على الشاشة مرة أخرى.. “الليدي تشاترلي” تخسر نبرتها

*احمد ثامر جهاد

بعد نحو تسعة عقود على صدور طبعتها الأولى، كتب المخرج البريطاني الشاب “جاد ميركوريو” نسخة مختصرة من رواية “عشيق الليدي تشاترلى” للروائي والشاعر ( د.هـ.لورانس 1885-1930) حافلة بالمقاطع الايروتيكية وأخرجها إذاعياً لصالح (بي بي سي) قبل أن يقدم نسخة فيلمية من الرواية ذاتها عام 2015 ويسند ادوار البطولة فيها إلى: هوليدي غرانغر وريتشارد مادن وجيمس نورتن.

الرواية التي لها تجربة مريرة مع الرقابة منذ صدورها عام 1928 والتي طاردتها تهمة الإباحية والفحش لعقود، هي أعمق بكثير من أن يتم استخدامها واجهة للنثر الايروتيكي الاستهلاكي، فهي على المستوى النقدي إيقونة كلاسيكية لفلسفة الأدب الحسي الذي أصبح في عقود لاحقة تيارا أدبيا ملهما ترك تأثيره الملحوظ على أعمال جيل من الكتاب والروائيين، بينهم(هنري ميللر واناييس نن) ليس فقط لناحية اتسام تلك الأعمال بالصراحة والجرأة غير المسبوقة في التعاطي مع موضوعة الجنس أدبيا، وإنما لأنها قدمت كشفا جوانيا للإنسان عاريا من القيود والأوهام. معظم روايات ذلك الجيل كانت -وباعتراف أصحابها أنفسهم- محاولات طموحة لم تتخلص من تأثير لورانس وبقيت أدنى من مستوى الحساسية الفنية التي قدم بها صاحب (أبناء وعشاق ونساء عاشقات) العلاقات الإنسانية بلغة صافية خالية من التصنع والهشاشة.

أفلمة الرواية

تناولت السينما في سنوات مختلفة ابرز أعمال لورانس( أبناء وعشاق، نساء عاشقات، الثعلب،الأفعى ذات الريش) مثلما قدمت رواية (عشيق الليدي تشاترلي) غير مرة من دون أن تفيها حقها، على غرار ما حصل مع روايات كثيرة من هذا النوع يزينها التشويق وتميزها الرؤية. في اغلب تلك المحاولات لم تذهب المعالجة السينمائية ابعد من التركيز على ثيمة الاشتهاء المتأجج لدى السيدة كونستانس، زوجة السير بيكفورد تشاترلي المعاق جراء إصابته في الحرب، والذي سيقودها فيما بعد لمطارحة الغرام مع حارس الغابة.

وهنا يغيب على نحو غير مألوف المغزى العميق الذي نحته لورانس في مفتتح روايته بالقول”عصرنا في جوهره تراجيدي ولذا نرفض أن نتعامل معه تراجيديا) ليطفو المسار الدرامي على السطح من دون ان تحايثه التصورات النفسية والفكرية المسوغة لرغبة العشيقين في الإنعتاق من قيود المجتمع والأخلاق والطبقة. انعتاق يستدعي ولادة وعي جديد بوسعه استيعاب عبارة (وعي الدم) التي نحتها لورانس، ليذهب إلى ما هو ابعد من مجرد الظن ان توافقا عاطفيا يمكن له ان ينشأ بين سيدة ارستقراطية وعامل أجير سيكون ثمرة نزوة عابرة.

يكتب اوليفر أو جون توماس لعشيقته”الحيازة سم والحرمان جوع وكلاهما موت”. في الغضون ينعى لورانس نقاء الغابة التي تلاشى نسيمها وتلوثت أشجارها الباسقة وياسمينها بفعل قدوم حضارة الفحم والحديد. يدرك لورانس بحسه الرؤيوي مغزى ارتباط الجنس بالموت. فانكلترا المسكونة بنذر الحرب والخراب الروحي كانت ممثلة كلها في روايته هذه التي تعلن مخاوفها من ضياع الآمال في مستقبل تكبله المصالح المادية دون غيرها.

لقد غيّرت هذه الرواية قراءها بقدر ما غيّرت كاتبها وهو يطيح بأخلاقيات الكتابة في مجتمع تسوده الحشمة ويحكمه التزمت.

 ومثلما أسيئ التعامل مع الرواية جراء التبضيع التجاري لها من قبل دور النشر، فان اغلب النسخ السينمائية تعاملت بسطحية مع هذا العمل الروائي حينما ركزت على الجانب الأباحي الذي لم يعد يمثل شيئا فريدا، في سياق الثقافة الغربية وفورة حرياتها الفردية، فيما تقتضي أية قراءة جديدة لعمل لورانس البحث عن معنى آخر، خلاق وراهن،ربما التقطته الروائية (دوريس ليسنغ) حينما اعتبرت “عشيق الليدي تشاترلي” أهم رواية مناهضة للحرب كتبت حتى الآن.. قصيدة مؤسية عن شجاعة عاشقين يقفان ضد العالم.

