عاشق مارغريت دوراس حكاية حب مستحيلة

*ممدوح فرّاج النّابي

التقت الكاتبة الفرنسية مارغريت دوراس (1914-1996) في السادسة والستين من عمرها بكاتب مغمور يُدعى يان أندريا، كان مُتعلقًا بكتاباتها ومن ثمّ تعلَّق بها، عاشا الاثنان قصة حب كسرت مفهوم الحب، وماهيته. العجيب أن هذه العلاقة التي تحققت على مستوى الواقع لم تتحقق على مستوى أعمالها الإبداعية، فدائمًا أبطال حكايتها يعيشون قصص حب مستحيلة.

في عام 1984 أصدرت مارغريت رواية “العاشق” وقد صدرت لها ترجمة جديدة إلى العربية عن دار الجمل بترجمة صالح الأسمر في العام الجاري 2017. وتحكي فيها عن تجربتها في الهند الصينية التي ولدت فيها عام 1914 حتى عودة الأسرة إلى فرنسا، وما حلّ بالجميع بعد وفاة الأب.

تبدأ الرواية بمقطع أخاذ يعكس دلالة قوية علاقتها بأندريا فتستهل الرواية هكذا “ذات يوم في بهو مكان عام، وكنت قد تقدمت في السن أقبل نحوي رجل عرَّفني بنفسه وقال لي: أعرفك منذ زمن بعيد، يقول الجميع إنك كنت جميلة وأنت شابة، وقد أتيت لأقول لك إنني أجدك الآن أجمل مما كنت في شبابك، وليس وجهك وأنت امرأة شابة بأحبّ إليّ من وجهك الآن، هذا المكتسح”.

تحدي الحب

ينطوي هذا الاستهلال على إشارتيْن مهمتين تتماسان مع السيرة الشخصية لمارغريت دوراس؛ الأولى بمثابة رسالة حب لحبيبها أدريان، وإجابة عن التساؤلات التي لاحقتهما بعد إتمام العلاقة التي استمرت ستة عشر عامًا. والثانية تُقدِّم لجوهر شخصية دوراس حيث التمرّد ومخالفة السائد.

فشخصية القادم الذي رَأى ما لا يراه الآخرون، هو ذات الشيء الذي تفعله دوراس ذاتها، وهو ما يبدو في علاقة بطلتها المتمردة (التي تعكس وجهًا من صورة مارغريت ذاتها) بالفتي الصيني الذي وقعت في غرامه وتحدت أوامر أمها وراحت تقابله، وبالمثل تحدّى هو أوامر عائلته الثرية وكان يذهب للقائها، واصطحابها من مهجع الطالبات إلى المدرسة والعكس.

بطلة الرواية هي فتاة ذات طموح تريد منها الأم أن تحصل على شهادة الأستاذية في الرياضيات، أما هي فتريد الكتابة فقط والتي هي في رأي أمها مزحة أو مجرد فكرة طفل. فتسعى لأن تحقّق ما تريد. ثمة شيء لافت في هذا الاستهلال، مرّرته الساردة بسرعة لكنها توقفت عنده أثناء عبور النهر بالمعدّية.

وهو مرتبط بمفهوم الحب عند دوراس فالحب عندها لا يوازي جمال الشكل بقدر ما يوازي ثراء الروح. فهي ترى أن الجمال ليس شرطًا للإعجاب بل الروح. فهي تعترف بأنها “ليست جميلة” ومع هذا فكان الجميع في المعدّية ينظرون إليها، وكذلك في الشوارع، كما يطلب منها أصدقاء أمها أن تذهب معهم لتناول المقبلات.

بعد هذا الاستهلال الذي هو بمثابة باعث للبوح، تعود الساردة -إلى الوراء خمسين عامًا- حيث كانت تعيش الأسرة في فيتنام إبّان الاحتلال الفرنسي للهند الصينية، فتسرد عن قصة حُب مستحيلة أشبه بتلك التي أشار إليها مَن قابلها في بهو الفندق بطرف خفيّ. وكأن القصة الجديدة تأتي جوابًا عن طلبه المضمر، فتروي عن قصة فتاة في الخامسة عشرة من عمرها تلتقي بالشاب الصيني الثري في المعدّية وهي تعبر نهر الميكونغ، وهروبًا من واقع فادح بعد وفاة الأب.

تسعى الفتاة إلى التمرد على هذا الجو الخانق الذي عاشت فيه، وبلا مقدمات سوى حوار بسيط بينها وبين الشاب الثري تدخل سيارته الليموزين الفارهة. وتبدأ بينهما علاقة ترفضها الأم وكذلك والد الشاب الصيني الذي يرفض زواج ابنه من العاهرة الصغيرة البيضاء، إلا أنهما لا يأبهان. ويستمران لفترة في علاقتهما إلى أن تقرر الأسرة العودة إلى فرنسا بعد وفاة الأخ الأصغر.

تقدم الساردة في خطوط سريعة ملامح حياة الأسرة بعد وفاة الأب بمرض عضال وعمل الأم وخذلانها في أن تحقق لأطفالها ما تريد، ثم تصنع لهم مستقبلا وفقًا للوسائل المتاحة، وعلاقتها بالابن الأكبر الذي كانت تفضله وتناديه بولدي، مع أنه كان يسرقها مهما بالغت الأم في إخفاء ما لديها من نقود؛ فلديه حاسة غريبة لمعرفتها، وهو الأمر الذي كان سببًا في عداء مستتر بين الفتاة وأمها ما لبث أن تحوّل إلى كره مقيت وصل لأن تصفها بهذه المرأة، ومن جانب الأخ تحوّل هذا الانحياز إلى عداء شديد له، فكانت تتمنى أن يموت أو هي تقتله لكي تُعاقب أمها على شدة حبها له. وأيضًا لكي تنقذ الأخ الأصغر الذي تعتبره ابنها من الحياة الصاخبة لهذا الأخ.

تتبع الراوية في بوحها المشوب بوجع من هذه الأسرة التي لا رابط بين شخصياتها سوى الأم والدم، حيوات هذه الأسرة والمآلات التي حلّت بهم، فالأم تترك عملها الأوّل كمديرة مدرسة للبنات، وينتهي بها الحال وحيدة مع دو الخادمة في قصر لويس الرابع الزائف، حتى وفاتها وسط الخراف حين وضعتها في غرفتها الكبيرة أثناء موسم الجليد.

والأخ الكبير يفشل في دراسته ثم يعود إلى فرنسا لينضم إلى تجار المخدرات والمافيا، وبعد ذلك في فرنسا يخسر كل الغابات التي أعطتها له أمه وهو يُقامر في لعبة البكارا، وقد صار في الخمسين، ينتهي به الحال طريدًا ووحيدًا بلا أصدقاء أو نساء إلى أن يجدوه ميتًا على الأرض في غرفته. أما الأصغر فمات تحت الاحتلال الياباني، في حين تتابع تفاصيل العلاقة التي نمت على ظهر المعدية وهي تفكر في الجنوح عن هذه القتامة التي سببتها لها حياة الأسرة، وتتخيل وهي في السيارة أنها لن تسافر مرة ثانية بالعبَّارة، وترحل في خيلائها قائلة “من الآن فصاعدا سيكون لديها ليموزين تقلها إلى المدرسة وتتناول الطعام في أفخم الأماكن في المدينة”.

ثمّ تواصل الجنوح والتمرد عبر قصة الحب في مدينة سايغون حيث مدرستها الداخلية التي أرسلتها لها الأم. وهناك تعيش جموحها الحقيقي مع هذا العاشق، فتقبل عليه هي لا هو، وفي بداية اللقاء في داخل الشقة في أحد الأسواق الشعبية يرفض أن يكمل إلا أنها تشجّعه.

هذا الإلحاح من جانبها كان بمثابة انتصارًا لصورة الفتاة التي تريدها. وهو ما عبرت عنه بمجرد خروجها من البيت باتجاه المدرسة حيث راحت ترتدي قبعات من القش الناعم وتنتعل صندلاً ذهبيًا مزخرفًا وتضع أحمر شفاه فاقعًا يلفت النظر وكأنها تبحث عن استقلالية عواطفها خارج إطار الأم المنهكة الضجرة.

تستغرق قصة الحب المستحيلة عاما ونصف العام. لم يكن ثمة كلام مشترك بينهما عن المستقبل، بل هي مجرد أحاديث عن العائلتين وهذا يعني أنهما يقران بالنسق المهيمن. يكبرها باثني عشر عامًا، حتى ينفصلا بعد عودتها إلى فرنسا، لكن بعد انتهاء الحرب وعودته إلى فرنسا يتصل بها من جديد، ليقول لها إنه مازال يحبها وإنه لن يستطيع أبدًا أن يكف عن حبها، وهو مفهوم الحب الذي طبقته عمليًا في حياتها مع أندريا.

قتل الأم

بنية الرواية أشبه ببنية دائرية مغلقة، فتبدأ الساردة الحكاية وهي في شيخوختها ثم تعود إلى طفولتها في فيتنام وحياة الأسرة وصراعاتها الصغيرة وأزماتها أيضًا، ثم تسرد جانبًا مهمًا عن الدراسة الداخلية وتتوقف عن أنواع الفتيات اللاتي يرسلهن آباؤهن للتعليم ومصيرهن بعد ذلك. ثم تعود مرة ثانية إلى لحظة البداية.

ومع البوح الذي يعود بالزمن إلى ما قبل زمن الحكاية الأصلية تبدو الحكاية وكأنها تأخذ بنية الزمن التصاعدي، لكن في الحقيقة ثمة وقفات مع قصرها إلا أنها تعود بها إلى الماضي، فوقفتها على المعدّية عادت إلى الأسرة وهي في الماضي، حيث شراء الأم الملابس وصورتهم الجماعية، وتعود إلى المنزل الريفي قبالة جبل سيام وقضاء الأسرة فيه بعض الوقت.

ومرة ثانية تقفز بالزمن حيث مرحلة الشيخوخة التي بدأت السرد بها، فتسرد في لقطات سريعة عن ابنها وصديقتيه في أميركا. وإن كان ثمة استشراف للزمن المستقبل حيث تشير مسبقًا وهي على المعدّية إلى عودة الأم بعد عام ونصف العام معهم إلى فرنسا.

تتوقف بزمنها عند علاقتها بالأم، وتأتي صورة استرجاعها دائمًا وهي في مواقف ضعفها، وكأن البنت تريد أن تحاكمها على ماضيها معها وهو ما يحدث بالفعل. فهي ترى أنها ماتت مع موت الأخ الأصغر، فلم يعد بينهما شيء وعندما التقتها بعد ذلك كان الوقت تأخّر كثيرًا لكي نسترجع بعضنا على حد قولها، بل لم يعد ثمة شيء نسترجعه معًا، كان كل شيء انتهى إلا ما كان بينها وبين الابن البكر. بل تصفها بأنها مجنونة بالولادة ولم تكن مريضة بالجنون بل كانت تعيشه.

وهذه العلاقة المتوترة بينها وبين أمها كانت سببًا رئيسًا في الارتماء في هذه العلاقة الجديدة، وبهذا العلاقة أسست لبداية جديدة لها بعيدة ومنفصلة عن هذه العائلة وهو الأمر الذي دفعها عندما لمحت الخوف والتردد على فتاها الصيني إلى أن أعادته إليها وكأنها تريد أن تعبر من صورة الطفلة إلى المرأة. وبعد أن ذهبت إلى “آخر الفكرة” تساءلت بينها وبين نفسها “كيف جاءتني القوة حتى أنتهك المحظور الذي فرضته أمي”.

رواية “العاشق” رواية عن التمرد وعن السعي إلى الأحلام لا الاكتفاء برسمها أو تخيلها، وقبلا هي دعوة من أجل الفوز بالحب الذي تحدى كافة العقبات، حتى ولو تخلّلها قتل الأم. فيكفي أن تكون شاعرًا بلذة بما فعلته وتصرّ على تكراره.
_______
*العرب

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *