*محمد بنعزيز
أنهيتُ للتو للمرة لا أدري مشاهدة فيلم “ريشات” Quills) 2000) عن غرائز الماركيز دو ساد المسجون في الباستيل لحماية العامة من نصوصه. المثير هو البحث الذي يقدمه الفيلم عن أسرار حب الكتابة. يتقدم السيناريو على ساقين: الغواية التي تسبب الوجع للمحرومين عاطفياً وأسرار الكتابة لدى شخص مهووس بالحكي. الكاتب سعيد في سجنه وهو يلهب مشاعر القراء بنصوص شبقية. تقوم مساعدة متآمرة بتسريب الحكايات في سلة نشر الغسيل… ولهذا ثمن إيروتيكي: يبيعها الكاتب كل ورقة بقبلة. بينما الناشر يحصل على أموال طائلة بسبب شوق القراء للسرد. كانت نصوص ساد وقراؤها يُخبران عن الأجواء المتحررة قبيل الثورة الفرنسية.
تاريخياً قضى الماركيز دو ساد سبعًا وعشرين سنة سجينًا، يكتب عن الغواية ويسرب كتاباته لكشف طباع البشر.
كانت لدى الشعب – أي العامة سابقًا- صورة مثالية عن الكتاب وقد خربها ساد. لقد مجد العنف واللذة الفاجرة فأثار فضول القراء على مر العصور، بدليل أنه مات منذ مائتي سنة، لكنه ما زال يلهم بل وأثر بقوة على الفلسفة والفن المعاصر، فمن اسمه اشتق اسم التلذذ بتعذيب الغير، وهو صاحب “مدرسة الفجور” التي اقتبسها باولو بازوليني للسينما.
يحق للمجنون قول الحقيقة
في فيلم “ريشات” للمخرج فيليب كوفمان – بطولة غوفري روش كيت وينسلت – جدل حول وظيفة الواعظ والفنان. الواعظ المحتشم المتصنع ذي اللغة الخشبية والقلب المشتعل والفنان المجنون الذي يتلذذ بتعذيب عشيقاته.
ما هي الفائدة الوحيدة للمجنون؟
يستطيع قول الحقيقة للعقلاء الذين يغربلون كلامهم فيصير خشبيًا. بينما يكتم الراهب (أداء العبقري جواكيم فينيكس) شوقه حرصًا على المظاهر وهو مستعد لدفع عمره من أجل قبلة يزهد فيها الكاتب الفاجر. يحرص الراهب على طهارة السرد الذي لا يؤدي بصاحبه إلى جهنم بينما يروي ساد قصصًا ساخنة مستفزة تتحدى الملل. لذلك سجن حراس الفضيلة الكاتب. لكن ما جدوى الرقابة وحرق وسجن الكُتاب في زمن انفصلت المعلومة عن حاملها وصارت تطبع وتروج بكثافة؟
في الفيلم لمسة من بحث ميشيل فوكو عن أنواع العقاب في تاريخ الجنون. هل يكون علاج الجنون نفسيًا أم بدنيًا؟ في خضم الجدل يحرم السجان الكاتب من الريشة، يُحرم من الكتابة فيخاف من الجنون لا الموت.
الكاتب السجين يقاوم. جعل الخمر حبرًا والثوب ورقًا وعظم الدجاجة ريشة ومضى يكتب. ما كان للفيلم أن يكتسب قوته لولا غرق مخرجه فيليب كوفمان في عوالم الكتابة بدليل عودته للموضوع في فيلمه همنغواي وجيلهورن Hemingway & Gellhorn 2012. نرى جهد همنغواي للتفاهم مع حبيبته التي جسدتها المتمردة نيكول كيدمان باندفاع.