***

في عدد غير قليل من الاقتباسات السينمائية للأعمال الأدبية جرى ابتسار القيمة الفنية لتلك الأعمال (الكلاسيكية) والاكتفاء بالتمسك بمسار درامي مشحون عاطفيا يثير مشاعر المتلقي، وتغيب في ثناياه ملامح الشخصيات لتغدو أزماتها اقل تعقيدا مما هي عليه واقعا، فيما تظهر أفعالها مرئية على السطح بشكل منمط. قد يجد البعض في قدرة الفيلم على التحريف والاستبدال براعة أسلوبية تستمد قوتها من خيال الكاتب إذا ما كانت الغاية مقتصرة على جعل الجمهور ينتشي بالهراء الموصوف كخيال سينمائي.

مخرجون كبار من طراز (ستانلي كوبريك) يعون تماما مناحي الاقتراب والافتراق بين الرواية والفيلم سواء في بنيتهما، لغتهما، أسلوبهما وجمالياتهما الخاصة، تعاملوا مع النص الروائي بشكل مغاير يقارب إعادة إنتاجه بالصورة، بشكل يعكس إلى حد كبير فهمهم الخاص لحدود النص وممكناته السردية، وتاليا فرادة رؤيتهم السينمائية لتلك الأعمال. المفاضلة بين الفنين ليست الأساس هنا ولا مطابقة الأصل هي المعيار، وإنما كيف يتأتى إنتاج فيلم كبير عن نص ادبي عظيم. فالسينما في نهاية الأمر لا تتكلم إلا لغتها الخاصة مهما حاولت الاقتراب من فضاء العمل الأدبي.

من بين أشهر المعالجات السينمائية لرواية “الليدي تشاترلي” التي تتعدى الـ(400 صفحة)، نسخة المخرج الفرنسي مارك اليغريه-1955 ،وفيلم جوست جيكن-1981 ، والايطالي لورنزو اونوراتا-1989،وفيلم ألان روبرتز- 1977 الحافل بالايروتيك والذي ألحقه بجزء آخر عام 1985، فضلا عن نسخ تجارية غير ذات أهمية. ربما أفضل معالجة سينمائية اقتربت إلى حد ما من أجواء الرواية من دون أن تتعكز جودتها على قوة السيناريو الأدبي هي تلك التي قدمتها المخرجة الفرنسية  “باسكال فيران” عام 2006 وأدت فيها الممثلة (مارينا هاندس) شخصية “الليدي تشاترلي” بتمكن، حيث حصد الفيلم والممثلة جائزتي سيزار عام 2007. كما لا بد من الإشارة إلى الدراما التلفزيونية التي قدمها البريطاني كين راسل عام 1993 واسند البطولة فيها إلى جولي ريتشاردسون وسين بن. ربما من المفارقة أن تكون أفضل المعالجات السينمائية للرواية ليست انكليزية.

في حين ان أفضل ما في نسخة المخرج “جاد ميركوريو” -والتي تعد الأحدث-هو قدرتها على اختصار المدونة الروائية في سرد سينمائي يجاهد للحفاظ على المنحى الدرامي الأساسي في الرواية بزمن عرض لا يتجاوز 90 دقيقة. وخلال الدقائق الأربع الأولى يقفز بنا الفيلم من حادثة انهيار جزء من منجم الفحم إلى واقعة زواج الليدي تشاترلي من كليفورد والذي سردته الرواية بعشرات الصفحات. الشئ الأجمل، كان اقتصاد اللغة السينمائية في الفيلم، تحديدا في بداياته، مشهد عقد قران الليدي تشاترلي في الكنيسة، إذ يجري اختصار زمن الأحداث في مونتاج متداخل يعرض مراسيم الزواج(حاضر الصورة وزمنها المتحرك) مع لقطات سريعة توظف لتصوير ذهاب كليفورد إلى الحرب ثم عودته إلى المنزل عقب تعرضه لإصابة بليغة جعلته عاجزا( مستقبل الأحداث). كما سنعرف في المشهد ذاته إصابة كليفورد خلال الحرب ونعي نظرة ميلرز التي ستنبأ عن لقاء مؤجل بينهما، وهو الذي يشاركه الخندق كجندي ويصبح لاحقا حارس طرائد الغابة. من شأن هذا الإيجاز في لغة الصورة أن يعزز خيارات المعالجة المرئية لما هو مكتوب، فضلا عن بعث إشارات سريعة بوسعها توجيه المتلقي ولفت انظاره لتتبع مسار الشخصيات الفاعلة ومصائرها المحتملة التي ستطبع الأحداث اللاحقة بخياراتها.

