*محمد م. الارناؤوط
اختتم البارحة معرض الكتاب الدولي الـ 62 في بلغراد الذي استقطب خلال أيامه السبعة (22-28 أكتوبر/ تشرين الأول) حوالى نصف مليون زائر، جاء بعضهم للبحث عن كتب جديدة والبعض الآخر للمشاركة في عشرات الندوات التي عقدت خلال تلك الأيام وشاركت فيها شخصيات أدبية معروفة، على رأسها الروائية الألمانية الفائزة بجائزة نوبل في 2009 هيرتا ميلر.
في هذه المرة انعقد المعرض تحت شعار جميل “المفتاح في الكتاب” في دولة عرفت الكثير من الحروب، وعانت من أنظمة الحكم المختلفة، ولا تزال تبحث عن هويتها وحدودها ومستقبلها ما بين الشرق (روسيا) والغرب (الاتحاد الأوربي). ومن هنا كانت الرسالة قوية من خلال هذا الشعار، في أن القراءة والمعرفة وليست النزاعات والحروب هي التي تقرّب الشعوب/ الجيران من بعضها البعض، مع أن ما قيل وسُمع خلال الافتتاح والندوات تعارضَ أحيانا مع ذلك، كما سنرى لاحقا.
شاركت في المعرض حوالى 450 دار نشر من صربيا، وحوالى خمسين دار نشر من الخارج جاءت من الدول التي لها علاقة بضيف الشهر في هذا المعرض. في المعارض السابقة، وحتى في المعارض الدولية الأخرى، عادة ما تكون ضيفة الشهر دولة بعينها بينما هذه المرة كان ضيف الشرف الأدب الألماني الذي يُبدع في أربع دول متجاورة: ألمانيا والنمسا وسويسرا ولينشتاين. ومن هنا جاء للمشاركة في المعرض العشرات من الأدباء الألمان من هذه الدول، وعلى رأسهم هيرتا ميلر، التي كان لحضورها وشهادتها صدى خاص نظرا لحساسية الموضوع الذي تناولته: تجربة الأدباء مع الحكام الديكتاتوريين، وضرورة الحرب أحياناً لإسقاط مثل هؤلاء الحكام حتى في صربيا نفسها.
حضور “ضيف الشرف” (الأدب الألماني مع نخبة من الكتّاب كهيرتا ميلر وغيرها) هذه المرة، أثار الشجون من اليوم الأول مع كلمات الافتتاح وحتى اليوم الأخير، لأنه ضرب على الوتر الحساس للأدباء الصرب عن الماضي والحاضر والمستقبل. في الافتتاح كانت هناك كلمتان: الأولى للكاتب النمساوي كارل ماركوس غاوس، والثانية للكاتب الصربي ميرو فوكانوفيتش، اللتان عبّرتا عن مفارقة مرّة.
في الكلمة الأولى، استعرض غاوس تجربة الألمان مع لغتهم وأدبهم، حيث توجد هناك فوارق لغوية ولا توجد لغة أدبية واحدة، بمعنى أن الخصوصيات اللغوية هنا وهناك تعطي قيمة خاصة للأدب، ولكن مع ذلك لم تمنع الحدود السياسية من أن يكون هناك مجال أدبي واحد أو أدب ألماني يُقرأ من قبل الألمان في الدول الأربع التي يعيشون فيها. أما في الكلمة الثانية، فكانت لدينا تجربة معاكسة: كيف تحولت اللغة الواحدة إلى أربع لغات وكيف تحول الأدب الواحد إلى أربعة آداب في الثلاثين سنة الأخيرة. ففي يوغسلافيا السابقة كانت لغة الأغلبية تسمى “الصربوكرواتية” وهي اللغة الأدبية المشتركة للغالبية. أما بعد النزاعات والحروب 1990-1999 التي حولت يوغسلافيا إلى سبع دول فقد برزت من اللغة المشتركة أربع لغات قومية (الصربية والكرواتية والبوسنية والمونتنغرية) ولم يعد هناك مجال أدبي واحد، بل لم يعد الأدباء الصرب يعرفون أو يهتمون بماذا يكتب الأدباء الكروات أو البشناق وبالعكس. وهكذا كان الشعار الثاني للمعرض 4x 1 (أي أربع دول وأدب واحد) يتحول مع الشجون التي أثارتها الكلمة الافتتاحية إلى شعار آخر : 1x 4 (أي كيف تحول لغة إلى أربع لغات وكيف تحول الأدب الواحد إلى أربعة آداب في العقود الثلاثة الأخيرة).
الحرب ضرورية أحياناً
بالإضافة إلى هذه الشجون التي أثارتها الكلمة الافتتاحية جاء حضور الروائية الألمانية هيرتا ميلر ليثير المزيد من الشجون بين الأدباء والجمهور، حول موضوع الأدب والسياسة، وموقف الأدباء من الحرب إلخ…. كانت ميلر حتى 1987 تعيش في رومانيا المجاورة ليوغسلافيا كواحدة من الأقلية الألمانية التي تحولت فجأة إلى ضحية للملاحقة هنا وهناك من قبل الحكم الشيوعي الجديد، باعتبارها مسؤولة عن جرائم النظام النازي. ومن ناحية أخرى جاءت ميلر إلى صربيا التي تعتبر نفسها “الضحية” لقصف حلف الناتو في 1999، في لحظة لا يزال الشعب الصربي فيها منقسما بين ماضيه القريب (مقاومة “العدوان الأطلسي”) ومستقبله الجديد (الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والتعاون مع حلف الأطلسي)، بينما كانت ميلر حينها قد أيدت قيام حلف الناتو بقصف صربيا لوضع حد لتمادي الديكتاتور سلوبودان ميلوشيفيتش.
في شهادتها التي حظيت بحضور كبير ونقاش ساخن استرجعت ميلر ذكرياتها عن طفولتها وبدايتها الأدبية في رومانيا، وعن معاناتها الكبيرة كواحدة من الأقلية الألمانية من جهة وكواحدة من الجيل الجديد من الكتاب، في وقت كانت فيه رومانيا تعيش أوضاعاً صعبة وخاصة في ما يتعلق بالرقابة القوية للنظام الديكتاتوري على الكتّاب والمثقفين. عانت وقاومت حتى استسلمت ولجأت إلى ألمانيا في 1987. لم تخف ميلر حقيقة أن والدها كان يخدم في قوات النخبة الألمانية SS، ولكنها أضافت أن كل جيل والدها كان يخدم في الجيش الألماني، وكان النظام الروماني متعاونا مع ألمانيا إلى حين اقتراب القوات السوفييتية من حدوده فبدّل موقفه فورا وصبّ عنفه على الأقليات (الألمان والمجر) التي اتهمت بالتعاون مع ألمانيا النازية. في هذا السياق قالت ميلر “أنا لست أبي ، ولكن مع ذلك علي أن أعتذر دائما عن ذلك”.
القسم الآخر المهم في شهادتها، الذي كان يعني الجمهور الصربي، هو موقفها من الحرب وتأييدها لقيام حلف الناتو بقصف صربيا في 1999. قالت ميلر ببساطة إنها “ليست دائما مناهضة للحرب” pacifist لأن بعض الحالات تتطلب الحرب: أحيانا لا تفيد المفاوضات، وهو ما أثبتته العديد من الحروب. الشعوب التي تتعرض إلى الهجوم عليها أن تقاوم”، في تلميح إلى ما حدث في البوسنة وكوسوفو على يد قوات ميلوشيفيتش. ومن هنا قالت عن ميلوشيفيتش في 1999 “يجب أن يوقف عند حدّه لأنه يحفر المقابر ولا تؤثر فيه الكلمات”.
كان من الطبيعي أن تثير مثل هذه الكلمات بعض الجمهور الصربي، ولكن ما أثارهم أكثر كان رد ميلر التي قالت إنها لا تزال عند رأيها في ما قالته من تأييد لحلف الناتو لقصف صربيا، وذهبت هذه المرة إلى أبعد من ذلك بتحميل القومية الصربية المسؤولية عن ذلك: “كنت مصدومة..لم أكن أتوقع من هذه الدولة (يوغسلافيا)، التي كنا نعتبرها في زمننا نصف فردوس، أن تنفجر فيها القومية. إن هذه الدولة (يوغسلافيا) سببت لنفسها الشر والمعاناة، وإن الصرب هم الذين سبّبوا لأنفسهم هذا الشر”.
وخلال النقاش الذي أثار بعض الجمهور الصربي تحدثت ميلر عن أوكرانيا ورومانيا. فقد اعترفت بأن روحها تتألم “بسبب ما يقوم به الروس في أوكرانيا” وأن هذا الخوف من روسيا هو الذي دفع رومانيا إلى الانضمام إلى حلف الناتو، وباحت بأنها “تحب صربيا وتتمنى لها الخير” ولذلك جاءت إلى معرض الكتاب حيث تُعرض هناك الترجمات الصربية لأعمالها الأدبية التي زكّتها للفوز بجائزة نوبل.
ومع أن بعض الكتّاب الصرب لم يحضروا أصلا هذه الندوة احتجاجا على تأييد ميلر لقصف الناتو لصربيا في 1999، إلا أن ما ورد فيها من تمسّك ميلر بموقفها في 1999 دفع ببعضهم إلى انتقاد عنيف لزيارة ميلر، وما تحدثت عنه في هذه الندوة. ومن ذلك ما قاله الكاتب والمخرج الصربي المعروف، أمير كوستاريكا، الذي انتقدها بعنف ليخلص إلى أن “جائزة نوبل للأدب انحدرت في السنوات العشر الأخيرة”، أي بعد أن فازت بالجائزة هيرتا ميلر!
________
*ضفة ثالثة.