“سقوف الرغبة” لمحمود شقير.. عندما نحلم أننا نحلم

*فاروق وادي

 

هل يمكن أن يُعرّف الجنس الأدبي بطوله، فيصحّ أن نقول “القصّة القصيرة جداً”؟، كما أشيع، ولا نقول، على سبيل المثال، “القصيدة القصيرة جداً”؟

رغم أنني لا أميل إلى مثل هذا الوصف، وأعتبر القصّة القصيرة هي “قصيرة” وحسب، بغض النظر عن طولها أو عدد كلماتها ومدى ميل الكاتب إلى اختزالها إلى الحدّ الأدنى الذي تفرضه القصّة عليه، فإن تجربة محمود شقير، إن لم تمثّل استثناء، فإنها تشكّل تجربة متفرّدة تستحق الوقوف والتأمّل والدراسة.

فشقير تجاوز الفرنسيّة نتالي ساروت التي فاجأتنا ربما بأول مجموعة قصصيّة كاملة تضم قصصاً بالغة القصر، حملت عنوان «انفعالات»، لتصبح “القصّة القصيرة جداً” (ها نحن نستخدم المصطلح الذي نعترض عليه)، مشروعاً إبداعياً لواحد من أهم كتّابها. فمجموعته «سقوف الرّغبة»، التي نحن بصددها ( صدرت حديثاً ـ 2017 عن “مكتبة كل شيء” في فلسطين)، هي كتابه السادس في هذا المجال، كما يشير الثبت الذي وضعه الكاتب في نهاية صفحات كتابه، ضمن ما يزيد عن الخمسين كتاباً أصدرها شقير حتّى الآن

هذا الشكل الكتابي الذي يعتمد طول النّص وكثافته، والذي يندرج في صميم هموم الكتابة الإبداعيّة للكاتب، ويمارسه كمشروع كتابي، يلجأ إليه عديد من الكتّاب باستخفاف، أو كنزوة عابرة، فيما يمارسه آخرون، من منطلق أنه “قصّة قصيرة” وحسب، كما فعل يوسف إدريس، على سبيل المثال في قصّته “العصفور والسلك”، ضمن مجموعته «بيت من لحم». 

وكوننا أمام مشروع، يعنى أن الجديّة التي يتناول بها الكاتب موضوعه، تفرض على الدارس التوقف أمام الأمر باحترام وجديّة موازية. وربما تقتضي المسألة القراءة الشّاملة للنتاج الجديد، في سياق شموليّة المشروع المنجز للكاتب في هذا المجال.

لكن عزلاً تعسفياً للمجموعة الجديدة عن أخواتها، يفرض نفسه علينا هنا، كوننا لا نطمح هنا بمثل تلك الدراسة الشموليّة في هذا المجال الضيّق، وإنما الاكتفاء بوقفة أمام الجديد، مع التوصية المسبقة بالإحالة إلى القراءات التي سبقتنا وتناولت هذه التجربة

***


الحلم، هو لُحمة القصّة، أو الأقصوصة، في هذه المجموعة، فتكاد لا تخلو قصّة واحدة فيها، والتي تجاوزت المئة والعشرين، من موضوعة الحلم. ناهيك عن أن البنية التي يقوم عليها السّرد مشيّدة بمادة الحلم نفسه: لغة رقيقة، وخيالاً شفيفاً جامحاً، وشخصيّات شاعريّة، ومكاناً لامرئياً، حتى لو رأينا أن مكان السّرد مجروحاً، أحياناً، بوجود جنود الاحتلال ودورياتهم الفظة، ما يومئ إلى المكان الفلسطيني غالباً.