في الدقيقة 12 من الفيلم تنتهي الحرب.وبعد مشاهد قصيرة مشحونة بالتوقعات سيكون ميلرز حارسا أجيرا لدى السيد كليفورد، معزولا في كوخه الخشبي الكائن على مسافة ليست بعيدة عن منزل الليدي تشاترلي. ويبدو اننا لن نحتاج إلى المزيد من الوقت لرؤية أول مشهد غرام بين ميلرز وتشاترلي، وان كان تماسا جسديا متقشفا يخون جوهر عمل لورنس ثانية. فالتعامل بتحفظ مع لهيب كلمات لورانس ووصفه الجريء لمعاشرة تشاترلي وعشيقها هو حياد يماثل في خيانته التأكيد فقط على إباحية الرواية بمعزل عن أية قيمة أخرى. لكننا في السينما يمكن لنا المضي مع تطور الأحداث بمعزل عن تأملات الرواية وبراهينها الناجزة. كمشاهدين(لا نمتلك أية فكرة عن الرواية) ربما سنستمتع بفيلم عاطفي خال من التعقيد يخاطبنا بلغة العصر ويبلغنا رسالته الإنسانية ببساطة وجمال.

وجراء ما بدا انه أصالة للعلاقة بين الرواية والفيلم والتي شاعت في العديد من الأدبيات السينمائية،بات من الصعب على المتلقي لدى مشاهدته فيلما سينمائيا مقتبسا عن عمل أدبي التخلص من رغبته الملحة في المقارنة بين النسختين الفنيتين للتوصل إلى حكم يتأسس غالبا على سؤال وحيد ومحدد يختزل بعجالة، تاريخا نظريا وفنيا متشعبا: أيهما كان الأفضل بالنسبة لنا، الرواية أم الفيلم ؟ وكما السؤال قد لا يبدو الجواب موفقا دائما.

 

رسالة لورانس

كان هذا النص اكبر من مجرد مناسبة لاستخلاص استنتاجات سطحية عن جذر الخطيئة وأسرار الخيانة الزوجية. فما كان فعلا منحطا بمعايير أخلاقية سابقة بات بوحي دين الحضارة الصناعية الجديدة مواجهة صريحة مع عالم مملوك لقيم الرجولة التقليدية ومسخر في الوقت ذاته لاستشراف وعي نسوي لا يتردد في إعلان ثورته. وجراء فشلها في ان تنال سعادتها لمجرد دخولها حلقة الرجال الميسورين، لا تتردد الليدي تشاترلي في الانحياز لمشاعرها بتفضيل العشيق على الزوج الذي ليس أمامه سوى القول”لقد خالفت النظام المقدس للأشياء واخترت النوم مع قرد”.

ومثلما كانت “ايما بوفاري” هي فلوبير، فإن كونستانس التي تخاطب زوجها قائلة”ان الجسد الذي قتله أفلاطون والمسيح،سيولد مجددا” هي ذاتها لسان لورانس الذي دعا بيأس إلى أن يتم تقبل روايته كنوع من الحنان بدلا عن وصمها بالبذاءة،فقد آن الأوان لان نتكلم عن الأشياء بلغتها الحقيقية،نغادر ما هو زائف ومهذب ومصطنع لكي نتوقف عن عادة التخلي عن العاطفي لصالح العقلاني..”

يصعب على الفيلم تمثيل هذا العمق بالصورة، ولو حاول المخرج سرده بصوت الراوي الذي يسلسل الأحداث فانه سيضعف خيارات الصورة السينمائية لصالح أدبيتها. وهو ما فعلته المخرجة باسكال فيران في فيلمها الناطق بالفرنسية والذي يقارب زمنه الثلاث ساعات عبر إظهار لوحات بين مشهد وآخر تشير إلى بعض النقلات في أحداث الرواية،من قبيل: في ذلك اليوم كان الخادم الصغير مريضا.وكان كليفورد يريد تبليغ أمر ما لخفير الصيد..” أو يُسرد الآتي لتعجيل زمن الأحداث:من حينها أخذت كونستانس تذهب إلى الكوخ كل يوم تقريبا..ثم يستكمل المشهد بوقائع لاحقة. في حين استهلت المخرجة فيلمها بمشهد له دلالته، وهو استقبال كليفورد لأصدقائه والثرثرة معهم حول ذكريات الحرب .ها هو يخبرهم كيف ان احد الجنود صاح باسمه واخذ يركض أمامه من دون رأس.

 يمكننا القول ان المخرجة الفرنسية”فيران” بإدراكها صعوبة المهمة التي تنتظرها تمكنت من ملامسة أجواء الرواية واختارت بذكاء أهم فصولها مع الحفاظ على مساحة صمت بليغة تقابل مساحة الوصف الروائي، وهو ما لم يفعله المخرج البريطاني”جاد ميركوريو”، بحيث جاء فيلمها محتفيا في مشاهده الطويلة بالطبيعة كمكان بصري ساحر، تتجول الكاميرا فيه على خلفية أصوات الطيور المختلفة، فيما تتأمل الليدي بنظرات شغوفة وقلب جامح السحر من حولها، مستشعرة وحدتها مع زوج عاجز حولته الحرب إلى رجل بارد ومرتاب.

ستبقى السينما منجذبة للرواية الكلاسيكية بسبب دراميتها العالية وعوالمها السردية المحكمة ومصائرها الفريدة وحسها الرومانتيكي ونزعتها الإنسانية.
________
*مجلة الدوحة

 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *