لفقد حتى الرغبة فالدواء بهضها.
وأخيرا قررت أن تخرج إلى محيط المدينة حيث مزرعة أهلها وحيدة تتأمل تفكر، تتنفس، تبكي تصرخ، بركان ولابد له من الثوران لعل في سيلان الحمم ،النقاهة النفسية، نعمة النسيان.
كانت تمشي ذاهلة تصطدم بالحجارة تكاد الأشواك تمزق ثوبها أحست ببعض الراحة تأملت الافق الواسع أخذت نفسا طويلا شعرت ببعض الانتعاش من بعيد تراءت لها المدينة رمادية تحت سحاب جهام كانت أسراب الجراد تملأ الفضاء المحيط بالمدينة في طريقها إلى الخلاء كانت ترى الصبايا والفتيات والكهول كل مشغول بهاتفه يدردش ، يتامل الصور يتواصل مع الآخرين والكل منهمك في عالمه الجديد تعجبت بما تبقى فيها من عقل لم ينزل مطر والأرض جفت ماذا يأكل الجراد؟ اقتربت من بئر مهجورة يكاد يتهدم السور الحجري المحيط بها وضعت يدها على الحافة نظرت إلى أسفل كانت بلا ماء جوانبها رطبة سوداء فكرت في النزول عبر السلم الحديدي الصدئ والمكوث وقتا والبكاء بدموع حارة ولكنها أحجمت لا تقوى على الصعود نظرت بثبات إلى قاع البئر الجافة وصرخت بأعلى صوتها بأعلى صوتها.