الكتابة شيء غريب
الكتابة علاج وعذاب لمن أصابه عقمها. قال نيتشه “أحب فقط ما كتبه الإنسان بدمه”. الكتابة تفريغ للرغبات. التفريغ بالكتابة أقل خطرًا مثل رسم النار بدل إشعالها. يقول شتراوس في “مدارات حزينة” “إنها شيء غريب الكتابة. إذ يبدو أن ظهورها حتّم تغيرات عميقة في شروط الوجود الإنساني” إنها ذاكرة اصطناعية تراكم المكتسبات القديمة. ولهذا أثر هائل على مختلف الأصعدة… لقد خلدت الحكايات الشفوية وطورتها. وقد طرح بول ريكور السؤال “ماذا يحدث للخطاب حين يتحول من الكلام إلى الكتابة؟” أجاب “يثبت. يصير بمنأى عن الدمار”. وهذا في صالح قراء المستقبل.
عندما نفكر في الكتابة، نستحضر القراءة فورًا، القراءة هي النصف الآخر للكتابة. ويكتسي فعل القراءة ونوعيته قيمة مهمة في فعل الكتابة. فالكاتب هو أكبر قارئ، وتمكننا القراءة من امتلاك وعي مسبق بفعل الكتابة، كما تمكننا من الوعي بأبعادها الفنية كصنعة.
لاستكمال الصورة أنتقل لفيلم القارئ The reader 2009 للمخرج ستيفان دالدري وبطولة كيت وينسلت التي حصلت عن أوسكار عن أدائها في الفيلم. يحكي الفيلم عن مراهق يمر بثلاثة عوالم رئيسية متباعدة ضفرها السيناريو في مسار واحد.
القراءة والغريزة
في المحطة الأولى يتعلم الجنس من امرأة في عمر أمه. المرأة تعلم العجب للمراهق. يتلقى المراهق في الفيلم تربية عاطفية تطبيقية. تكوي المرأة ملابسها الداخلية أمامه فيكمل خياله المشهد. هرب منها ثم رجع لأن نظرته للعالم تغيرت. يحل الإشباع المبكر مشاكل كثيرة.
في المحطة الثانية تتبدل الأولويات: تشبع الغريزة فتصير القراءة أولاً والحب ثانيًا. كانت القراءة مشتركًا بين المرأة الناضجة والمراهق، كان يمارس معها الجنس بمتعة لكن حين شرع يقرأ وصفاً لممارسة جنسية تقززت وطلبت منه أن يسكت. هناك تفسيران لرد فعلها. الأول يرفض أن يفرض القارئ تلقي ما يخالف توقعه. والثاني ترفض أن يخبرها عما تفعله هي. هذا تعرفه في السرير مع القارئ. الجنس لا يقال يمارس. بما أنه تمارس فهي تعرف أكثر مما تسمع. يقرأ المراهق ملحمة الأوديسا عن متع باريس هيلانة بحرارة تدهشه هو نفسه. لقد تغير. لا شيء ألذ من الحب والأدب في غرفة لعشر ساعات. من دون أدب يقف الكائن عند حدود الغريزة. للقراءة في السرير أبعاد أخرى، حين تُستنزف الغريزة تنزاح فتتفتح آفاق العقل.
في المحطة الثالثة نظرة موجعة على تاريخ ألمانيا بين 1958 و1995. ونظرة على ماضي امرأة تفضل السجن على عار أن يكتشف العالم أنها أميّة لذا تعاقدت من المراهق أن تريه العجب مقابل أن يقرأ لها.
نجح التعاقد وهو شائع في الأدب بين الكاتب والقارئ. فمثلا يبدأ سيرفانتيس الدون كيخوته بهذا التعاقد مع قارئه “أيها القارئ الخلي تستطيع أن تصدقني دون أن تستحلفني”. يخاطب قارئاً ضمنياً ليصدقه. وقد قسم ابن المقفع إلى طبقات في تقديمه لكليلة ودمنة قائلاً إن كتابه موجه للملوك والسّوقة، للجهّال والعارفين، للسفهاء والحكماء. يجد فيه السفهاء الهزل ويجد فيه الحكماء الحكمة.
لماذا يقسم القراء إلى طبقات؟ لأن للحكايات ظاهر وباطن.
عالم البلاغة ينفتح للنساء