لأن الرواية تروي حكاية. هذا هو الوجه الأساسي الذي لولاه لما كان لها وجود. هذا هو العامل المشترك الأعظم بين كل الروايات و كم كنت أتمنى أن لا يكون ذلك صحيحًا، وأن يكون شيئًا آخر مثل أنها نغم أو أنها كشف عن الحقيقة لا هذا الشكل البدائي. كلما أمعنا النظر في الحكاية (ولا تنس أن الحكاية لابد أن تكون حكاية)، وكلما فصلناها عن الزوائد الدسيسة التي تعيش عليها، قل إعجابنا بها، فهي كالعمود الفقري أو الدودة الشريطية: لا يمكن التحكم في بدايتها أو نهايتها، كما أنها قديمة قدم الزمن، ترجع إلى أقدم العصور الجيولوجية، وكان إنسان نياندرتال يصغي إلى الحكايات – إذا حكمنا عليه من شكل جمجمته – وكان جمهور المستمعين البدائيين عبارة عن جمهور أشعث الشعر، يفغرون أفواههم حول نار صغيرة، وقد أنهكهم التعب بعد مقاتلة الماموث أو فرس النهر، وانتظار ما سيحدث في القصة يجعلهم متيقظين دائمًا.
لا بد أن تكون الحكاية العمود الفقري في الرواية. بعضنا لا يريد معرفة شيء عنها، فنحن لا نملك إلا حب استطلاع بدائي أما مهاراتنا الأدبية الأخرى فتبدو مضحكة بعد ذلك. والحكاية – إذا أردنا تعريفها – فهي قص حوادث حسب ترتيبها الزمني، مثلما يأتي الغداء بعد الإفطار والثلاثاء بعد الاثنين والانحلال بعد الموت، وهكذا. وللحكاية ميزة واحدة: أنها تجعل المستمعين يرغبون في معرفة ما سيحدث في المستقبل.
وحين نعزل الحكاية عن الأوجه الراقية التي تكون جزءًا منها ونمسكها بطرفي الملقط وهي تتلوى دون ما نهاية – دودة الزمن العارية – فإنها ستقدم لنا مظهرًا قبيحًا لا يشرف. على أننا نتعلم منها الكثير. دعنا نبدأ بدراستها من حيث علاقتها بالحياة اليومية.
إن الحياة اليومية يغلب عليها الشعور بالزمن أيضًا. فنحن نعتقد أن حادثًا واحدًا يحدث بعد أو قبل آخر. وكثيرًا ما تكون الفكرة في عقولنا، وتنبع أكثر أحاديثنا وأفعالنا من هذه الفكرة، أقول معظم أحاديثنا وأفعالنا،لا كلها. إذ يبدو أن هناك شيئًا في الحياة بجانب الزمن؛ شيئًا يمكن تسميته في هذا المقام بـ”القيم “، ولا يمكن قياسه بالدقائق أو الساعات بل يقاس تبعًا لشدته، بحيث إننا إذا نظرنا إلى ماضينا فلن يمتد أمامنا كسطح مستو، ولكنه سيتكور بشكل قمم صغيرة تسهل رؤيتها. وحينما ننظر إلى المستقبل فإنه سيبدو كحائط أحيانًا، أو سحابة أحيانًا أخرى، أو كشمس، ولكنه لن يبدو كخريطة زمنية أبدًا. فلا الذاكرة ولا الحدس يعيران الزمن أي اهتمام، وكل الحالمين والفنانين والمحبين يتخلصون جزئيًا من طغيانه. وهو يستطيع أن يقتلهم، ولكنه لن يقدر على الاحتفاظ بانتباههم. وفي لحظة القدر نفسها حينها تجمع الساعة في البرج قوتها وتدق، قد يكونون ناظرين إلى الناحية الأخرى.
فالحياة اليومية إذاً، أيًا كانت حقيقتها، تتكون فعلاً من حياتين:
الحياة في الزمن والحياة بالقيم، وسلوكنا يخضع للاثنين. “لقد رأيتها مدى خمس دقائق فقط, لكنها كانت تستحق الرؤية”. هذه الجملة الواحدة تمثل الخضوع بنوعيه. فما تفعله الحكاية هو أنها تحكي حياة في الزمن. أما ما تفعله الرواية بأكملها فهو أنها تشمل أيضًا الحياة بالقيم، هذا إذا كانت رواية جيدة.
والامتثال للزمن في الرواية أمر لابد منه، ولا يمكن أن تُكتب الرواية بدونه.
إني أحاول أن أوضح فقط أن تلك الساعة تتحرك ولا أسمعها، وبذلك أحتفظ بشعوري بالزمن أو أفقده، أما في الرواية فالساعة دائمًا موجودة، وقد يكرم الكاتب ساعته كما حاولت إميلي برونتي في مرتفعات وذرنج أن تخبئ ساعتها، وكما قلب سترين ساعته في ترسترام شاندي.
فأساس الرواية هو الحكاية، والحكاية عبارة عن قص أحداث مرتبة في تتابع زمني.
من ذا الذي يحكي لنا حكاية ؟
إنه سير والتر سكوت طبعًا.
وسكوت روائي سنختلف بشأنه اختلافاً عنيفًا، وأنا شخصيًا لا أحفل به، بل أجد من العسير تفسير شهرته المستمرة، إذا أخرجناه من نهر الزمن وأجلسناه ليكتب في تلك الغرفة المستديرة مع باقي الروائيين فإن أهميته سوق تقل، وسنحكم بأن عقليته تافهة وأسلوبه ثقيل الظل، كما أنه لا يستطيع أن يضطلع بالبناء وقصصه خالية من التجرد الفني والعاطفة. فكيف إذًا لكاتب حُرم من الاثنين أن يخلق شخصيات تؤثر في نفوسنا تأثيرًاعميقًا ؟ وقد يكون التجرد الفني شيئًا أرستقراطيًا لا يسعى إليه الكاتب، لكن العاطفة قطعًا شيء موجود حتى في أبسط الناس.
لكنكم تذكرون كيف أن الجبال الشاهقة والوديان الشاسعة التي وصفها سكوت، والأديرة المهدمة بعناية تصرخ طالبة العاطفة، العاطفة، وكيف أنها لاتوجد فيها بتاتًا، فبالعاطفة كان يمكن أن يكون سكوت كاتبًا عظيمًا، وما كانت لتهمنا حينئذ خشونته أو تصنعه، القلب العفيف والمشاعر الرقيقة وحب الريف والذكاء هي كل ثروة سكوت، وهذه لا تكون أساسًا كافيًا للروايات العظيمة.
وترجع شهرته إلى عاملين : الأول أن الجيل القديم كان في شبابه يحب أن تقرأ له رواياته بصوت عال، فهو مرتبط بذكريات عاطفية سعيدة خاصة برحلات أو إقامة في أسكتلندا.
العامل الثاني هو أن شهرة سكوت ترتكز على أساس فعال بأنه يستطيع أن يحكي حكاية، فقد كانت لديه قدرة غريزية على أن يجعل القارئ في حالة تشوق وهو يتلاعب بحب استطلاعه.