وفي أحلام شقير، يطل الحلم على الحلم؛ تدخل الحبيبة دون استئذان أو إنذار إلى حلم الحبيب، كحقّ من حوقها المشروعة، ويقول الحبيب إنه لا يحلم إلا بالقرب من حلم الحبيبة. والأحلام هناك تبقى بالغة الحساسيّة، حتّى أنه يمكن أن يصيبها البلل، فسقف الحلم قابل للامّحاء والخراب، وجدار الحلم يمكن أن يكون مثقوباً. ومع ذلك لا يفقد الحلم قدرته على تحقيق الرغبات، ليس بالمعنى الفرويدي للكلمة، كإشباع رمزي للرغبة المكبوتة، وإنما بالمعنى الدقيق للكلمة. بمعنى فعاليّة الحلم كمنقذ من مأزق واقعي محدّد..”وأنا رحت أحلم حلماً يعيدنا معاً من ذلك السفح حتّى لا نقع في محظور ما“.

ولأننا نعيش في أرض الأحلام، سنجد أن الأشياء متميزة بالشفافيّة والرّقة، ونلحظ فيها خفّة الكائنات، بحيث تبدو الأجساد بالغة الطلاقة، وسهلة الانطلاق، تطير بلا أجنحة، وتتحرر من ظلّها، فأنت تستطيع أن تمضي ليبقى ظلّك في المكان؛ فيتحقق وجود الظلّ بمعزل عن وجود الجسد. كما يمكن للمرء، في ذلك العالم الشفيف، أن يحلم أنه يحلم، وهو أمر يُقرّب الإنسان من أقرب حالات يقظته، أو كما يقول “نوفاليس”: “حين نحلم أننا نحلم، فتلك بداية اليقظة”. ومثل تلك الشخصيّات لا تحلم أنها تحلم فحسب،  بل يمكنها أن تذهب أبعد من ذلك، فتنام أثناء نومها، أو تستيقظ في الحلم أثناء سباتها.. “حلمتُ انني صحوت“!

ثمّة أمور لا تحدث في الحلم فقط، وإنما في حلم الحلم. وهنا يمكن توحيد حلميّ الحبيبين في حلم واحد، دلالة توحّد الروحين والغاء المسافات بين قلب الحبيب ونصفه الآخر. أو يمكن للحبيبين أن يتعاهدا على اللقاء في حلم واحد منهما “لعلنا نلتقي في حلمي أو في حلمها”، أو يمكن للمرء، في ذلك العالم، أن يجري تعديلاً على حلمه ليوائم رغباته. وقد يعمل على تركيز الحلم ليحقق أبعد أمانيه.. “سأحلم حلماً يجعلها تلد سبعة توائم”، بمعنى أن الحلم يستجيب للإرادة، وأن الواقع يستجيب لإرادة الحلم.

ويحرص شقير على النأي بأحلام شخوصه عن العناصر التي تعمل، بكل جبروتها، على تلويث الحلم أو تبديده، وفي مقدمتها خطوات أقدام جنود الاحتلال على أرض المدينة المقدّسة وبلاطها، ورفض مشهد دورياتهم الاستفزازيّة، وإلغاء ضجيج طائراتهم، أو مرأى قطعان مستوطنيهم. فبوجود مثل تلك العناصر الباهظة على المشهد العام، يتمظهر الحلم كشيء معادِ للبشر، ويغدو كابوساً ضاغطاً على الناس. فالمرأة التي تلح عليها رغبة بأن تستلقي لدقائق على بلاط القدس العتيقة بالقرب من باب العمود، لم تتجرأ على تحقيق رغبتها.. “بسبب عيون المارّة وأقدام الجنود“.

وإذا كانت الفظاظة التي يفرضها وجود الاحتلال قادرة أحياناً على تلويث الحياة وإفسادها، فإن تحديها المباشر يفرض أحياناً على الكاتب لغة مباشرة حادّة تُخرج النّص من رهافة الحلم ورقّة الفنّ وسلاسة القصّ، من مثل: “يطلقون علينا النار، ونحن نغني وننزف الدماء ولا نموت، نعم لا نموت”؛ ” نريد وطناً حراً خالصاً من رجس الغزاة، نغسله بأيدينا من أقصاه إلى أقصاه، حتى لا يبقى لرجسهم الكريه من أثر”؛ “الأمهات اللواتي ولدن للتوّ أطفالاً ولدوا من رحم المأساة“! 

لكن ثمّة إرادة واعية لبساطة التحدي، تصنع بدورها بساطة في الفن، أو أنه هو الذي يصنعها. نلمس ذلك، على سبيل المثال، في أقصوصة “الحاجز”، خاتمة المجموعة، والتي تمثّل نموذجاً للقصّة الموفّقة فنياً رغم انطوائها على خطاب وطني، هو في طبعه بالغ الحساسيّة وقابل لكسر القيمة الإبداعيّة أحياناً، أو شرخها على أقل تقدير. بيد أن تلك القيمة تتقدّم هنا ببساطة شديدة ودون أدنى قدر من المباشرة أو الافتعال، لنقرأ:

ذات يوم عند الحاجز العسكري، في الطريق من رام الله إلى القدس، انتظرنا، أنا وليلى، ثلاث ساعات:.
شربنا قهوة من بائع جوّال، تداولنا آخر الأخبار، ولم نتذمّر من شدّة الحرّ رغم ما أصابنا من إرهاق. وبالقرب منّا امرأة تسرّح شعرها، كأنها تهيء نفسها كي تنام.
والازدحام كان على أشدّه، والجنود الغرباء بدوا متعبين خلف الحاجز، كما لو أنّنا نحن الذين نحتجزهم هناك“.

***


وبالرغم من أننا نقف أمام أقاصيص يصر الكاتب على أنها “قصص قصيرة جداً”، إلاّ أن الواحدة منها تمد مع الأخرى خيوطاً وتغزل علاقة حميمة تصنع في التقائها سرداً يقارب النفس الروائي. يعزز الأمر تكرار العديد من الشخصيات القصصيّة التي يذكرنا وجودها بالشخصيات الروائيّة متواصلة الحضور (ليلى وقيس؛ الكهل النحيف؛ نوارة؛ العنزة الرعناء.. الخ). كما يتوحد زمن السرد أحياناً في زمن الاحتلال، ومكان السرد يكون هو الأرض المحتلة، ومدينة القدس خاصّة.

وإذ تغيب النهايات عن العديد من القصص في كثير من الأحيان، فإننا قد نعيد ذلك إلى أن الأحلام، في طبيعتها، غالباً ما تأتي في العادة دون نهاية دقيقة، منطقيّة، ومرسومة بشكل بالغ الوضوح، أو لأن نهاية الحلم تضيع بضياع الحلم نفسه أو نتيجة اليقظة المفاجئة، غير المنتظرة أو المتوقّعة

وأمام أقاصيص على هذه الدرجة من الرهافة، تبدو محاولة مواصلة إخضاع هذا العالم لجديّة النقد، نوعاً من ممارسة شيء أقرب ما يكون إلى إخضاع الطفولة للمساءلة، والأحلام إلى المنطق وبرودة العقل.

وإذا كان ثمّة نماذج كثيرة من الأقاصيص، أعترف إزاءها بأنني عاجز عن اختزالها، فإنني مع ذلك أشير إلى بعض العناوين لنصوص متميّزة: “رغبة”، “انقياد”، “الربيع”، “انتظار”، “عطر”، “ترحيب”، “غناء”..وغيرها كثير. إلا أن القصّة التي سحرتني ولا أجرؤ على اختزالها أو الاكتفاء بالإشارة إليها وحسب، هي قصّة “مريول”، التي أجد أن إيرادها بالنّص، هو أفضل مديح لها ولهذه التجربة المتميّزة في القصّ. فليكن إيرادها كاملة هو مسك ختام الحديث عن هذه المجموعة، من منطلق أن أفضل مديح للموسيقى هو الموسيقى نفسها:

ظلّت تحتفظ بمريولها المدرسي ذي اللونين الأبيض والأخضر لسبب ما.
الآن وهي في الأربعين تتأمل المريول، تتذكّر أيّام الشغب، وتنشد نشيد الصباح.
ثم تعدّ القهوة في انتظار زوج لا يجيء.
صبّت فنجانًا له وفنجانًا لها. جلست في الشرفة، وأصغت لقلبها وهو يحكي لها كلامًا مباحًا وكلامًا غير مباح“.
________
*مجلة رمان الثقافية.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *