خاص- ثقافات
*إبراهيم مشارة
عبثا أزمع الفــــــراق وآلى ** كلما جن الليل حن وعـــــادا
ذكريات حاصرته فلــــــولا ** وشريط لأم كلثـــــــــوم زادا
إبراهيم مشارة
كان لقائي بصوت السيدة أم كلثوم في باريس في صيف عام 1990 دلفت إلى جناح الموسيقى في المركز الثقافي جورج بومبيدو في باريس ورحت أتصفح أسطوانات الفونغراف في قسم الموسيقى الشرقية انتبهت لواحدة لأم كلثوم عليها صورتها بنظارتها السوداء وكبريائها المهذب وقد تدلت قرطان من أذنيها يكشفان عن ذوق فني وإحساس بالجمال وايتسامة في خفر ،أعربت للقائمة على ذلك القسم عن رغبتي في سماع أغنية لأم كلثوم واخترت واحدة عنوانها “ودارت الأيام” وجهتني إلى مخدع وهي تشيعني بابتسامة رقيقة بدأت في الاستماع لكلمات مأمون الشناوي أخ الشاعر كامل الشناوي الذي مات في ميعة العمر وهو صاحب القصيدة الحزينة التي قالها في عيد ميلاده:
عُدت يا يوم مولدي** عُدت يا أيها الشقي
الصبا ضاع من يدي.** وغزا الشيب مفرقي
ليت يا يوم مولدي** كنتَ يومًا بلا غد
أنا عمر بلا شباب** وحياة بلا ربيع
أشترى الحب بالعذاب* أشترى فمن يبيع؟
لكن مأمون ربما ابتسم له الحظ فلم يكن متشائما مثل أخيه كامل فأبدع هذه الكلمات الجميلة التي لحنها الموسيقار محمد عبد الوهاب رحمه الله حين بدأت في الاستماع أخذني الصوت من أقطار نفسي وألقى بي في دنيا عجيبة صوت يتفوق على الآلات الموسيقية ولا يستر عواره بها لكأنه قاطرة والآلات عربة من ورائه تأتمر بأمره ذكرني بقول ابن الرومي في وحيد المغنية:
تتغنّى ، كأنها لاتغنّى
من سكونِ الأوصالِ وهي تُجيد
لا تَراها هناك تَجْحَظُ عينٌ
لك منها ولا يَدِرُّ وريدُ
من هُدُوٍّ وليس فيه انقطاع
وسجوٍّ وما به تبليد
مَدَّ في شأو صوتها نَفَسٌ كا
كأنفاس عاشقيها مديد
وقلت ماذا لو سمع ابن الرومي صوت صاحبة العصمة “كوكب الشرق” ماذا كان سيقول؟
وامتد بي الخيال إلى تراثنا العربي عن المغنيين في الحجاز والعراق والذين احتفظت لنا كتب الأدب بأسمائهم ،ابن سريج، إسحاق الموصلي، حنين الحيري، زرياب ، ابن عائشة ومعبد المغني كما هي مذكورة في تلك الكتب وأسفت لأننا عرفناهم وعرفنا القصائد التي غنوها والتي كانت لفحول الشعراء وغنوها في بلاط الخلفاء عادة ولم نسمع أصواتهم لكأنه خيال بلا جسم وشذا بلا أكمام وضياء بلا هالة ومعنى بلا كلمات وميناء بلا عقارب.، انتشيت غاية الانتشاء بالأغنية صوتا وكلمات وصار دأبي كلما ضاق بي الحال وضقت ذرعا بباريس في كسلها الصيفي حثثت الخطى إلى مركز بومبيدو واستمعت إلى أغنية أخرى ومن ذلك اليوم وأنا مدمن على صوت السيدة أم كلثوم حتى أن ابنتي مريم تناديني أحيانا بأبي المكلثم.
العظماء عادة ينبغون في بيئة بسيطة وشعبية ويعانون تقتير الدنيا عليهم لكن الموهبة لا تقتلها الحياة العسيرة بل تشحذها حتى يقيض الله لتلك الموهبة شخصا آخر يكون بداية التألق والمشوار فطه حسين قيض الله له أحمد لطفي السيد، ومحمد عبد الوهاب أمير الشعراء شوقي وفيروز الإخوة الرحباني وقيض الله لأم كلثوم شخصان متألقان فنا وثقافة هما أبو العلا محمد في المبتدأ الذي اكتشف موهبتها فعمل على تعريف الأوساط الفنية القاهرية بها بعد أن كانت منشدة مع والدها وأخيها في الموالد ثم تعهد فنها الراقي رجل الاقتصاد طلعت حرب وتهيأت لها كوكبة من الشعراء الراقين كأحمد رامي وأحمد شوقي وإبراهيم ناجي وعبد الله الفيصل وحافظ إبراهيم فاجتمع الصوت العذب الخالد بالكلام الرائق الحلو الخالد، وأتاحت هي لشعراء بالبروز فإبراهيم ناجي ما كان ليشتهر لولا قصيدة “الأطلال” فشعراء “أبولو” كثر ومأمون الشناوي كذلك لكن قصتها مع أحمد رامي خالدة لقد شكلا ثنائيا عجيبا فلا تذكر أم كلثوم بدون أحمد رامي “شاعر الشباب “ولا يذكر رامي بدون أم كلثوم ثم كوكبة من الصحفيين اللامعين من أمثال المرحوم مصطفى أمين وأدباء كبار مدمنون على سماع غنائها أبرزهم العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وغيرهم، كما عرفت الساحة الفني تألق ملحنين كبار عملوا مع أم كلثوم أبرزهم محمد القصبجي وزكريا أحمد ورياض السنباطي الذي تفتقت عبقريته مع السيدة ومحمد عبد الوهاب وانتهاء بسيد مكاوي.
ما يدعو إلى الإعجاب في السيدة فضلا عن صوتها الخالد هو شخصيتها فقد كانت ذواقة للشعر وللأدب العربي القديم تقرأ في أمهات كتب الأدب ودواوين فحول الشعراء وتنتقي ما يعجبها هكذا غنت “أراك عصي المع لأبي فراس” ، و”ولد الهدى” لشوقي ، و”رباعيات الخيام” بتعريب رامي وغيرها ثم ترفعها وتعففها ومحافظتها على أداء الصلاة وقراءة القرآن ومشاركتها في أعمال البر فلم تكن تقبل بالغناء في مكان تدور فيه الخمر أبدا. ولم تكن تقبل بحذف بيت نال إعجابها ومن ذلك لما غنت قصيدة شوقي الشهيرة في مدح النبي عليه السلام:
ولد الهدى فالكائنات ضياء: وفم الزمان تبسم وثناء
طلب القصر الملكي إسقاط البيتين اللذين يقول فيهما شوقي:
الإشتراكيون أنت إمامهم** لولا دعاوى القوم والغلـــــواء
داويت متئدا وداووا طفرة** وأخف من بعض الدواء الداء
ورأى في ذلك دعوة صريحة إلى الاشتراكية في مصر الملكية لكنها رفضت وأصرت على البيتين وانتصرت وغنتهما مع الأبيات الأخرى.
لكنها في المواطن التي تغني لفحول الشعراء وترى في الشعر ما يخل بالذوق والخلق والتربية الدينية السليمة تعدل بما يتفق مع شخصيتها وتربيتها وخلقها ورسالتها ومن ذلك لما غنت رباعيات الخيام بتعريب أحمد رامي حيث يقول الخيام:
سمعت صوتا هاتف في السحر** نادى من الحان غفاة البشــــــــــر
هبوا املأوا كأس الطلى قبل أن ** تفعم كأس العمر كف القــــــــــدر
وواضح دعوة الخيام إلى الخمر الصريحة من خلال كلمتي “الحان “و”الطلى” لكن أم كلثوم أبدلت الحان بكلمة الغيب وكلمة الطلى بالمنى ووجدت حلا لما يخالف ذوقها ورسالتها الفنية.
ستمضي أجيال وأجيال وتطويهم الأحقاب جميعا لكن صوت السيدة سيبقى مشرئبا متطامنا إلى أذن الزمان يردد عليه آيات الفن والفكر والشعور وستمضي هذه الجعجعة العصرية إلى هوة النسيان بالرغم من توفر وسائل التسجيل في معظمها إلا النادر النادر لكن صوت السيدة سيظل خالدا كأبي الهول ونهر النيل يجمع القلوب والآذان على الصوت الخالد والكلام الراقي الشاعري الذي خلدته كتب الأدب ورددته الأجيال.