أورهان باموق يبوح بأسرار الكتابة

(ثقافات)

أورهان باموق يبوح بأسرار الكتابة

اختيار وترجمة: سارة حامد حواس

 

بين سن السَّابعة والثالثة والعشرين، كنتُ أرغبُ في أن أكون رسَّامًا، فأنا أنتمي إلى عائلة من المهندسين، فجدي كان مهندسًا مدنيًّا، وكذلك والدي وأعمامي. لذلك كان من المتوقع أن أواصلَ هذا الطريق وأصبح مهندسًا، وأن أدرس في الجامعة نفسها التي درس فيها والدي وأعمامي. هذا ما كانت جدتي ووالدي يرغبان أن أفعله. كان يتمتَّعُ جميع أفراد عائلتي بعقليةٍ رياضيةٍ، لذا توقعوا أن أصبح أستاذًا أو مهندسًا معماريًّا، بخاصة أنني كنتُ أدْرسُ الرَّسم في طفولتي.

التحقتُ بأفضلِ كلية للهندسة المعمارية في إسطنبول، لكنَّني تركتها بعد ثلاث سنواتٍ عندما أدركتُ أنَّني أريدُ أن أكون كاتبًا. كما أدركتُ أنني لن أستطيع أن أصبح رسَّامًا في تركيا في ذلك الوقت، ربما لأنَّ تقليد الرسم لم يكن موجودًا بشكلٍ قويٍّ هناك. وعندما أصبحتُ كاتبًا شهيرًا، بدأ الناس يسألونني: “سيد باموق، لماذا تركتُ الرَّسم وأصبحت كاتبًا؟”

في ذلك الوقت قررتُ كتابة رواية عن الرسم والرسامين وعن فن الرَّسم في الإسلام. تُغطِّي روايتي ”اسمي أحمر” جميع جوانب الأدب الإسلامي الكلاسيكي، فيمكن للقارئ أن يجدَ فيها معلومات عن الشَّاعر الفارسي

”الفردوسي”، وكتابه ”الشَّاه نامة”، إضافةً إلى القصص الإسلامية الكلاسيكية، وعن المصورين في الإمبراطورية العثمانية. تتحدَّثُ روايتي عن فنِّ المنمنمات الإسلامية، وقمتُ فيها بإعادة صياغة القصص الإسلامية الكلاسيكية بأسلوبٍ جديدٍ حديثٍ، بل وربما ما بعد حداثيٍّ.

”اسمي أحمر”، هي أعظم رواية تاريخية لي، وربما الأكثر شهرةً على مستوى العالم. تدورُ أحداث الرواية في القرن السادس عشر بين مصوري المنمنمات العثمانيين. لا توثق الرواية حياتهم وأساليبهم فحسب، بل تتناولُ أيضًا الرسامين الفارسيين وجزئيًّا الرسامين المغول الهنود، وكيف غيَّر الغرب أسلوبهم في الرسم.

فهذه الرواية بمنزلة موسوعة عن الأدب الإسلامي الكلاسيكي. كتبت تلك الرواية بعد قراءة العديد من الكتب التاريخية، وإجراء أبحاث مكثَّفة، وأيضًا بعد دراسة المنمنمات الفارسية والعثمانية والمغولية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر.

هذا سؤال يُطرح عليَّ كثيرًا. يعتقدُ الناس أنَّه يمكنني في خمس دقائق تعليمهم كيفية كتابة كتاب.

أولا، يجب أن يكونُ لديك قصة تؤمن بها أو مجال من التجربة الإنسانية. ربما تعملُ في متجر بقالة وتجدهُ مثيرًا للاهتمام؛ أو ربما تكون مسافرًا؛ أو لديك تجربة تود مشاركتها، أو ربما لديك الكثير من الأصدقاء وتعرفُ قصصهم أو تعرفُ الكثير عن تجارب الناس التي ترغبُ في الكتابة عنها.

تحتاجُ إلى هذه الأشياء لتبدأَ في كتابة رواية.

بعد ذلك، عليك أن تختصرَ تلك التجارب في شكلِ قصَّةٍ. كما يجبُ أن تفكِّرَ في تفاصيل القصة، والأهم من ذلك، عليك أن تُقسِّمُ القصة إلى فصولٍ، أي إلى 15 أو 20 وحدة. ثم تبدأُ التفكير في كل وحدةٍ على حدةٍ. هذه هي النصيحة التي يمكنني أن أقدمها لك.

يمرُّ الكاتب بالعديد من الحالات المزاجية. أشعر أحيانًا بشاعريةٍ وأكتبُ بطريقةٍ شاعريةٍ. وأشعرُ ، أحيانًا أُخرى، بعقلانيةٍ شديدةٍ فأكتبُ بأسلوبٍ منطقيٍّ للغاية. الكاتب يشبه شخصياته تمامًا؛ يمرُّ بالكثير من الحالات المزاجية. وفي النهاية، يقومُ بتحرير هذه الحالات المزاجية. الرواية تشبه الموسيقى، تحملُ داخلها الكثير من المشاعر. أحيانًا تكونُ شاعرية، وأحيانًا تكون تعليمية أو تثقيفية، وأحيانًا أُخرى، عقلانية، أو غاضبة، أو سعيدة.

تميلُ رواياتي إلى أن تكون طويلة، فبعضها يصل إلى 450 صفحة أو أكثر. يعتقدُ الناس أنَّني أُفكِّرُ في كل شيءٍ يتعلقُ بالرواية في ليلةٍ واحدةٍ فقط، وهذا مستحيل، فخيال الإنسان محدود. أبدأُ أولا بالتفكير في قصة الكتاب وبعض التفاصيل.

لنتخيل الرواية كشجرةٍ. لا يمكنني في البداية أن أتخيل كل الأوراق، وكل الأغصان، وكل الجذور، هذا مستحيل. ولكن نعم، في البداية تكون لديَّ فكرة عن الجذع؛ وعن بعض الأوراق، ليس جميعها بل بعضها؛ ولديَّ فكرة أيضًا عن بعض الجذور.

كلما كتبتُ عن الأشياء التي أعرفها، تبدأُ تتكشَّف لي التفاصيل الأخرى: بعض الأوراق الأخرى، وبعض الأغصان الأخرى، وبعض الجذور الأخرى. أستخدمُ مثال الشجرة لأنَّ الناس يعتقدون أن الكاتب؛ يكون لديه كل شيء في ذهنه؛ من الورقة الأولى إلى الورقة الأخيرة، وهذا غير صحيح. تتشكَّلُ الرواية في ذهن الكاتب أثناء كتابتها.

أقومُ بالكثير من البحث قبل البدء في كتابة كتاب. وفي بعض الكتب، أخرجُ إلى الشوارع لأسأل الناس أسئلة، فهذا أيضًا نوع من البحث. أحيانًا، كما في رواية ”غَرَابةٌ في عقلي” التي تتحدثُ عن الباعة الجائلين، أذهبُ للبحث عن هؤلاء الأشخاص وأحاول أن أجعلهم يتحدَّثون.

وفي النهاية، يتحدَّثُ بعض الناس، والبعض الآخر لا. لماذا لا يرغبون في الحديث؟ ربما يخافون من السياسة؛ أو ربما يخافون من الآخرين؛ وقد يكونُ السبب أيضًا أنَّهم يشعرون بالخجل من حياتهم الصعبة أو من معاناتهم، فيجبُ أن يثق بك الناس أولا ليتمكنوا من مشاركة قصصهم معك.

أتعاملُ معهم بلطف، وأساعدهم على الانفتاح. أدعو بائعي الزبادي، والعمال المؤقتين، وحفاري الآبار، والسكارى إلى منزلي، ونجري محادثات طويلة. وبمجرَّد أن يثقوا بي، يبدأون في إخباري بقصصهم. أحيانًا يقولون لي: “حسنًا، لقد أخبرتك بجميع قصصي؛ الآن هناك قصص أبناء عمي، وإخوتي، وأعمامي،… هناك أشخاص آخرون يرغبون في أن يخبروك بقصصهم”، وهذا أيضًا نوع من البحث.

التحريرُ عمليةٌ طبيعيةٌ، وبالطبع عليك إجراء تغييرات. السرُّ في الكتابة الجميلة يكمنُ في التغيير وإعادة الكتابة.

فالأمر لا يقتصرُ على أنَّني أكتب كتابًا وأنشرهُ فورًا. فأنا أقضي معظم وقتي في إعادة الكتابة، والتصحيح، وإجراء التعديلات.

أصبح من الصعب جدًّا إيصال الحقيقة بسبب تطورات وسائل الإعلام، ففي الإعلام الرقمي، يمتلكُ كل شخصٍ “حقيقته” الخاصة. يحصل الناس على أخبارهم من فيسبوك، ويتعرفون العالم من خلاله ومن خلال x “تويتر”. يتعلمون فقط الحقائق التي يرغبون في سماعها، وما يحبونه، وليس الحقائق الصعبة أو الحقائق التي لا يريدون معرفتها، وهذا هو موضوع الحضارة الغربية الآن. أصبح قول الحقيقة في عالم اليوم أمرًا بالغ الصعوبة.

ما يجعلني سعيدًا، هو أن أغرق تمامًا في ما أكتبه، وأن أتمكَّن من نسيان العالم من حولي وأتفرَّغُ فقط لروايتي، وأن أشعرَ بالسعادة تجاهها، وأيضًا أن أنسى المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحتى المشكلات الشخصية. أنا شخصٌ مجتهدٌ وأرغبُ في العمل بجِدٍّ وبشكلٍ أكبر.

وما يجعلني حزينًا، أن أرى أحلامي بشأن بلدي وأصدقائي لا تتحقَّق؛ وأن ألاحظ أنني أهدرت يومًا من حياتي أو أضعت وقتي من دون فائدةٍ؛ أو أن أرى أن الظروف الاجتماعية في بلدي لا تتحسن، فالفقر والظلم أيضًا من الأمور التي تجعلني حزينًا.

تُقدِّم الروايات الواقع اليومي، ولكن بشكلٍ مُحرَّر ومُنقَّح. يبحث القُرَّاءُ في الشخصيات عن شيءٍ ذي معنى داخل الألم المألوف للحياة اليومية. نصوغُ الواقع لنلمِّحَ إلى وجود معنى، من دون أن نهربَ منه فعليًّا.

هناك نهجان في الأدب: الأول يسعى إلى التقاط العالم عبر اختزاله، من خلال سردٍ قصصٍ تُقطِّرُ الحياة إلى لحظاتٍ دراميةٍ، أشبه بخريطة خورخي لويس بورخيس التي تُغطِّي العالم بالكامل، بامتدادٍ يُعادل حجم العالم نفسه، وهذا هو النهج الملحمي. أما النهج الثاني فهو النهج الدرامي، الذي يركِّزُ على التجارب الصغيرة والفورية، وأعتقد أن على الروائي أن يجمعَ بين كلا المنظورين.

لا تكمنُ متعة الكتابة في الهروب من “سطح” الواقع الممل، بل في إعادة صياغة هذا السطح، وابتكار أسطح جديدة توحي بطبقاتٍ أعمق تحتها. منحنا العصر الحديث رغبةً في تأمُّل أسطح الحياة اليومية واكتشاف نكهاتها وأسلوبها وخصائصها الفريدة، وذلك على عكس الملاحم القديمة التي كانت مليئةً بالمعارك والمغامرات الكبرى. فهدف الأدب والفن، بالنسبة لي، ليس الهروب من هذه الأسطح، بل كشف معنى جديد، وبنية جديدة، وإبداع ينسجمُ مع نمط الحياة.

لدينا جميعًا أهداف في الحياة، لكن نادرًا ما نكون على درايةٍ تامَّةٍ بها. في رواية ”الأحمر والأسود”، يمتلكُ جوليان سوريل هدفًا واضحًا وربما سطحيًّا: أن يرتقي في السلم الاجتماعي. هذا الهدف معروفٌ للقارئ والشخصية وحتى المؤلف. فهو ذكيٌّ، ووسيمٌ، وماكرٌ، لكن ما يجعلنا نستمرُّ في القراءة ليس هذا الهدف الواضح. بل أسلوب طموحه، وتفاصيل مناوراته الاجتماعية، وعلاقاته العاطفية، وسخريته، وأكاذيبه، وإخلاصه، وتشابكاته الرومانسية.

لا ينبغي أن ترتكز الروايات على الغايات العظيمة أو السرديات الشاملة، وغالبًا ما تكون في أفضل حالاتها عندما تتبنى العشوائية. قد تبدو حياتنا سطحيَّة، لكن الروايات تُضفي عليها معنى وغاية. فالحياة التي تبدو بلا هدفٍ واعٍ ليست عديمة المعنى. فالرواية السياسية القوية، على سبيل المثال، لا تحتاجُ إلى تضخيم الأهداف السياسية لشخصياتها. عوضًا عن ذلك، تكشفُ أن تفاصيل حياة هذه الشخصيات تختلفُ عن سياستها. تكمنُ الدراما في التوتر بين هدف الشخصية وقوام حياتها. هذا الاختلاف، وهذا التناقض، بين الأهداف الشخصية والسياسية، يكشفُ لنا الجوهر الحقيقي للرواية.

هناك نوعان من الكُتَّاب: الكُتَّاب الميلودراميون، والكُتّاب الدراميون؛ الكُتّاب الفكاهيون، والكُتّاب الجادون؛ وهكذا. ولكن هناك تمييز دائمًا ما أضعه في الاعتبار: الكُتّاب الذين يتحدثون عن الطعام ويكتبون عنه بشغفٍ، والكُتّاب الذين لا يذكرونه إطلاقًا. لن تجد أي إشارة للطعام في أعمال دوستويفسكي، بينما يستمتعُ توماس مان بالخوض في تفاصيله. أنا من النوع الأول، وأُحب الحديث عن الطعام، أولًا وقبل كل شيءٍ. وثانيًا، والأهم، جعلتُ بطل روايتي ”ليالي الطَّاعون”، بائعًا متجولًا.

ثمانون بالمئة من الباعة الجائلين خلال الثمانين عامًا الماضية كانوا يبيعون الزبادي. وشخصيتي في الرواية، تبيعُ الزبادي، والآيس كريم، والبوظة، والدجاج مع الأرز، وما إلى ذلك.

الإلهام أمرٌ أساسيٌّ، لكن السر الأهم للكاتب ليس الإلهام، لأنَّ مصدر الإلهام ليس واضحًا أبدًا. الأهم من ذلك، عناد الكاتب وصبره.

اليوم، أنا أكثر فخرًا بإصراري على الكتابة من موهبتي، رغم أنني أعتقد أنني موهوب أيضًا. المثل التركي الجميل، ”حفر بئر بإبرة”، يبدو لي كأنه قيل خصيصًا للكُتَّاب. في القصص القديمة، أحبُّ صبر فرحات الذي يحفرُ الجبال من أجل حبه، وأُقدِّرهُ.

إذا أراد الكاتب أن يروي قصته، فعليه أن يرويها ببطءٍ كأنَّها قصة عن أشخاص آخرين. وإذا أراد أن يشعرَ بقوة القصة وهي تنبعثُ من داخله، وإذا أراد أن يجلسَ إلى طاولته ويسلِّمُ نفسه بصبرٍ لهذا الفن، ولهذه الحرفة، فعليه أولا أن يمتلكَ شيئًا من الأمل. ملاكُ الإلهام (الذي يزور البعض بانتظامٍ ويتجاهلُ البعض الآخر) يفضِّلُ من يمتلكون الأمل والثقة. وعندما يشعرُ الكاتب بأقصى درجات الوحدة، وتساوره الشكوك حول جهوده وأحلامه وقيمة كتاباته، وعندما يظنُّ أن قصته تخصُّه وحده، في مثل هذه اللحظات، يختارُ الملاك أن يكشفَ له عن قصصٍ وصورٍ وأحلامٍ تُشكِّلُ العالم الذي يتمنَّى بناءه.

عندما أُفكِّرُ في الكتب التي كرَّستُ لها حياتي، فإنَّ أكثر اللحظات التي تفاجئني هي تلك التي شعرتُ فيها كأنَّ الجُمل والأحلام والصفحات التي منحتني سعادةً غامرةً لم تأتِ من خيالي الخاص، بل قوة أخرى وجدَتْها وقدمتها لي بسخاءٍ.

يتحدَّثُ الكاتب عن أمورٍ يعرفها الجميع، لكنهم لا يدركون أنهم يعرفونها. استكشاف هذا النَّوعُ من المعرفة، ومشاهدتها وهي تنمو، أمرٌ ممتعٌ؛ فالقارئ يزورُ عالمًا مألوفًا ولكنه إعجازيٌّ في الوقت نفسه . أمَّا السر الثاني المهم للكاتب هو الإيمان بإنسانيةٍ مشتركةٍ. تنبعُ ثقتي من إيماني بأنَّ جميع البشر يشبهون بعضهم البعض، وأن الآخرين يحملون جراحًا تشبه جراحي، ولذلك سيفهمون. كل أدبٍ حقيقيٍّ ينبعُ من هذه القناعة الطفولية المفعمة بالأمل بأنَّ جميع الناس يشبهون بعضهم . فعندما ينعزلُ الكاتب في غرفة لسنواتٍ طويلةٍ، فإنَّه بهذا الفعل يشيرُ إلى إنسانيةٍ

واحدةٍ، إلى عالمٍ بلا مركزٍ.

ولكن، من ناحيةٍ أخرى، من الصَّعبِ تصديق أن حياتنا تُشبه حياة الآخرين في العالم. هناك شيءٌ في عوالمنا الصغيرة ينكرُ هذا الطَّابعَ العالمي. لقد وصفتُ في كتبي بتفصيلٍ عن كيف أثارت هذه الحقيقة إحساسًا تشيخوفيًّا بالانعزالية، وكيف قادني هذا، بطرقٍ أخرى، إلى التساؤل عن أصالتي.

أعرف من تجربتي أنَّ الغالبية العظمى من الناس على هذه الأرض يعيشون بهذه المشاعر ذاتها، وأنَّ الكثير منهم يعاني من إحساسٍ أعمق بعدم الكفاية، وانعدام الأمان، والشعور بالمهانة أكثر ممَّا أفعلهُ أنا.

لكن في يومنا هذا، تقدِّمُ لنا التلفزيونات والصحف هذه القضايا الأساسية بسرعةٍ وببساطةٍ تفوقُ ما يمكنُ أن يُقدِّمهُ الأدب. ما يحتاج إليه الأدب اليوم ليخبرنا عنه ويبحثُ فيه هو مخاوف الإنسان الأساسية: الخوفُ من أن يكون مُهمَلًا، والخوف من أن يكون بلا قيمةٍ، والقلقُ العميقُ الناتج عن الإحساس بعدم الأهميةِ، وما يُصاحب هذه المخاوف من شعورٍ بالدونيَّةِ وانعدام القيمة.

هناك العديد من الأسباب التي تدفعنا للكتابة. لكن بمجرَّد أن نعزلَ أنفسنا، سرعان ما نكتشفُ أنَّنا لسنا وحدنا كما كنا نظن. نحن في صحبةِ كلمات من سبقونا، وقصص الآخرين، وكتب الآخرين، وكلمات الآخرين، ذلك الشيء الذي نسمِّيه التقاليد.

أعتقد أنَّ الأدب هو أثمن كنز جمعته البشرية في سعيها إلى فهم ذاتها. فالمجتمعات والقبائل والشعوب تصبحُ أكثر ذكاءً وثراءً وتقدمًا عندما تُولي اهتمامًا للكلمات المُقلقة لكُتَّابها. وكما نعلمُ جميعًا، فإن حرق الكتب وتشويه سمعة الكُتَّاب هما إشارتان على قدوم أوقاتٍ مظلمةٍ وقصيرةِ النَّظر. لكن الأدب ليس مجرد شأنٍ قوميٍّ. فالكاتب الذي يعزلُ نفسه في غرفةٍ وينطلقُ أولًا في رحلة داخل ذاته سيكتشف، مع مرور السنوات، القاعدة الأبدية للأدب: يجبُ أن يمتلك موهبة سرد قصصه الخاصة كأنها قصص الآخرين، وسرد قصص الآخرين كأنها قصصه الخاصة، لأن هذا هو جوهر الأدب. ولكن علينا أولًا أن نمرَّ عبر قصص الآخرين وكتبهم.

‏‎كثيرًا ما أفكِّرُ في القصائد التي لم أتمكَّنُ من كتابتها. كُنتُ أمارسُ العزلة، والوحدة، في جوهرها، مسألة كبرياء؛ أي تُغرقُ نفسك في رائحتك الخاصة. الأمر ذاته ينطبق على جميع الشعراء الحقيقيين. إذا كنت سعيدًا لفترةٍ طويلةٍ جدًّا، ستصبح مبتذلًا. وبالمنطق نفسه، إذا كنت تعسًا لفترةٍ طويلةٍ، ستفقدُ قدرتك الشعرية. فلا يُمكن أن

توجدَ السعادة والفقر معًا إلا لفترةٍ وجيزةٍ للغاية. بعدها، إما أن تُفسدَ السعادة روح الشاعر، أو تكونَ القصيدة صادقةً لدرجة أنها تدمر تلك السعادة.

كثيرٌ من كُتَّاب القرن التاسع عشر العُظماء كتبوا تحت ظروفِ رقابةٍ صارمةٍ. لكن ما يُميِّزُ فن كتابة الرواية هو أنَّك تستطيعُ الكتابة عن أي شيءٍ. كل ما عليك فعلهُ هو أن تقول إنهُّ عملٌ خياليٌّ.

لم يتغيرْ شيءٌ في حياتي منذ أن أصبحتُ أعمل طوال الوقت. لقد قضيتُ ثلاثين عامًا أكتبُ الروايات. وخلال السنوات العشر الأولى كنت قلقًا بشأن المال ولم يسألني أحدٌ عن مقدار ما أكسبهُ. وفي العقد الثاني أنفقتُ المال ولم يكن أحد يسألني عن ذلك. أما في السنوات العشر الأخيرة، أصبح الجميع يتوقعون أن أخبرهم كيف أنفقُ المال، ولن أفعل ذلك.

💢 طقوس الكتاب عند أورهان باموق:

أشعرُ أحيانًا أنَّني آخر شخص ما زال يكتبُ باليد. لكنني أعلمُ أنَّ هناك كُتَّابًا آخرين مثلي ما زالوا يفعلون ذلك. عندما كنت أصغر سنًّا، كنت أعتقدُ أن الآلات الكاتبة مخصَّصة للصحفيين، وبما أنني كاتب، فلا حاجة لي بها. وعندما ظهرت أجهزة الكمبيوتر، كنت أكتبُ بخط اليد منذُ فترةٍ طويلةٍ ولم أرغبْ في تغيير عاداتي، رغم أنَّني أكتبُ ببطءٍ شديدٍ. فيمكنني أن أمضي يومًا كاملًا في الكتابة، وأخرجَ في النهاية بنصف صفحةٍ أو صفحةٍ . ومع ذلك، لم أرغب في قضاء يومي بأكملهِ مُحدِّقًا في شاشة الكمبيوتر كأنُّه حوض سمك صغير. كانت أولى شاشات الكمبيوتر تجعل عيني تدمع، وربما لهذا السبب لم أتمكَّن من التغيير، لكن لا بأس بذلك.

أكتبُ باليد، بهدوءٍ وصبرٍ، وعيناي دائمًا على الورقة. أستمتعُ بمراقبة القلم وهو يتقدَّمُ على الصفحة مثل فرشاة الرسم، كما أستمتعُ برائحة الحبر والورق، وبمشهد الأوراق المتناثرة حولي، والممحاة، وقصاصات الورق. أكتبُ قليلًا، ثم أعود وأراجع ما كتبته لأقوم بالتصحيحات. وعندما تصبحُ الصفحة فوضوية جدًّا، أمُزِّقها وأُعيدُ كتابتها مرة أخرى، ومرة أخرى، ومرة أخرى. الكتابةُ بالنسبة لي هي إعادة الكتابة، والصبر، والتفكير المستمر فيما سأقوله لاحقًا، والحفاظ على ما كتبتُه بالفعل، هذا هو النهج الذي اتبعته في عملي.

اعتقدتُ دائمًا أن المكان الذي تنام فيه أو المكان الذي تشاركهُ مع شريك حياتك يجبُ أن يكون منفصلًا عن المكان الذي تكتبُ فيه، فالطقوس المنزلية والتفاصيل اليومية تقتلُ الخيال بطريقةٍ ما، وتقتلُ الشغف داخلي. كما أنَّ الروتين اليومي المُعتاد يجعلُ الَّلهفة إلى العالم الآخر، الذي يحتاجه الخيال ليعمل، يتلاشى تدريجيًّا. لذلك، لسنواتٍ عديدةٍ كنتُ دائمًا أملك مكتبًا أو مكانًا صغيرًا خارج المنزل للعمل فيه، وكنت ُ دائمًا أعيش في شقق مختلفة.

لكن في مرَّةٍ قضيتُ نصف فصل دراسي في الولايات المتحدة الأمريكية بينما كانت زوجتي السابقة تتابع دراستها للحصول على درجة الدكتوراه في جامعة كولومبيا. كُنَّا نعيشُ في شقَّةٍ مُخصَّصة للطلَّاب المتزوجين ولم يكن لدينا أي مساحةٍ كافيةٍ، لذا اضطررت للنوم والكتابة في المكان نفسه. كان كل ما يذكِّرني بالحياة الأسرية يُحيطُ بي من كل جانبٍ، وهذا الأمر أزعجني. في الصباحات، كنت أودع زوجتي كأنَّني ذاهبٌ إلى العمل. كنت أغادر المنزل، وأقوم بجولة سيرًا على قدميَّ حول بضعة شوارعٍ ثم أعودُ كأنَّني شخص يصلُ إلى مكتبه.

منذ عشر سنوات وجدتُ شقةً تطلُّ على مضيق البوسفور ذات إطلالة ساحرة على المدينة القديمة. ربما تكون هذه واحدة من أفضل الإطلالات في إسطنبول. تبعدُ الشقة عن منزلي حوالي 25 دقيقة سيرًا على قدميَّ، وكانت الشقة مليئة بالكتب، وكان مكتبي يطلُّ مباشرةً على هذه الإطلالة. كنتُ أقضي هناك، حوالي عشر ساعات يوميًّا تقريبًا.

فأنا أعمل بجد، وأستمتع بذلك. يقولُ البعض إنني طموح، وربما يكون في ذلك شيء من الصحة. لكنني عاشقٌ لما أفعلهُ. أحبُّ الجلوس إلى مكتبي كطفلٍ يلعبُ بألعابه. إنَّه عمل في جوهره، لكنه أيضًا متعة ولعبة في الوقت ذاته.

‏‎السرُّ في أن تكون كاتبًا، بالطبع، هو الانضباط. أنا شخصٌ يعمل بجد، مهووس بالعمل، وأدرك أيضًا أن الإنتاجية تنمو بشكلٍ مضاعفٍ وفقًا للوقت الذي تقضيه أمام مكتبك. فإذا قضيتُ ثلاث ساعات تكتبُ ثلاث صفحات، وإذا قضيتُ عشر

ساعات يمكنك كتابة 30 صفحة!

فالإنتاجية تنمو بشكلٍ متسارعٍ، لكنها تستهلكُ روحك في المقابل

‏‎القهوة والشاي كانا رفيقيَّ طوال حياتي! أكتبُ، ثم أُسلِّم ما كتبتُ إلى الناشر، وعندما يعودُ إليَّ، أُعدِّلُ وأُعدِّلُ وأُعدِّلُ! فالسرُّ في الكتابة الجيدة يكمنُ في التحرير وإعادة التحرير

شخص يكتبُ بشكلٍ قهريٍّ، لكن هذا لا يعني أنني أنشر كل ما أكتبه بالضرورة. إيتالو كالفينو ابتكر مصطلح “هوس الكتابة” (graphomaniac)، وكان يستخدمه للإشارة إلى نفسه بطريقةٍ إيجابيةٍ، وأنا مثله أعاني من هوس الكتابة. أكتبُ بخطِّ اليد، وأحملُ معي دائمًا دفاتر ملاحظات وأقوم بملئها باستمرارٍ، لكن ملء دفاتر الملاحظات شيء، ونشر الصفحات شيء آخر.

أنا شخص شديد الانضباط، أستيقظُ في السابعة صباحًا، وأجلسُ إلى مكتبي وأنا ما زلت بملابس النوم، حيث تكون مفكراتي ذات الأغلفة المربعة وقلمي الحبر جاهزين للاستخدام، وأحاول كتابة صفحتين كل يوم.

أعملُ سبعة أيام في الأسبوع، من التاسعة صباحًا حتى الثامنة مساءً، ولديَّ عناوين ثماني روايات قادمة أرغبُ في كتابتها. كما أنَّني أشعرُ بالبؤس والانحطاط في أي يومٍ لا أكتب فيه.

فأنا كاتبٌ منضبطٌ نسبيًّا. أقومُ بوضع تصوُّر كامل للكتاب قبل أن أبدأ في تنفيذه وكتابته. بالطبع، لا يمكنك تصور رواية كاملة قبل كتابتها؛ لأنَّ هناك حدودًا لذاكرة الإنسان وخياله. لكنَّ الكثير من الأفكار تأتيك أثناء كتابة الكتاب، ومع ذلك أضعُ خطَّة واضحة تشملُ الفصول وأعرفُ الحبكة جيدًا.

أؤمنُ بشدَّةٍ بالمسؤولية الأخلاقية للمؤلف، لكن التزامه الأول كتابة كتب جيدة.

💢لماذا يكتب أورهان باموق؟!

أكتبُ لأنَّني لا أستطيعُ القيام بأعمالٍ عاديَّةٍ مثل الآخرين. أكتبُ لأنَّني أريدُ قراءة كتب تشبه ما أكتبه. أكتبُ لأنَّني غاضبٌ منكم جميعًا، غاضبٌ من العالم بأسره. أكتبُ لأنني أحبُّ الجلوس في غرفة طوال اليوم للكتابة. أكتب لأنني لا أستطيع التفاعل مع الحياة الحقيقية إلا بتغييرها. أكتبُ لأنني أريدُ أن نعرف جميعًا، نوع الحياة التي عشناها ونعيشها في إسطنبول، تركيا. أكتبُ لأنني أعشق رائحة الورق والقلم والحبر. أكتبُ لأنَّني أؤمن بالأدب، وبفنِّ الرواية، أكثر من إيماني بأي شيءٍ آخر. أكتبُ لأنها عادة وشغف. أكتبُ لأنني أخشى النسيان. أكتب لأنني أحب المجد والاهتمام الذي تجلبه الكتابة. أكتب لأكون وحيدًا. وربما أكتبُ لأنني آمل أن أفهم لماذا أنا غاضب جدًّا منكم جميعًا، غاضب جدًّا من العالم بأسره. أكتبُ لأنني أحبُّ أن أُقرأ. أكتبُ لأنني بمجرد أن أبدأ رواية أو مقالًا أو صفحة، أرغبُ في إنهائها. أكتبُ لأن الجميع يتوقع مني أن أكتب. أكتبُ لأن لديَّ إيمانًا طفوليًّا بخلود المكتبات، وبالطريقة التي تستقر بها كتبي على الرفوف. أكتبُ لأنه من الممتع تحويل كل جماليات الحياة وثرواتها إلى كلمات ٍ. أكتبُ ليس لأروي قصة، بل لأؤلف قصة. أكتبُ لأنني أرغب في الهروب من شعورٍ غامضٍ بأنَّ هناك مكانًا يجب أن أصل إليه، ولكن، كما في الحلم، لا أستطيع الوصول إليه. أكتب لأنني لم أتمكَّنُ يومًا من أن أكون سعيدًا. أكتبُ لأكون سعيدًا.

أورهان باموق (١٩٥٢)

روائي تركي حائز على جائزة نوبل في الآداب عام (٢٠٠٦)

اختيار وترجمة: سارة حامد حوّاس

شاهد أيضاً

«في المأساوي»: بيتر زابفه والطرح البيولوجي

«في المأساوي»: بيتر زابفه والطرح البيولوجي رامي أبو شهاب   يُستعاد اليوم كتاب الفيلسوف النرويجي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *