خاص- ثقافات
*محمد كريش- المغرب
كبقايا محاربي طواحين الريح. نتكوم في حضن وكنف شيخنا؛ شيخ الاحتواء الواسع، ذي الصدر الرحب، أخينا الأكبر: “الفايسبوك”، القائم بأمر تلك الذوات المنهكة ومحمومي الأعماق… نصنع مجدنا الزائف بأيدينا وننسج فخرنا العظيم، من وهم فضائه الأزرق الفسيح. ونسبح في مائه “الحر الطليق”، كما يسبح الجنين في مشيمة أمه. فضاء يستسيغ كذبنا وزورنا ودجلنا، دونما تحرج. بل يسوغ ذلك كله ويعرضه جهارا، على رؤوس الأشهاد. ويصنع لنا منه حقيقة. حقيقة من زبد الوهم والسراب والضباب. كأعداد الأصدقاء مثلا، وملايين الجيمات والتعليقات الممجدة، والإطراءات المنقطعة النظير. بينما الكل، إنما فيض من هباء الإفتراضي والسراب، يغري ويفتن خلف الشاشة فقط، لا يبرحها أبدا. تلك المشروطة الوجود والحياة بالكهرباء… حيث ينتهي كل ذاك المجد والعظمة بانقطاعها. فيغدو المجيد المُمَجد فقيرا معدما غريبا، لا قريب ولا حبيب، نسيا منسيا كميت. ثم يدور كممسوس حول شاشته المحراب، ويطوف حولها يائسا وقد أعتمت في سواد. كل هذا الشعب الفيسبوكي الجرار. يأتيك بكبسة زر وينتفي بأخرى مثلها. وقد ينعدم هذا العالم وينجرف سخاما إلى الأبد، جراء خطإ من أصبعك الصغير.
آه؛ يالها من نكسة تعيسة! أن تعيش الإدمان على وهم كبير جارف، وتصدقه كتصديقك موتة الأجداد. تهدر الأوقات والأمكنة، والمشاعر وأشياء أخرى كثيرة… تلكم هي فتنة الأزرق. تقفّزك وتسحبك إليها بالتذاذ ومتعة مخدّر. لكن؛ مع ذلك كله، فهذا الكائن بزرقة سماء الحرية، يمنحك كذلك أن تخرج على الملإ لتقول أشياءك وتفجر المكنونات والخفايا الحبيسة فيك، ولو خلف أسماء مستعارة. وتنتفض وتصرخ في وجه هذا العالم القاسي العابث. صيحة تعبر المحيط إلى المحيط. ويسعفك في خلق عوالم على مقاسك تروقك وكما تشتهي. تصنع جنتك وإمبراطورياتك. تكون فيها إلها مهابا، تحكم فيها بكبس الأزرار لا غير، تستقدم إليها من تشاء، وتطرد منها من تشاء. لا وجود للعقائد ولا للأحزاب ولا للأجناس… الكل فيها كالكل. والكل لا يعرف الكل… يعيش الجميع ضمنها في احتواء هادئ، وفي غفلة عن الواقع الوحش. فيها الذوات تستكمل نفسها وطموحاتها. وتكفكف دموع جراحها. ولو في كون مصطنع مفتعل، وهمي زائف. غير أنه كريم ودافئ، مسالم بلا حروب ولا ألغام متفجرة ولا دبابات…
في الفايسبوك، كل الألقاب تُمنح فيه بالمجان وبالأعداد والكميات التي تريد، دونما أن يلزمك ذلك أن تتخرج من الجامعات والمعاهد… بكبسة زر واحدة فقط، يمكنك أن تجعل منك شاعرا موهوبا أو أديبا كليما، أن تغدو فنانا عظيما، أو ناقدا حصيفا متخصصا… بل حتى زعيما وفقيها وطبيبا… وتهب لنفسك ريادة وهالة نجومية. أما لتمجيدك فتتحشد حولك كتائب غفيرة من مدمني الطيف الأزرق. وبكرم هادر يغدقون عليك بسيل جارف من قبلات الإعجاب صفراء اللون، والتمجيدات، وقلوب الحب الصغيرة الحمراء. وغمزات عيون حور… حتى لا يسعفك بعدها النوم في الليل، أياما كثيرة… متخمة بالكوابيس.
آه! لكن؛ فكلما أغلقت حاسوبي هذا، وانطفأت الشاشة، أجدني فجأة في قفر عتمة رهيبة، ووحدة خانقة لا تطاق. وجها لوجه، يعترضني حائط إسمنتي قبيح. فأغدو، كما أقبلت قبل قليل؛ غريبا متوحدا منكفئا على عزلتي الموحشة. تحتضنني بشدة غربة باردة كالصقيع، تلسع كياني كدبابير من جحيم…
الكرم كله لك يامن يحقق الأحلام، وينسج الحريات ويربط الإنسان بالإنسان، حتى ولو بخيوط الزيف والأوهام. ياأيها اللون الأزوردي؛ ياموحد الأجناس والأديان والأعراق، وساتر العيوب والسرائر. وماسح المسافات. ومرتق الخروم والشقوق في الضلوع. ياكبير كهنة العصر. وقطب الدجالين والمهرجين. يامؤنس الكل بالكل. ويامخدر العقول. أنت مرفأ التائهين والحيارى، الآتين من كل حدب وصوب. ياصلاة الليل والنهار لكل المنسيين.