عشاء عائلي

خاص- ثقافات

*كازو إيشيجيرو /ترجمة : د.محمد عبدالحليم غنيم

مقدمة قصيرة عن المؤلف  وعن القصة : د.محمد عبدالحليم غنيم

المؤلف : كازو إيشيجورو    kazoo Ishiguro
ولد كازو إيشيجورو فى الثامن من نوفمبر عام 1954م فى مدينة نجازاكي باليابان و هاجر إلى بريطانيا مع عائلته فى عام 1960 وهو فى الخامسة من عمره،  ثم حصل على الجنسية البريطانية عام 1982 .انغمس إيشيجورو فى الحياة البريطانية الثقافية والاجتماعية فصارت لغته أكثر إنجليزية من الانجليز ،وهوبالفعل لا يحب أن يوصف بالكاتب اليابانى ، تخرج  إيشيجورو  من جامعة كنت حيث حصل على درجة الليسانس  فى اللغة الانجليزية والفلسفة عام 1978 والماجستير من جامعة إيست أنجليا لدورة الكتابة الإبداعية عام 1980. نشر فى البداية أول ما نشر ثلاث  قصص قصيرة ضمن كتاب مشترك لكتاب آخرين  عام 1981، ثم توالت أعماله المنشورة فى كتب مستقلة بعد ذلك ، فنشرخلال مسرته الأدبية  سبع روايات  : ” منظر شاحب من التلال 1982م ، ” فنان العالم العائم ” عام 1986م ، وقد فازت بالجائزة البريطانية المرموقة ويتبريد whitbread ، أما روايته الثالثة ” بقايا اليوم ” فقد نشرت عام 1989 م ، وقد حقتت  له شهرة عالمية ،  حيث باعت أكثرمن مليون نسخة باللغة الإنجليزية ثم فازت بجائزة بوكر الشهيرة  فى ذات العام كما حولت إلى فيلم سنيمائي شهير بذات الاسم من بطولة أنتوني هوبكنز . من أعماله الأخري : روايات :  ” من لا عزاء لهم ” 1995 م ، و” بينما كنا يتامى ” 2000 م ” لا تدعني أرحل ” 2005 م ، و العملاق المدفون 2015 م

وفى مجال القصة القصيرة :
1 – ثلاث قصص قصيرة فى قصص لكتاب جدد ( غريب و أحياناً حزين – انتظار لي جي – التسمم )
2 – عشاء عائلي
3 – قرية بعد الظلام
4 – مقطوعات موسيقية ( خمس قصص عن الموسيقى و الليل ) 2009 م

حصل كازو إيشيجورو على العديد من الجوائز منذ أن صدرت روايته الأولى عام 1982 ، من داخل بريطانيا وخارجها ، أشهرها من بريطانيا : ويتبريد والبوكر ، ومن الخارج اج الجوائز نويل للآداب هذه العام 2017 ف الخامس من أكتوبر .

        أما عن قصة ” عشاء عائلي “/  Family Supper التى نترجمها إلى اللغة العربية  هنا لأول مرة ، فقد نشرت لأول مرة عام 1982 م ، و هى تعد أنموذجاً لأسلوب الكاتب فى قوة الأسلوب و الاقتصاد اللغوي  والتنوع فى طرائق السرد ، مع الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة واستخدام الرمز و تيمة الحديث عن التقاليد و الثقافة اليابانية ، هذا إلى جانب إحكام البناء القصصي .

       تتخذ القصة من أرض اليابان مسرحا لأحداثها ، منذ وصول الرواى بطل القصة من كاليفورنيا إلى  أرض المطار فى وانتهاء بتناول العشاء فى منزل العائلة مع ألأب والأخت ،  حيث تقوم القصة فى بنائها على الحوار بين الشخصيات الثلاثة الحية : الأب والابن ( الرواى ) والأخت ( كيكوكو) على حين تتم الإشارة إلى الشخصيات الغائبة : الأم و  وتانابى شريك الأب وعائلته ، وسنلاحظ أن تلك الشخصيات الغائب قد رحلت عن الحياة ، فالأم ماتت بتاثير سم سمك الفوجو القاتل كما يصرح الرواى بذلك فى بداية القصة ، وانتحر الشريك وتانابى واخذ معه زوجته وابنتيه الجميلتين خنقا بالغاز بسبب  انهيار شركته ،. ومع ذلك يبقى لهذه الشخصيات حضور كبير فى بناء الأحداث  ومغزى القصة ، فالأم تعد رمزا للثقافة والتقاليد اليابانية ، والشريك وتانابى رجل المبادئ والشرف على حد قول الأب .وإلى جانب ذلك هناك البئر فى حديقة المنزل الخلفية رمزا أيضا للتقاليد والثقافة اليابانية المحافظة ، هذا الذ ى كان مصدر خوف للأخ والأخت : الراوى و كيكوكو. الآن بعد عودة الأخ / الرواى من أمريكا ، وذهاب كيكوكو الى جامعة أوساكا واتخاذها خليلا من زملائها فى الجامعة حيث تفكر ان تهاجر معه إلى أمريكا مثل أخيها  ، لميعد البئر مصدرا ، لقد اكتشفت الفتاة الآن أنها غير مسكونة بالأشباح كما كانت تدعى الأم ، أو حتى أخيها  الذى كان يخيفها  بحديثه  عن الشبح السان البئر :

    ”  قالت :
– لا أستطيع أن أري أيه أشباح . لقد كنت تكذب علي طوال الوقت .
– لكنني لم أقل أبداً أنها تسكن داخل البئر .
– أين هى إذن ؟  “

       لقد اكتشفت أن أخيها كان يكذب عليها أيضا .أن هنا الفتاة تمثل اليابان الجديدة المتحررة ، أما الابن الذى عاد من أمريكا وقد تمرغ هناك بالحرية وخرق التقاليد ، مازات تطارده الأشباح ، كما كانت تطارده قبل الرحيل إلى  أمريكا ، فعلى العشاء يحدق الابن / الرواى فى صورة معلقة الجدار خلف كتفى الأب ، متسائلا لمن هذه الصورة ؟ حيث يخلط بين المرأة الشبح ساكنة البئر وأمه ، وعند ذلك يسأله أبوه موبخا بصوت عال :

    ”  – ألم تستطع أن تتعرف على والدتك ؟ “

    وعندما تساله أخته وأبوه بعد ذلك هل سيعود إلى امريكا مرة لا يستطيع ان يقدم إجابة حاسمة .

    لعل من الأفضل ترك القصة للقارئ ليستمتع بفك شفراتها بنفسه ، ولعله يجد فى ذلك كاتبا يستحق بالفعل جائزة نوبل فى الآداب .

عشاء عائلي

قصة : كازو إيشيجيرو
ترجمة : د.محمد عبدالحليم غنيم

 

       فوجو نوع من الأسماك يتم صيده من قبالة شواطئ المحيط الهادي باليابان . وقد اكتسب هذا النوع من الأسماك أهمية خاصة منذ أن ماتت أمي بسبب  تناول واحدة منه. يكمن السم فى الغدد الجنسية لتلك الأسماك بداخل اثنين من الأكياس الشهية . عند إعداد السمكة يجب إزالة هذين الكيسين بحذر . فأى عمل أخرق سيؤدي إلى تسرب السم إلى الأوردة . و من أسف ، ليس من السهل التأكد إذا كان ذلك تم بنجاح أم لا ، فالدليل لا يظهر إلا في الأكل .
التسمم بسمكة الفوجو مؤلم بشكل رهيب و يؤدى غالباً إلي الموت ، فإذا ما تم تناول السمكة خلال المساء فإن الضحية عادة ما يزداد ألمها أثناء النوم ، فتظل تتقلب فى العذاب لعدة ساعات ثم تموت في الصباح ؟ لقد أصبحت هذه السمكة ذات شعبية جارفة فى اليابان  بعد الحرب ، حتي تم فرض لوائح شديدة الصرامة حال تناول هذه السمكة ، كان الغضب كله من ممارسة عملية إخراح الأحشاء فى المطبخ ، ثم دعوة الجيران و الأصدقاء للوليمة .

     وقت وفاة أمي كنت أعيش فى كاليفورنيا ،وكانت علاقتي بوالدي متوترة  إلى حد ما فى تلك الفترة ، ومن ثم لم أكن أعلم الظروف المحيطة بوفاتها حتي عدت إلى طوكيو بعد عامين ، على مايبدو كانت أمي ترفض دائماً تناول سمكة الفوجو ، لكن فى مناسبة خاصة فعلت الاستثناء  بعد أن دعيت من قبل صديقة المدرسة القديمة ،لأنها كانت حريصة علي عدم الإساءة . كان أبى قد زودني بتلك التفاصيل و نحن نقود السيارة من المطار إلى منزله في منطقة كاماكورا .عندما وصلنا أخيراً كان اليوم الخريفى المشمس على وشك الإنتهاء . سألنى أبي ، ونحن نجلس على أرضية الحصير في غرفة الشاي:
– هل أكلت فى الطائرة ؟
– قدموا لي وجبة خفيفة .
– لابد أن تكون جائعاً ، سنأكل بمجرد وصول كيكوكو .

     كان والدي رجلاً ضخم المظهر مع فك حجري كبير وحاجبين أسودين غاضبين . أعتقد الآن و أنا أستعيد الأحداث أنه يشبه كثيراً تشو إن لاي ، علي الرغم من أنه لا يمكن أن يقبل بهذه المقارنة ، خاصة و أنه فخور بشكل خاص بالدم الساموراي النقي الذى يسيل فى العائلة ، لم يكن مظهره العام  بالذى  يشجع على إجراء محادثة مريحة ، ولا حتي طريقته الغريبة في ذكر كل ملاحظة كما لو كانت القرار الأخير . فى الواقع ، وأنا أجلس أمامه بعد ظهر ذلك اليوم ،عاودتني ذاكرتى الصبيانية إلى الوقت الذى  كان يضربني  فيه عدة مرات على رأسي بسبب ” الثرثرة مثل امرأة عجوز ” حتماً لابد ان محادثتنا منذ وصولي إلي المطار قد تخللتها فترات توقف طويلة .
– آسف على ما سمعته بخصوص الشركة .

       قلت ذلك عندما لم يتحدث أحد منا لبعض الوقت . فأومأ برأسه فى صرامة،  وقال :
– فى الواقع لم تنته القصة هنا بعد انهيار الشركة ، قتل واتانابي نفسه ، لم يكن يرغب فى أن يعيش فى العار .
– فهمت .
– كنا شريكين لمدة سبع  عشر عاما ، رجل ذو مبدأ و شرف ، لقد احترمته كثيراً جداً .

      سألت :
– هل تنوي أن تمارس العمل التجاري من جديد ؟
– أنا ، متقاعد ، أنا عجوز جداً على التورط  فى مشاريع جديدة .  لقد أصبحت المشاريع مختلفة جداً فى تلك الأيام . تعامل مع الأجانب ، يتم عمل الأشياء على طريقتهم ، لا أعرف كيف وصلنا إلي هذا ، ولا حتي وتانابى.

      ثم تنفس الصعداء وأضاف :
– رجل رائع . رجل ذو مبدأ .

      تطل غرفة الشاي على الحديقة ، من مكاني حيث أجلس استطعت أن ألحظ البئر القديمة التي كنت أعتقد وأنا طفل أنها مسكونة . تري الآن  فقط عبر أوراق الأشجار السميكة . غاصت الشمس إلى أسفل وسقطت معظم الحديقة فى الظل . قال أبي :
– أنا سعيد على أية حال لأنك قررت أن تعود . آمل أن تكون أكثر من  مجرد زيارة قصيرة .
– لست متأكداً من خطتي .
– بالنسبة لى أنا مستعد لنسيان الماضى ، كانت والدتك أيضاً مستعدة دائماً للترحيب بعودتك مرة أخري ، بقدر ما كانت مستاءة من تصرفاتك .
– أقدر تعاطفكم ، لكن كما قلت ، لست متأكدا من خططي .
– لقد استقر فى اعتقادي الآن أنه لم يعد هناك نوايا شريرة فى عقلك .

      ثم واصل :
– وإن كنت  قد تأثرت ببعض المؤثرات مثل العديد من الآخرين .
– ربما ينبغى أن ننسي ذلك، كما اقترحت .
– كما تحب . ألمزيد من الشاي ؟

      عندئذ تردد صدي صوت فتاة عبر المنزل .
– أخيراً .

       رفع أبى قدميه وأضاف :
– وصلت كيكوكو .

      على الرغم من اختلافنا لسنوات ، كنت أنا و أختي قريبين للغاية ، تبدو متحمسة جداً عندما تراني ولفترة من الوقت لاتفعل شيئاً سوي الضحك بعصبية لكنها هدأت عندما بدأ والدي يسالها عن أوساكا و جامعتها . ردت عليه بإجابات رسمية قصيرة ، ثم  سألتنى بدورها بعض الأسئلة ، لكن يبدو أنها خشيت تقودها أسئلتها إلي الخوض فى موضوعات محرجة . بعد فترة من الوقت ، صارت المحادثة أكثر حدة منذ وصول كيكوكو . ثم وقف أبي ، وهو يقول :
– لابد من تحضير العشاء . معذرة ، عفواً لتطرقنا لمثل هذه المسائل ، لسوف تهتم بك كيكوكو .

      استراحت أختي تماماً بمجرد أن غادر أبى الحجرة و في غصون دقائق قليلة ، كانت تتحدث بحرية عن أصدقائها فى أوساكا وعن دروسها في الجامعة ، ثم فجأة قررت أن علينا أن نتمشى فى الحديقة ، و نقف هناك فى الشرفة .لبسنا صنادل القش التي كانت قد تركت عل سور الشرفة و خطونا إلى داخل الحديقة  كان ضوء النهارد قد اختفى تماماً . قالت و هى تشعل السيجارة :
– لقد كنت سأموت علي التدخين من نصف ساعة .
– إذن لماذا لم تدخني ؟

       أبدت إشارات ماكرة نحو المنزل ثم ابتسمت ابتسامة شريرة . فقلت :
– أوه فهمت .
– خمن ماذا ؟ لدي خليل الآن ؟
– أوه ، نعم ؟
– إلا أننى أتسائل ماذا أعمل . لم أفكر بعد .
– مفهوم تماماً .
– أتعرف ، إنه يخطط أن نذهب إلي أمريكا ، ويريد أن أذهب معه بمجرد أن أنتهي من دراستي .
– فهمت . و هل تريدين الذهاب إلي أمريكا ؟
– لو سافرنا سوف نسافر مجاناً

       لوحت كيكوكو بإصبع الإبهام في وجهي ، ثم أضافت .
– يقول الناس أن ذلك خطر ، لكنني فعلت ذلك فى أوسكا ، فلاضرر منه .
– فهمت . إذن ما الشىء الذي أنت غير واثقة منه .

      كنا قد سرنا فى ممر ضيق وسط الشجيرات ينتهى بنا إلى البئرالقديم . وأثناء المشي  لم تتوقف   كيكوكو عن أخذ أنفاس الدخان من سيجارتها بشكل استعراضي .
– حسناً . لدي الكثير من الأصدقاء في أوساكا . أحب ذلك هناك ، لست متأكدة أنني يمكن أن أتركهم جميعاً ورائي –  وسوشي –  أنا أحبه ، لكنني لست متأكدة أنني أريد أن أقضي وقتاً كبيراً معه . هل فهمت ؟ أوه تماماً .

     ابتسمت مرة أخري ثم انصرفت عني حتي وصلت إلى البئر وقالت :
– هل تتذكر ؟

   و بمجرد أن لحقت بها قالت :
– كيف كنت تقول أن هذه البئر مسكونة ؟!
– نعم أتذكر .

    حدق كل  منا  فى جانب .

    قالت :
– كانت أمي تقول دائماً أن هناك امرأة عجوز من محل الخضروات  هى التى رأيتها تلك الليلة . لكنني لم أصدقها أبداً . و لم أخرج إلى هنا أبداً وحدي .
– لقد اعتادت ماما أن تقول لى ذلك أيضاً . حتي أنها قالت لى ذات مرة أن المرأة اعترفت أنها شبح . يبدو أنها كانت تختصرالطريق  عبرالمرور بحديقتنا  ، أتصور أنها عانت بعض المشاكل عند تسلق هذه  الجدران .

      ضحكت كيكوكو بصوت عالٍ ، ثم أدارت ظهرها للبئر ، وركزت نظرها على الحديقة ،  قالت فى صوت جديد :
– لم تلمك أبداً ماما في الواقع ، كما تعرف

      بقيت صامتاً ، فأضافت :
– لقد اعتادت أن تقول لى دائماً كيف كان ذلك غلطتهما ، هي و أبى ، لعدم تربيتك بشكل صحيح . و كما اعتادت أن تقول أنهما كانا  أكثر حذراً معي ، وذلك هو السبب في أنني جيدة جداً .

     نظرت إلى أعلى و قد عادت الابتسامة الشريرة إلى وجهها ، قالت :
– مسكينة أمي !
– هل تنوي العودة إلي كاليفورنيا ؟
– لا أعرف ، لسوف أفكر .
– ماذا حدث لها ؟ لفيكى ؟

    قلت :
– لقد انتهي كل ذلك .

      ثم أضفت :
– لم يبق لى شيء فى كاليفورنيا .
– هل تعتقد أنني يجب أن أذهب إلي هناك ؟
– لم لا ؟ لا أعرف . ربما سوف تحبين ذلك .

    حدقت تجاه المنزل . و أضفت :
– لربما من الأفضل أن ندخل حالاً ،  فقد يحتاج أبي إلى بعض المساعدة فى تجهيز العشاء .

    لكن أختي حدقت  مرة أخرى بتمعن فى  البئر وقالت :
– لا أستطيع أن أري شبحاً .

    ارتفع صدي صوتها قليلاً
– هل الأب مستاء جداً من انهيار شركته ؟
– لا أعرف . لا يمكنك أبداً أن تتحدث مع الأب .

    ثم اعتدلت فجأة وحولت  نظرها نحوي :
– هل حدثك عن واتانابى العجوز ؟ ماذا فعل ؟
– سمعت أنه انتحر .
– حسناً . ليس ذلك كل شيء ، لقد أخذ عائلته معه . زوجته وابنتيه الصغيرتين ؟
– أوه نعم ؟
– هاتان الفتاتان الجميلتان ، أشعل الغاز بينما كانتا نائمتين ، ثم بقر معدته بسكين اللحم .
– نعم . قال لي أبى فقط ، كيف كان رجلاً ذا مبدأ .
– مقزز .

       قالت ذلك واستدارت عائدة إلى البئر .
– احذري وإلا سوف تسقطين فيه .

      قالت :
– لا أستطيع أن أري أيه أشباح . لقد كنت تكذب علي طوال الوقت .
– لكنني لم أقل أبداً أنها تسكن داخل البئر .
– أين هى إذن ؟

      تطلع كل منا إلي الأشجار و الشجيرات .صار الضوء فى الحديقة أكثر عتمة . و فى نهاية المطاف أشرت إلى آلة قص العشب الصغيرة على بعد عشر يردات .
– فقط هناك رأيتها . فقط هناك .

     حدقنا فى المكان .
– كيف كان يبدو ذلك ؟
– لم أستطع أن أري جيداً جداً . كانت الدنيا مظلمة .
– لكن لابد أنك كنت تري شيئاً ما
– كانت امرأة عجوز . كانت فقط تقف هناك و تراقبني .

    ظللنا نحدق فى المكان كما لو كنا قد نومنا مغنطيسيا  . قلت :
– كانت ترتدي كيمونو أبيض ، و كان بعض شعرها سائياً ،كان يطير فى الهواء قليلاً

    دفعت كيكوكو كوعها فى ذراعي وقالت :
– عليك أن تصمت . أنت تحاول أن تخيفيني مرة أخري .

    داست على بقايا سيجارتها ، وبعد  لحظة وقفت و ثم تعبير مرتبك على وجهها. ركلت بعض أعواد الصنوبر فوقها ، ثم صارت ابتسامها أكثر اتساعاً . وقالت :
– تعالي نري إذا ماكان العشاء جاهزاً .

     و جدنا أبي فى المطبخ . منحنا نظرة سريعة ، ثم واصل ما كان  يقوم يعمله . قالت كيكوكو ، وهي تضحك :
– أصبح أبى طاهياً و نجح فى ذلك بنفسه.

     التفت ونظر إلي أختي في برود ، ثم قال :
– مهارة بالكاد أنا فخور بها . كيكوكو تعالي هنا و ساعديني .

     لبعض اللحظات لم تتحرك أختي ثم تحركت  أخيرا ، و أخذت المريلة و المعلقة من الدرج . فقال :
– فقط هذه الخضروات تحتاج إلي الطهي الآن ، الباقي يحتاج إلي المراقبة .

        ثم تطلع إلى أعلي و تأملني بشدة لبضع ثواني ثم قال فى نهاية المطاف :
– توقعت أن تقوم بإلقاء نظرة علي المنزل .

        أنزل عيدان الطعام التي كان يمسك بها و أضاف :
– لقد مر وقت طويل علي رؤيتك له .

         بمجرد أن تركنا المطبخ ، حدقت نحو كيكوكو ، لكنها كانت قد أدارت ظهرها لي ، قال أبى فى هدوء :
– فتاة طيبة .

         تبعت أبى من حجرة إلى حجرة ، لقد نسيت كم كان هذا المنزل واسعاً . انزلق لوح خشبى جانباً و ظهرت حجرة أخري، يبدو أن كل الحجرات الأخري كانت خالية بشكل رائع . فى واحدة من تلك الحجرات التى لم يدخلها الضوء ، حدقنا فى الجدران الصلدة والحصير المفروش عبر الضوء الشاحب المتسرب من النوافذ . قال أبي :
– هذا منزل واسع جداً على رجل يعيش وحده ، لافائدة كبيرة من معظم تلك الحجرات الآن .

         لكن فى النهاية فتح أبي باب حجرة معبأة تماماً بالكتب و الصحف ، كانت ثمة زهور فى داخل الفازات ، ولوحات على الجدران ، ثم لاحظت شيئاً ما على طاولة منخفضة فى أحد أركان الحجرة . اقتربت أكثر و رأيته ، كان نموذجا من البلاستيك لسفينة حربية ، ذلك النوع المصنوع للأطفال . كانت موضوعا فوق بعض الصحف ، وقد تناثر حوله  قطع بلاستيكية صغيرة ذات لون رمادي  . أخرج أبى ضحكة ، ثم اقترب من الطاولة وأمسك بالنموذج . قال :
– منذ أن فضت الشركة ، ولدي كثير من الوقت .

       ثم ضحك من جديد بغرابة إلى حدما . للحظة بد وجهه لطيفاً تماماً . أضاف :
– الكثير من الوقت .

        قلت :
– يبدو ذلك غريباً . كنت دائماً مشغولاً للغاية .

       نظر نحوي بابتسامة صغيرة :
– مشغول للغاية ربما . ربما كان ينبغى أن أكون أكثر لطفاً كأب .

       ضحكت . استغرق مفكراً فى سفينته الحربية ، ثم تطلع إلى و قال :
– لم أكن أريد أن أقول لك هذا . لكن ربما من الأفضل أن  فعلت ذلك . فى اعتقادي أن موت أمك لم يكن مصادفة . لقد كان لديها الكثير من التخوفات و خيبات الأمل .

       حدق كل منا في السفينة الحربية ، و في النهاية قلت :
– بالتأكيد ، لم تكن تتوقع  أمى أنني سأعيش هنا للأبد .
– من الواضح أنك لم تفهم .  لم تفهم كيف يمكن أن  يعنى مثل هذا لبعض الآباء و الأمهات ، ليس فقط فقداً لأطفالهم ، بل أنهم يفقدونهم أشياء لم يفهموها بعد .

       ثم أدار السفية بين أصابعه و قال :
– تلك الزوارق الصغيرة ، كان يمكن – من الأفضل – أن تلصق هنا . ألا تعتقد ذلك ؟
– ربما ، أعتقد أنها تبدو على ما يرام .
– خلال الحرب قضيت بعض الوقت على متن سفينة حربية مثل هذه . لكن طموحي كان دائماً سلاح الطيران . أعتقد أنني أحب شيئاً كهذا . لو أن سفينتك الحربية ضربت من قبل العدو ، فإن كل ما يمكن أن تفعله هو أن تقاوم وسط الماء من أجل البقاء على قيد الحياة . لكن فى الطائرة – حسناً – هنلك دائماً السلاح النهائي .

       أعاد أبى النموذج مرة أخرى إلي الطاولة و قال :
– لا أعتقد أنك تؤمن بالحرب .
– ليس بالضبط .

       صوب عينه علي الحجرة وقال :
– لابد أن العشاء جاهز الآن ، لابد أن تكون جائعاً .

      كان العشاء ينتظر فى حجرة معتمة الضوء بجوار المطبخ . وكان المصدر الوحيد للضوء فانوس كبير معلق فوق الطاولة ، مما جعل بقية الحجرة تغرق في الظلال . أنحنى كل منا إلى الآخر قبل أن نبدأ  تناول الطعام .

       كان ثمة محادثة صغيرة ، عندما أبديت بعض التعليقات المهذبة عن الطعام ، وضحكت كيكوكو قليلاً . وبدا أن عصبيتها المبكرة قد عادت إليها مرة أخرى . لم يتكلم أبى لعدة دقائق.وفى الأخير قال :
– لابد أن  ثمة شعورغريب ينتابك  ، كونك عدت إلى اليابان .
– نعم ، غريب إلى حدما .
– بالفعل ، ربما تشعر بالأسف لتركك أمريكا .
– قليلاً . ليس كثيراً . لم أترك ورائي الكثير ، فقط بعض الحجرات الخالية .
– أفهم

     حدقت عبر الطاولة ، بدا وجه أبى جامداً وقاسياً فى نصف الضوء ، تناولنا الطعام في صمت .

      ثم لفت نظري شىء ما في الجزء الخلفى من الحجرة ، فى البداية واصلت تناول الطعام ، ثم بعد ذلك تجمدت يداي ، لاحظ ذلك كل من أبي و أختي وتطلعا إلى ، واصلت التحديق فى الظلام خلف كتفى أبي .
– من تلك ؟ التى في الصورة هناك ؟
– أية صورة ؟

     التفت أبى قليلاً ، فى محاولة منه ،  لتتبع موضع تحديقى .
– التى فى الأسفل . المرأة العجوز فى الكيمونو الأبيض .

     أنزل أبى عصى طعامه ، نظر أولا إلى الصورة ، ثم إلى وقال :
– والدتك .

      ثم صار صوته أكثر قوة و أضاف .
– ألم تستطع أن تتعرف على والدتك ؟
– والدتي . أنت تعرف ، إنه الظلام لم أستطع أن أراها جيداً .

      لا أحد منا تحدث لبضع دقائق ، ثم نهضت كيكوكو على قدميها . أنزلت الصورة من علي الجدار وعادت بها إلى الطاولة وأعطتها لى ، فقلت :
– تبدو عجوز جداً .

      قال أبى :
– التقطت هذه الصورة لها . قبل وفاتها بوقت قصير .
– لقد كان الظلام ، لم أستطع أن أري بشكل جيد .

       تطلعت إلى أعلى ولاحظت أن أبى يمد يده ، أعطيته الصورة ،  نظر إليها باهتمام ثم سلمها إلى كيكوكو . فى إذعان نهضت أختي مرة أخري وأعادت الصورة إلى موضعها على الجدار .

       كان هناك قدركبير  قد ترك دون أن يفتح فى وسط الطاولة ، عنددما جلست كيكوكو من جديد ، مد أبى يده ورفع عنه الغطاء. صعدت سحابة من البخار والتفت حول الفانوس . دفع أبى القدر قليلاً نحوى ، وقال :
– لابد أنك جائع .

     كان  ثمة جانب من وجهه غارقاً فى الظل
– شكراً لك .

     تناولت عصي الطعام ، كان البخار ساخناً جداً . أضفت .
– ما هذا ؟
– سمك
– رائحته طيبة جداً .

      فى وسط الحساء كانت شرائح من السمك قد تكورت تقريباً على شكل كرات . التقطت واحدة منها وجلبتها إلى وعائي .
– أخدم نفسك ، هناك المزيد .
– شكراً لك .

      أخذت أكثر قليلاً ، ثم دفعت بالقدر نحو أبى وشاهدته وهو ينقل عدة شرائح إلى وعائه . ثم شاهدنا كيكوكو ، وهى تخدم نفسها بنفسها . انحني أبى قليلاً ، و قال من جديد !
– لابد أنك جائعاً .

     أخذ قطعة من السمك إلى فمه وبدأ يأكل ، وعندئذ أخذت أيضاً قطعة و وضعتها فى فمي ، بدت لينة و سمينة جداً على لسانى . قلت :
– لذيذة جداً . ما هذا ؟
– سمك فقط .
– إنه طيب للغاية .

     أكل ثلاثتنا في صمت . مرت عدة دقائق .
– هل تريد المزيد ؟
– هل هناك ما يكفي ؟
– هناك الكثير لنا جميعاً .

     رفع أبى غطاء القدر ، فصعد المزيد من البخار إلى أعلي . تطلعنا جميعاً إل الأمام وخدمنا أنفسنا بأنفسنا ، قلت لأبي :
– خذ ، إليك هذه القطعة الأخيرة .
– شكراً لك .

    عندما انتهينا من الوجبة ، مد أبي ذراعيه ، و تثاءب بارتياح وقال :
– كيكوكو . جهزي الشاي . من فضلك .

    تطلعت أختي إليه ، ثم غادرت الحجرة دون أن تعلق بكلمة  . نهض أبى .
– هيا نعود إلى الحجرات الأخري . الجو دافىء هنا قليلاً .

       نهضت و تبعت أبي إلي داخل حجرة الشاي .،كانت النوافذ الكبير قد تركت مفتوحة لتجلب النسيم من الحديقة . لفترة من الوقت جلسنا فى صمت . قلت أخيراً :
– أبى .
– نعم .
– قالت كيكوكو لى أن واتانابي – سان  قد أخد كل عائلته معه .

      أخفض أبى عينيه و أومأ  لى بالموافقة . لعدة دقائق بدا أنه يفكر فى عمق . قال أخيراً :
– كان واتاناني مخلصاً جداً فى عمله ،  و كان انهيار شركته صدمة كبيرة له ، أخشي أن يكون ذلك قد أضعف حكمته .
– هل تعتقد أن ما قام به كان خطأ ؟
– لماذا – بالطبع –  هل تعتقد أنت خلاف ذلك ؟
– لا . لا . بالطبع  لا .
– هناك أشياء أخري إلى جانب العمل .
– نعم .

       غرقنا فى الصمت من جديد ، أتى صوت الجراد من جهة الحديقة . تطلعت إلى الخارج عبر الظلام . لم تعد البئر ظاهرة أمامى . سأل أبى :
– ما رأيك ، ماذا ستفعل الآن ؟ هل ستبقى فى اليابان لبعض الوقت .
– لأكن صادقاً ، لم أفكر فى ذلك .
– إذا رغبت أن تبقى هنا ، أقصد هنا في المنزل ، فسيكون مرحباً بك جداً .ذلك إن لم تمانع فى العيش مع رجل عجوز .
– شكراً لك . سوف أفكر فى ذلك

    حدقت مرة أخري فى الظلام . قال أبى :
– لكن بالطبع . هذا المنزل كئيب جداً الآن . لاشك أنك لن تعود إلى أمريكا قبل وقت طويل .
– ربما . لا أعرف بعد .
– لاشك ستعرف .

      لبعض الوقت بدا لى أن أبى يتأمل ظهر يديه ، ثم نظر إلي أعلى  و تنفس الصعداء .
– من المقرر أن تكمل كيكوكو دراستها فى الربيع المقبل ، ربما سوف تريد أن تعود إلي المنزل عندئذ ،  إنها فتاة طيبة .
– ربما ستفعل .
– سوف تتحسن الأمور إذن .
– نعم ، أنا متأكد أنها ستتحسن .

    غرقنا فى الصمت مرة أخري ، فى انتظار كيكوكو أن تحضر الشاي .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *