حوارات المرايا والنصوص في قصر المرايا*

خاص- ثقافات

*أحمد ضحية

(قراءة مقارنة في عالم عيسى الحلو القصصي)

حول رمزية السياق التعبيري
 (قصر المرايا- نموذجا)
إذ نتناول الأستاذ القاص عيسى الحلو، في هذه القراءة؛ لسبر أغوار عالمه القصصي؛ في واحدة من التقنيات المعقدة التي يستخدمها: (رمزية المرايا)، اذا جاز لنا اعتبارها تقنية في الكتابة القصصية، فإنما يأتي ذلك ابتداء، كمحاولة لاضافة قول جديد، إلى ما قاله النقاد، لدى وقوفهم، عند تخوم عالم الحلو القصصي.
فالحلو من دون القصاصين السودانيين الآخرين، باستثناء الطيب صالح؛ بالطبع. وجد اهتماما كبيرا، من قبل النقاد السودانيين؛ على قلتهم. نظرا لتجربته الثرة في كتابة القصة الحداثية.
فهو أحد أبرز أقلام مرحلة التحولات الحداثية، والتي تلت مرحلة الستينيات. والتي كان عيسى الحلو من أبرز كتابها، حيث “تم تدمير البنية التقليدية بواسطة التقنيات الحديثة، التي استخدمها كتاب هذه المرحلة، مثل: المونولوج الداخلي، والتقطيع واللغة الشعرية المكثفة، ذات الدلالات المفتوحة والفلاش باك، وتداخل الأزمنة (1) وأكثر ما يستوقفنا لدى قراءة عيسى الحلو؛ ما تجابهنا به نصوصه من أسئلة، حول الكيفية التي تشتغل فيها: المفردة والتجريب في بنية اللغة، واللغة القصصية،  على وجه التحديد و (ما) حدود المعنى وآفاقه الممكنة، في اشتغال لغة القصة!
الثابت بدء في الدراسات التداولية، ذات البعد التأويلي، أن المعنى ليس صورة الحسي المباشر، ولكن اللغة هي: التجريبي والرمزي في اللحظة ذاتها، وإن تفاوت مستوى الحضور لأحدهما، في اللغات الاصطلاحية أو الاصطناعية، فليست اللغة إظهارا للمحسوس، بواسطة التجريبي، وإنما هي الظهور بذاتها وفي ذاتها، مما يهدم فكرة، إمكان إحلال اللفظ محل الشيء (2) ومن هنا نجد الاهتمام الفائق للحلو بلغة القصة، واشتغاله المستمر بالتجريب فيها، حتى تتكشف عن امكاناتها القصوى ما أمكن، ولذلك نجده يلجأ إلى لغة الشعر كثيرا، باعتبارها غاية -لغة الشعر- في حد ذاتها! لكنه هنا يوظفها كغاية و -ايضا- كحامل للفكرة، التي يريد توصيلها عبر السردي.
وربما ذلك لأن القصة عند الحلو، انبثقت من قلب فضاء دينامي، يعج بالحركات والمدارس والمذاهب الفكرية والأدبية، التي لا شك عاشها الحلو: على المستوى الذهني في تحصيله المعرفي. وتطبيقا: في نتاجه الإبداعي القصصي.
من قلب هذا المناخ الذي يعج بالتحولات -فترة الستينيات- و تتحاور فيه تاثيرات الوجودية و الواقعية، والواقعية الاشتراكية والسحرية، نهضت الكتابة القصصية المتميزة للحلو، لتشكل نسيجا متفردا في المشهد القصصي في السودان.
ما تتميز به القصة القصيرة، كشكل أدبي ماكر وقلق ومراوغ، هو ما تنطوي عليه بنيتها الأساسية، من اجتزاء شريحة متوهجة من الحياة، لتعيد صياغة ما بداخلها، من بؤر دلالية و تأويلية، تجسد الواقع أو توازيه.
قد تكون في بعض الأحيان، ملتحمة بهذا الواقع: بمرارته وأزماته والمسكوت عنه فيه، بحيث تبدو بعض الأشكال منها غرائبية اللحظة، أو لا معقولية الأزمة، المتاحة داخل نسيج النص.
بحيث غدت القصة القصيرة في أدبنا المعاصر، وكأنها وثيقة اجتماعية أو سياسية، ملتصقة بما يشتمل عليه وجودنا، من صراع وتمزق وحيرة وانهزام، وتعدد في الرؤية (3) ونلاحظ في الكتابة القصصية للحلو بعضا من السمات: كخصوصية استخدامه للغة والتقنية، وتعدد الأصوات (البوليفونية) في النص القصصي -كما نلاحظ لدى قراءتنا لقصر المرايا، التي ينساب فيها السرد بضمير المتكلم (الراوي) والمتكلم ايضا (الشخصيات الأخرى)، إلى جانب لمحة عابرة لضمير الغائب لا تكاد تبين- وهي حيلة تهدف إلى تعدد زوايا النظر للموضوع الواحد، وهى عادة تستدعى عبر ضمائر الراوي/ الرواة، جماليات السرد، من خلال تلاقي البنية التشكيلية مع الإيقاع النغمي في شاعرية اللغة، كما هو الحال في (قصر المرايا).
إلى جانب ملاحظاتنا هذه، لاحظ الناقد والقاص معاوية البلال، في دراسته عن الاستيهامي: في القصة القصيرة السودانية، من خلال نموذج (عرش الحضور والغياب- للحلو)؛ أن الحلو ممن تأثرت كتابته القصصية، بما حملته الواقعية السحرية من تأثيرات. ومارست الكتابة الاستيهامية، بطرق إبداعية جديدة وأكثر إثارة.
وصفوة القول أن الحلو أحد أبرز القصاصين السودانيين، الذين اهتموا باتقان خلق الشخصية السيكولوجية، المتعددة الأبعاد، وبنية التفجير و المرئي واللامرئي (4(
سمات أخرى في تجربة الكتابة القصصية عند الحلو، في دراسته لظاهرة: الانسيابية في القصة القصيرة السودانية -معاوية البلال- أشار إلى ما تتسم به قصة عيسى الحلو، من مستوى تلاقي، بين التحفيز والنسق وتنظيم الحبك السردي، والتحقق المعرفي، في تجلياته المختلفة، متخذا نموذجا لذلك قصة (وماذا فعلت الوردة) و(الحديقة التي أحبت البستاني) (5(
ولما كان النص القصصي، غير منفصل عن النصوص السابقة، وإنما يحمل في طياته آثار هذه النصوص -كذلك يستشرف نصوص غائبة، لم يحتك بها، ويتوق للتحاور معها، فيما يشبه الاستبصار- التي تتداخل بشكل أو بآخر في تكوين القاص، وتفتح امكانياته الاستشرافية، على ما هو غائب عنه، وتسهم في صياغة الخطاب القصصي عنده، بقدر ما يحمل من رغبة في الابتكار والمجاوزة.
لكل لذلك نرى أن المدخل، لدراسة أي نص قصصي، إنما يتحقق بالتعامل مع النص نفسه، ودراسته في علاقاته بالنصوص الأخرى، التي تعمل في فضاءه. بهدف الكشف عن مداخل جديدة، تساعد على فتح العالم القصصي للحلو، وفض مغاليقه!
ومن هنا نجد أن أحد اهتمامات هذه القراءة، التي تنهض ايضا في اعادة قراءة (قصر المرايا) في علاقاتها الرمزية والدلالية، والانطلاق منها إلى فضاء النص، وما يتشكل به من علاقات، وتجسيد لرؤية القاص، وكشف عن مصادر نسيجه الإبداعي!
يتميز الحلو كحالة متفجرة، بقدرته الفائقة على استيعاب التجربة الإنسانية ككل، وإعادة صياغتها سرديا. سواء كان ذلك فيما تكشف لنا، بقراءتنا لروايته (صباح الخير أيها الوجه اللامرئي الجميل) أو قصته موضوع هذه القراءة: (قصر المرايا)؛ التي تجعل من مجابهة الموت، أحد ثيماتها الأساسية، في سياق رمزية المرايا، بما هي انعكاس لكل الرؤي المتراكبة في النفس البشرية، وكذلك هي سؤال الذات في مواجهة نفسها، ومواجهة الآخر في آن!

رمزية الفضاء النصي:
انتسجت هذه القصة، بما للحلو من قدرة فائقة، على حشد الوقائع والأحداث، التي تحيط بقضية صغيرة، يقوم بتصعيدها، إلى أقصى مديات  ممكنة، في حلقات متماسكة وترابط وثيق الصياغة. والبناء الدرامي الفني. تتخلله الإغرابية شكلا ومضمونا -الإغرابية بمعنى الخارج عن المألوف في القصة القصيرة- فقصر المرايا حكاية زوجين هما: حليم وبهيجة، تتأزم علاقتهما الزوجية. ووفقا لوجهة نظر الراوي: ان السأم وغيرة حليم من عوض زهران، هما سبب هذا التأزم!
عوض زهران هو والد بهيجة، بالتبني.. حاول الراوي تهدئة خواطرهما، لكنهما لم يكونا ينصتان، سوى لأصوات ذاتيهما (مراياهما!).
من وجهة نظر الراوي، أن حليم مصطفى: كهل ذي جمال شرير. وكان هذا الجمال الشرير، هو الذي دفع عوض زهران ليصادق حليم، ثم يزوجه من بهيجة، ليخلص نفسه (أو ليخلصوا أنفسهم) عبر هذه العلاقة الثلاثية! كما أن عوض زهران، رغم ما يبدو عليه، من ورع وتقوى، وشيء من كرامات الصوفية، يظل مغلقا على الفهم!
وهنا يحكي الراوي،عن علاقة عوض زهران بسميرة خليل -التي نعرف فيما بعد أنه تزوجها..
“هب واقفا لينصرف. وعندما سألته عن الخبر. أجابني:
-هناك امرأة عانس، تعاني الوحدة وتتوهم بمحب غير موجود أصلا. سيعود على ظهر فرس ابيض (..) قلت:
-أتعرفها من قبل؟
-لا. المسألة أنها أضاءت في صدري شيئا، كما لو أوقدت شمعة (6(
وبعد موت عوض زهران وحليم، وطرد بهيجة لسميرة خليل من قصر المرايا، ترحل بهيجة ايضا الى الاسكندرية، ثم تمضي بعيدا، لتنضم للمقاتلين في سراييفو. منذها يرى الراوي خيالين: لحليم وبهيجة، لكنهما غير حائرين كما كانا من قبل..
– كأن موت عوض زهران وحليم خلص روح بهيجة من مأزقها الوجودي إزاء أسئلة ذاتها، مثلما خلص حليم من حيرته..
“ورجحت أن بهيجة على قيد الحياة، وان سميرة بدورها هناك في مكان ما. من أم درمان (..) تقضي نهارها تصيح في الشوارع والناس (7(
لكن أشباح هؤلاء جميعا؛ يظل الراوي يراها كما تراها سميرة -بمشاهدها القديمة وعالمها القديم. فهو لا شيء بدونهم. يتحقق وجوده فقط من خلالهم “مراياهم”!..
وجهة نظر بهيجة بابا دوبلوس: -لها وجهتي نظر، تمثلان شخصيتيها: كابنة لوالدها الأصلي (بابا دوبلوس- مسيحي) و والدها بالتبني: عوض زهران/ المرآة- في الأزمة، التي عصفت بحياتها الزوجية. لا تختلف كثيرا عن وجهة نظر الراوي: أن غيرة حليم من عوض زهران هي السبب. في تصاعد الأمور التي آلت بحليم؛ إلى الاختفاء الغامض ثم الموت، خروجا من أزمة العلاقة!
فلا يبقى لبهيجة سوى أن تلوك ذكرياتها -منذ كانت في سن السادسة- كامرأة خمسينية.. فبهيجة ذات الجذور اليونانية، تعيش الحرمان من الأب، ثم الأم بعد أن انفصلت والدتها (ايلين- مسيحية)، عن والدها. وجاءت بها من القاهرة إلى الخرطوم. ثم توفيت، فتبناها عوض زهران، ولذلك ينشأ بينها وبين عوض زهران، نوع غامض من الحب الصوفي:
“يا من علمتني أن أحب الحب ذاته ولذاته”
ولذلك تعتنق دينه -الاسلام- سرا، دون أن يكون لديه علم -كما تتصور هي- و باختفاء حليم الغامض بعد موت عوض زهران، وتأكيد موت حليم في نشرة رسمية، من مناطق العمليات -بعد مضي شهرين من ذلك- تبدأ بهيجة عوض زهران في الحديث عن سميرة خليل:
“جاءتني امرأة في الثلاثين (..) وطلبت مني ان تسكن معي، لنتشارك العزلة، فهي وحيدة بعد أن هجرها عوض زهران (8(
لكنها سرعان ما تطرد سميرة؛ وتكتشف أن كل ما حولها وهم، فتعود إلى شخصيتها ك (بهيجة بابا دوبلوس) وتقرر العودة إلى أرض ميلادها (الاسكندرية).
وهناك لا يعرفها أحد. فتنضم إلى المقاتلين في سراييفو..
“قالوا ان اسرتي من البلقان أو النوبة، وبعد اسبوع رحلت إلى سراييفو، وانضممت إلى المقاتلين (9(
تتشظى مرايا بهيجة (ذاتها)، لحظة احتكاكها بسميرة خليل، التي تتشظى هي الأخرى -فكلاهما مرآة الأخرى- والتي كانت قد جاءتها لتشاركها -كابنة لزوجها- احزان الفقد ولوعة الذكريات، فتكتشف أنها ليست ابنة لزهران، كما توهمت وتوهم زهران، وان سميرة ليست سوى وهم -كلاهما تكتشف أنه وهم، فسميرة هي بهيجة نفسها!- هذا الكشف يفتحها على وعي ذاتها، التي تتشظى بقوة هذه اللحظة -ووعيها بالآخرين، الذين طالهم الوهم كذلك- فتبدأ البحث عن هذه الذات، لتعرف حقيقة هويتها!
وجهة نظر حليم في أزمة زواجهما: أن زواجهما كان بمثابة السجن. وعوض زهران يتفرج عليهما، يتخبطان داخله:
“كان عاجزا تماما عن حب بهيجة، فادعى الزهد فيها، وزوجني منها. يعلل عدم زواجه منها بانها ربيبته. وهي كابنته (..) الحب عند ثلاثتنا تقوى وتغذى، من الغيرة فإن غاب طرف من الأطراف يهلك الحب بيننا”..
فغياب المرآة يغيب الصورة. لابد من سطح المرآة، الأملس حتى يرى الإنسان صورته. وعوض زهران هو مرآة حليم وبهيجة!!  بل ومرآة الراوي نفسه! و بغيابه تغيب ذواتهم، وهو ما استطاعت سميرة أخيرا أن تفهمه:
“لقد خرجت من هذا القصر في تلك الليلة، بعد أن يئست وفشلت في المواساة، التي تجمع الضحايا (..) أعاقلة أنا؟ واصبحت اتحسس كياني. هل انا سميرة حقا؟ ام أنا أكذوبة؟ (..) فكانت بهيجة هائجة تلك الليلة. كانت تصيح في جنون: انت وهم يبحث عن وهم. انت لاشيء البتة. أحقيقة ما تقوله بهيجة. ربما انني لا شيء”..
يقيم هذا النص القصصي للحلو، حوار مع رواية ماركيز الاخيرة (ذكريات عن عاهراتي الحزينات) )10) فهاجس الموت (اللامرئي). يهيمن على فضاء النصين.
تحكي (ذكريات عن عاهراتي الحزينات): قصة رجل عجوز. ينتبه فجأة إلى أن عليه الاحتفال بعيد ميلاده التسعين، فيما يعيش في عزلة تامة.. يقرر العودة إلى متعته الوحيدة، التي مارسها كثيرا في حياته، منذ أن بدأ وعيه يتفتح على العلاقة مع الأنثى مصادفة، وهو لم يبلغ بعد الحادية عشرة.  يقرر عندها العودة إلى ماضيه السابق من خلال (روسا كاباراكاس) تلك السيدة التي تدير البيت السري، الذي كان نافذته على هذه الدنيا.
وتنفيذا لحلمه أراد أن يعيش ليلة حب مجنونة، فطلب منها: أن تكون رفقته في هذه الليلة (صبية صغيرة) بشرط أن تكون عذراء.. لكن الصبية التي يلتقي بها، في رحلته الجديدة، في الحياة بعد التسعين.. تجعله يغير نظرته إلى الحياة، ومعها تحدث له التحولات..
كل النصين ينهضان في ذكريات الماضي و الاستيهامي، من خلال استرجاع أو تبديد الزمن في اللحظة الحاضرة، التي تشتغل في مجابهة الموت، ومحاولات الانعتاق منه، في أجواء تخييم الموت او مجابهته، او الاحساس بدنوه..
فالراوي يستمد حياته، من هذا العالم المتحفز (عالم عوض زهران) فعوض زهران -كاله صغير- يحرك كل شخوص عالمه -مخلوقاته- بما في ذلك الراوي، الذي يبدو أن عوض زهران، أثر فيه عميقا -حتى بعد أن مات بوقت طويل- إذ ظل يلاحق الراوي!
ومجابهة الموت عند بطل ماركيز، كانت بعودته إلى أيام شبابه، من خلال صبية عذراء -كأنها القربان- جددت دماء عروقه -برحيق الذكريات وإكسيرها- وهو في هذه السن المعمرة! و أحدثت تحولا جديدا في حياته!
وعوض زهران جابه حبه -ذاته- لبهيجة بتزويجها من حليم. ولم تفلح علاقته بسميرة -التي رغم بلوغها السبعين، إلا أنها ظلت كانها فتاة في الثلاثين، تجري في عروقها- دماء الذكريات، التي خلفها زهران وراءه!
هذه اللعنة جعلتها؛ تنام في المقابر. وتجري في الشوارع تلاحق. اطياف عالم عوض زهران -في التخفيف من وطأة هذه المجابهة؛ التي أحدثت تحولا في حياته، انتهى به إلى مجابهة الموت، في مناطق العمليات!
كذلك ما فعله حليم.. حيث تنهض بهيجة هنا كلعنة لعوض زهران، طالت كل من يقترب منها، حتى عوض زهران نفسه -لعنةالذات النرجسية، التي سنأتي اليها لاحقا  -ذات عوض زهران- لتنتهي هذه اللعنة في مكان ما آخر!
كذلك هو حال الراوي، الذي تلاحقه اطياف عالم زهران. لتكون خلاصة هذه المجابهات: انتصارا لفكرة الأبدية، من خلال الاستمرار في المراقبة، لهذه الحياة الأبدية، التي صنعها عوض زهران وليس غيره!
كما نجد أن النص يقيم علاقة حوارية مع نص قصصي آخر. هو قصة (وصية سيسيليا الاخيرة) ل “اليثيا شتاينبرغ ” (11) فعند موت سيسيليا، تجد بطلة القصة انها تركت وصية غريبة لورثتها، جاءت على هذا النحو: “إلى بيب اترك سنواتي العشر الأخيرة من حياتي، بما فيها من متعة وألم متماثلان (سيقول بيب ان الالم فاق المتعة) على اى حال هو يعرف انها لم تكن اسوأ سنوات عمري (..) اترك هذا الخيال لجوسية، اتصور من العذاب الدائم المرتسم على وجهه، انه سيعرف ماذا سيفعل به (..) إلى ماتيلدا اترك مجموعة الصرخات الهائلة، التي احتفظت بها دوما (..) اعرف من غير المعتاد أن تترك أشياء لشخص مات بالفعل (..) (أنا) إليك.. يا من ستجديني حتما. تلك الأوراق على البيانو (..) اليك يا (أنا).. وهكذا تمضي الوصية، التي تخاطب فيها سيسيليا نفسها التي تجد الوصية، بعد موتها فتقول “طالما أنا على قيد الحياة. سيسيليا ستعود.. “فاللامرئي والمرئي هنا، هما ما يشكلان وصية سيسيليا واستمرارية حياتها ووجودها، بعد الموت -كروح هائمة أو طيف حلمي ربما!- مثلما يشكل عوض زهران استمرارية الراوي! فسيسيليا مرآة الأنا/ الذات.. وعوض زهران مرآة الراوي!.. مثلما بهيجة هي سميرة ذاتها/ المرآة التي رأت فيها نفسها. فطردتها!.. “انت وهم يبحث عن وهم”!!
ومثلما مثلت عذراء ماركيز المرآة للراوي العجوز.. فالموت أو الإحساس بدنوه. يشكل بؤرة تنطلق منها حياة الشخوص، من المبتدأ إلى المنتهى. بمعنى تتكشف فيه كل لحظات الألم واللوعة والغبطة.. وتتكثف فيه الذكريات والأحلام!
فهو كالرحم الذي نتخلق فيه ويحتوينا، ثم لا يلبث أن يقذف بنا إلى حدود الحلم واللا مرئي.. الى الوجود، إذ يعيدنا مرة أخرى إلى ظلام هذا الرحم ودفئه -الارض- الأحداث والوقائع -الحياة- عندما تتحول إلى محض ذكريات، و تصبح أشبه بأحلام البارحة. كما في (متحف المساعي العبثية) لكريستينا بيري روسي، إذ يقول بطل قصتها هذه: “كنت كل مساء ازور متحف الحياة العبثية. اطلب الكاتالوج، وأجلس إلى الطاولة الخشبية الكبيرة (..) كتالوج سنة 1922 (..) سنة مكثفة. كثير من الناس قاموا بجهود عبثية. كم مجلد هنا؟ (..) أكدت لي الموظفة ان المتحف يحتفظ بجزء صغير جدا من المساعي العبثية (12)  فبطل هذه القصة يجد نفسه مأخوذا الى حد الادمان، بالمضي كل يوم لمطالعة عالم الماضي، والتعرف على حكايات من مضوا. كان يستمد استمراريته ووجوده. من هذه الدورة.. دورة الحياة ووقائعها التي تمثلها مساعي ابطالها وهزائمها ومرارتها.. فالموت..
أنه يجابه الموت بالتعرف على حياة من ماتوا: ماذا كانوا يفعلون في حياتهم -فحياتهم هي المرآة التي يرى فيها حياته- فتتجذر هذه الحيوات فيه، لتعطيه الاستمرارية..

رمزية المرايا في قصر المرايا- حول استراتيجية العنوان: (قصر المرايا ):
يتكون هذا العنوان من كلمتين الأولى: هي ” قصر” والثانية: هي”المرايا”. في المحتوى الدلالي للطرف الأول : (قصر) دلالة على المكان، الذي تجري فيه أحداث القصة. و(المرايا)  واحدة من المكونات التي شيدت به، على المستوى المعنوي لا المادي.. فالقصر هو (القفص الذي يفترض نظريا، أن يكون ذهبيا- كبيت للزوجية).. لكنه هنا محض قصر من المرايا (زجاج، سهل الكسر) للدلالة على مدى قابلية هذه العلاقة الزوجية للتشظي.
يقول غاستون باشلار”من الواضح تماما، أن البيت كيان مميز، لدراسة ظاهراتية لقيم ألفة المكان من الداخل. على شرط أن ندرسه كوحدة، وبكل تعقيده. وان نسعى لدمج كل قيمه الخاصة، بقيمة واحدة أساسية (..) فلو تجاوزنا ذكرياتنا، عن كل البيوت التي سكناها، والبيوت التي حلمنا أن نسكنها، فهل نستطيع أن نعزل، و نستنبط جوهرا حميما. ومحددا، يبرز القيمة غير الشائعة، لكل الصور المتعلقة بالألفة المحمية؟ (..) قد يقدم لنا الجغرافي أو عالم الاثنوغرافيا اوصافا لمختلف أنواع البيوت (..) البيت هو ركننا في العالم. انه كما قيل مرارا. كوننا الاول )13)  فما هو بيت (قصر المرايا) بين البيوت؟
يصف لنا الحلو في قصته (قصر المرايا) هذا البيت بضمير المتكلم (بهيجة بابا دوبلوس):
“لنا انا وزوجي حليم.. قصر صغير. بديع. مكون من غرفة واحدة، تلحق بها صالة ومطبخ.. وتحيط بالقصر أربع حدائق من الجهات كافة. يسوره سياج حديدي رمادي اللون! كتبنا اسمينا: (حليم وبهيجة) على بطاقة مضيئة عند البوابة.
وعند البوابة كانت العصافير تأتي، من كل مكان لتغني في مرح، ذاك النشيد، الذي ينطلق كالرصاصة النارية (..) يتهمونني على الخصوص بالجنون. فما القصر عندهم الا بيت صغير. بنى من الآجر الأحمر، المخلوط بالحصى. كشأن كل بيوت أم درمان القديمة، منذ عهد الخليفة التعايشي، وهو يقع في الجهة الجنوبية من المدينة، على طرف خور أبوعنجة الشمالي، حيث استقرت الفيالق المحاربة (..) ولكن بيتنا هو حقيقة راسخة، لكل عارف ذي بصيرة:
قصر عال.. يتأرجح وسط السراب، يذهب ويجيء.. غيمة كبيرة من البخار، يتصاعد في علو السماوات الزرقاء، متشكلا بألوان الفجر والضحى والمساء (..) وحينما يؤذن الأذان، ينبثق القصر مثل زهرة، وينكشف البهاء، فتكشف الرؤيا جدرانا من الماء الشفيف الممطر.. ويأتلق كله قصرا من الزجاج، الكريستال ومن المرايا (14(
في الحقيقة، على المستوى المادي، هذا القصر هو عبارة عن: بيت عتيق، يعود تاريخه إلى حقبة المهدية، مكون من غرفة واحدة، مسورة  بسور رمادي اللون، بما للون الرمادي، من دلالة عامة على الزمن المنصرم والحزن، والإكتئاب، والمواقف الرخوة!
كما أن دلالة هذا اللون من منظور علم النفس، يعتبر لوناً محايدا،ً كونه لا أبيضَ ولا أسود، بل إنه ناتج عن دمج اللونين معاً، ويرمز الرمادي الغامق المائل إلى الأسود، إلى الغموض والمأساة، بينما يرمز الرمادي الفاتح أو المائل إلى الأبيض إلى الحيوية والنور، كونه ساكناً وخالياً من المشاعر على حد سواء، ويعتبر اللون الرمادي متيناً ومستقراً، يخلق إحساساً بالهدوء ورباطة الجأش، ويعفي من فوضى العالم، كما يمكنه أن يعبر عن الكبت والهدوء  والكآبة.. إذن هذا هو السياج النفسي، الذي يحيط بيتهما؟!
لكنه بيت مشيد أيضا على المستوى الدلالي، من هذه الذكريات العتيقة لمدينة أم درمان، وما يرتبط بذاكرتها المدينية، في لحظة تكونها وتشكلها الاولى، في اكثر لحظات التاريخ حرجا، و دمجا (قسريا( للمجتمعات السودانية، من كل أطراف البلاد، لتلتحم في ام درمان.
إذ نهضت أم درمان، نتيجة للحراك الاجتماعي الواسع، والاول من نوعه في السودان، إبان المهدية، بما نقل المجتمعات، من مرحلة القبيلة إلى مرحلة متقدمة عليها، هي مرحلة الطائفة!
هذا هو البيت الذي يسكنه حليم وبهيجة. تأسس إذن على هذه الذكريات (المرايا)، لذلك هو قصر عال، يتأرجح في فضاء هذه الذكريات، التي اضيفت اليها ذكريات أخرى بتعاقب الزمن. واضيفت اليها ايضا وقائع وأحداث حياة حليم وبهيجة التي نهضت -الوقائع والأحداث- في هذا البيت ذي الغرفة الوحيدة،  لكن الكافية لرعاية ميلاد زواجهما ونموه، و ذكريات حبهما التي سبقت هذا الزواج، حتى مرحلة الصبا والشيخوخة، لتتشكل من كل هذه المراحل، التي تعاقبت على البيت، مزيدا من المرايا (مزيدا من الذكريات)، التي يرون فيها أنفسهم، كأنهم هم وليس هم، بين بين!
ففي لحظاتهما السعيدة، تسقط احاسيس الغبطة على البيت، فيشاركهما هذه الغبطة، مثلما شاركهما لحظات صراعهما الإنساني العديدة!
والطرف الاخر من عنوان القصة: (المرايا)؛ هو المفتاح المركزي لعالم هذا (القصر)، فالمرايا في السرد، تقنية وأداة تعبير فني، قبل ان تكون سطحا أملسا، دوره ينحصر في تأدية إنعكاس الصورة.. انها مرايا الذات!
يقول حاتم الصكر: “المرايا مقترح شعري، ارتبط بأدونيس، الذي عرف عنه استخدامه المبكر للرمز والقناع، وهما ممهدان ضروريان للمرايا (15). ان اى دراسة للامكان السردي، في (قصر المرايا) يجب ان تبدأ اولا بتأمل دلالة المرايا، من شتى وجوهها الظاهرية، بحكم وجودها الشيئي، ضمن وعينا وشعورنا.. والنفسية لما تحمله من دلالة وجود القرين، ورؤية النفس، وتعرفها عليها، ضمن حيز المرآة: جذرا رمزيا يربطها برغبة (نرسيس) في رؤية وجهه منعكسا على صفحة الماء. والفنية بكونها دالا شعريا وأدبيا عاما، يمكن أن يحمل معه تقنيات خاصة، ترتبط بالانعكاس، وتشويه الانعكاس معا، أو التشظية والتناثر!
فقصر المرايا تشظت داخله حياة حليم وبهيجة، كما تشظت داخله كل الذكريات الماضية منذ تأسيسه.. حليم وبهيجة رأيا ذاتيهما، بكل غروريهما -حب ذاتهما: إذ توهما أنهما يحبان بعضهما، بينما هما يحبان فكرة هذا الحب ذاتها، متمثلا -هذا الحب في ذاتهما، فهما.. الحب (كنرسيس النرجسي)..
وتشظيا عندما اكتشفا ذلك.. عندما رأياه في مرايا نفسيهما!!
وأول ما يلاحظ هنا، أن وجود المرايا، بالنسبة إلى الجسد، يرتب تغير موقع المتلفظ ايضا، موقعه كراو أو سارد من هذه المرايا.. “وهم كانوا محاصرين بالمرايا.. المرايا التي أمامهم والتي خلفهم.. المرايا من حولهم، وداخلهم.. غرقا في لعبة المرايا.. المرايا التي لها وجودا شيئيا، أكثر عمقا وتأثيرا مما يحسب المبصرون، المتعجلون!
والمرايا التي هي أول ما يقع عليه بصرنا.. والمرايا تقتضي وجودا لشيء ما يتمرأى على سطحها، وبذلك تصبح موضوعا دائما، لذات تمارس فعلها عليه.. على هذا الوجود!
وظيفة المرآة، تتعدى التأثيث، ولوازم الوجود الكمالي أو الجمالي، على الجدران أو فوق المكاتب والزوايا، لأن الحيز الذي تشغله، في تفكير الإنسان وأفعاله وسلوكه، هو الأكثر أهمية، وهو الذي أثر في حياة حليم وبهيجة!
ان المرايا توهمنا بأنها حيادية، تعكس ما ينطبع عليها، أو يتراءى امامها او يعرض عليها. ومع ذلك  تكمن وظيفة المرآة، في كونها تضاعف. وعبر فعل المضاعفة هذا تعطينا (صورة القرين)-  (الأنا/ الآخر) غير المرئي ولكنه موجود!
ورغم ان المرايا ترينا ما تقتنص أعماقنا فإنها -كما يلاحظ فوكو- إلى جانب كونها تضاعف، لا ترينا ما لا يظهر عبر سطحها. فيظل ثمة فاصل بين ما نرى وما نقول.
فالمرايا لا تقترح علينا آخرا، بل ترينا هذا الآخر، الذي نقترحه عليها.. إننا لا نبحث في المرايا، عن واحدية أجسادنا وصورنا، بل نسارع إلى البحث، عن تفاصيل منسية أو مطمورة، لكي نؤلف منها صورة القرين، الذي يشاركنا خطانا وحياتنا.. وهو ذو وجود سردي، لأنه يمثل الجانب الثاني، في حوارية شخوصنا.
وقد استثمر القصاصون، المزايا السردية لوجود قرين المرآة، وطوروه. ليغدو صوتا داخليا ثانيا لوجود الراوي أو الشخصية، وترينا الحكايات والأساطير انواعا متعددة من المرايا منها: مرايا الزمن:  حيث كانت (سندريلا) تهرب من مرآة زمنية، فلو أنها تأخرت عن ساعة محددة، لعادت إلى صورتها الأولى.. فتاة فقيرة. ومرايا الأسطورة: حيث يتحول كل ما يقع عليه بصر(ميدوزا) إلى حجر! وثمة في هذه المرايا الأسطورة وجود نرسيسي (او  نرجسي بالمصطلح العربي المتداول) (16(
لكن ما يدعوه المحلل النفسي الشهير (جاك لاكان) 1901 – 1981 بمرحلة المرآة يستحق التأمل، فهو يرى أن الطفل يستطيع التعرف، على صورته في المرآة في سن مبكرة، على أنها صورته، ويختبر حركات الصورة، ومحيطها المنعكس في المرآة، ثم العلاقة بين ذلك، والواقع المزاوج له، اى جسد الطفل و الأفراد والأشياء المحيطة به!
والمهم في مفهوم (لاكان) لمرحلة المرآة بأنها تماه، وبأن تمثل الصغير لصورته المرآوية، مع عجزه الحركي، والغذائي. شبيه بالرحم الرمزي. حيث يندفع ضمير الذات، الى شكل اولي، قبل أن يتموضع في جدلية التماهي مع الآخر!
ان المرايا تنطوي علي طبيعة، أو جوهر من جوانب ذاتها الأصلية، تحتفظ بها مهما خضعت لتحولات، بوصفها رمزا من رموز الشخصية، و تقنية سردية يقف أمامها ليرصد، ما يتراءى في اعماقها..
كذلك يلاحظ (جبرا ابراهيم جبرا) أن اللحظة (النرجسية) هي لحظة لا زمنية.. لحظة الممثل على المسرح، وقد انفلت من قيد التسلسل..
والنرجسية هي الخط الدقيق، الذي ينظم وجود الرموز الأسطورية والتاريخية، على مستوى الرؤية. و يفسر بعض النقاد (قتل المرايا)، بأنها إعدام وحرق للكل الثقافي -كما عند أدونيس- الذي تعادله قصر المرايا (فالقصر ينهار ليعود إلى مكوناته، كما يراها الجيران: مجرد غرفة مبنية من الآجر الأحمر، المخلوط بالحصى. شأن كل بيوت أم درمان القديمة! ينهار بتاريخه المهدوي، و ينهار بانهيار ذاكرته وذكرياته، باختفاء أبطاله، بحيث لا تعود ثمة أهمية لذاكرة المكان (القصر) دون شهود أو سكان، يحيون هذه الذاكرة!..
ينهار باختفاء حليم وعوض زهران وموتهما.. وينهار بطرد سميرة منه ورحيل بهيجة، وفي المثل ما معناه: إذا كان للإنسان منزلا من زجاج، فليحذر رمي الآخرين بالحجارة! وهي كناية تحذيرية عن عدم الحديث عن عيوب الناس، خطورة أن تكون مرآة تعكس عيوبهم! لأنهم أيضا مرآة عيوبك! التي لا تريد فضحها!
عيوبنا التي تستحيل ايضا الى ذكريات، لكنها تظل إحدى مكوناتنا النفسية، فهي جزء من تاريخنا الاجتماعي على مر السنين، وتستطيع مرايانا منحنا رؤيتها بوضوح، كأنها جسم مادي!
وثمة مرايا لا يمكن إخضاعها للتقابل الثنائي، أو للتفسير الرمزي العابر، وهي -كما تسميها (خالدة سعيد) مرايا الأعماق حيث تتقاطع الرؤي جميعا.. وأشار إحسان عباس الى المرايا باعتبارها أسلوب نظر إلى الماضي (17(
وتقنية انعكاس المرايا في القص الحديث، من ابرز التقنيات لاستدعاء التاريخ الذاتي، فأى نوع من المرايا تلك التي شيد منها قصر المرايا ، و الشخصيتين اللتين تسكنانه (حليم وبهيجة)؟!
أشرنا إلى أي نوع من البيوت هو هذا القصر، الذي يصف لنا الحلو طبيعته -مقروءة في سياق علاقتها بطبيعة علاقة هذين الزوجين- على لسان الراوي “كانا: حليم وبهيجة، زوجين من الأرق والتوتر. وذلك عندما وضعا، بمحض حريتهما، علاقتهما الزوجية على حافة الخطر. إذ كانا بحياتهما المشتركة يلهوان. فبعد مضي العام من الزواج. شعرا بالسأم. وهكذا انخرطا في اللعب المهلك، أن يكتشفا في الحياة شيئا بينهما اعمق واصدق، وأن يريا في علاقتهما، نفسيهما على المرايا (..) كففت عن الكلام مجبرا. ومن ثم.. في نهاية الأمر، أخذوا يكلمون المرايا، المحتشدة بالصور (18(
ثم على لسان بهيجة بابا دوبلوس “يأتلق كله قصرا من الزجاج الكريستال؛ ومن المرايا، بحيرة من الجمال الصافي (..) أرفع رأسي. رأيت صورنا على المرايا. كنت انا وحليم.. وانا الأخرى مع عوض زهران. وعوض زهران تارة أخرى مع سميرة.. ورفع حليم عينيه من الكتاب:
– ما بك؟ أنت شاحبة جدا؟!
وكنت أرى صورا على المرايا، شديدة العجب! الزمن فيها يجري كيفما شاء. الماضي والحاضر والمستقبل. كل الزمن المستدير يأتي (..)..(اجلس وحدي وصوري تتكاثر، على سطوح المرايا. وتجيء صورة حليم وعوض زهران (..) وتداخلت في هذا الوقت كل الأشياء.. الخواطر والأفكار والأحداث، حتى بت اشك في القصة بمجملها (19(
ويمضي الحلو في عرض شخوص نصه، معتمدا على تقنية تعدد الأصوات (البوليفونية) التي اشرنا اليها سابقا، منتقلا الى شخصية اخرى، فيطل علينا حليم مصطفى زوج بهيجة، مستعرضا وجهة نظره بضمير الأنا المتكلم “كنا في داخل هذا القصر الزجاجي، أشبه بسمكتين صغيرتين ملونتين. نسبح داخل هذا الماء الزجاجي (..) كانت كل الايام تمر متشابهات. نجلس ثلاثتنا نحلق في وجوهنا، التي تنطبع على سطح المرايا، المحيطات بنا. فنرى دواخلنا حتى النخاع )20(
ثم نعود إلى شخصية الراوي مرة أخرى، مضيفا الى وجهة نظره، التي استهل بها هذه القصة، وجهة نظر أخرى، وهو ينقلنا إلى بهيجة -لكن هذه المرة هي ليست ابنة (بابا دوبلوس) والدها الحقيقي بل- ابنة عوض زهران الذي تبناها  “انني ارى حياتي في عزلتي. أرى هذا الحب الغريب الأطوار. دائرة تجري في الاتجاهات الأربعة. وكيف ان هذا الدوار قد قاد كل منا، الى طريق مختلف. فكنا ندور في متاهة، وشعور يجعلني موقنة، أننا سنلتقي على تخوم ذلك العالم. مكان يشبه قصر المرايا (..) اهو صورة بهيجة على مرايا عوض زهران؟ أم جئت ابحث عن صورتي.. عن معنى وهدف هذه الحياة؟ (21) ليطل علينا بعد ذلك الوجه الآخر لـ بهيجة: بهيجة بابا دوبلوس، ثم نعود مرة أخرى إلى الراوي “الذي يحكي حياة سميرة، بعد أن أنهى حكاية بهيجة: “كانت سميرة بالجمال تضيء بدرا مكتملا!  لقد توقف دوران الزمن فيها عند الثلاثين. وكانت الأقدار تمسح غبار الزوال عنها. رغم بلوغ سميرة السبعين، وعندما تنظر في المرايا، كانت تحدث نفسها بصوت عال (.) الضوء امواجا من ألوان الطيف المزبدة. يرفرفون. يشقشقون. وعلى سطوح المرايا هالات زرق  (..) وكلما كانت على سطوح المرايا صور، وكلما كان في الفضاء جناح، فانا بدونهم لا شيء.. لا شيء البتة  )22(
وهكذا يمكننا أن نستخلص من طرفي العنوان: “قصر- المرايا “.. اضافة الى ما اشرنا اليه، ان المرايا هي ذكرياتهم، وطريقتهم في النظر إلى ماضيهم وحياتهم. وهي نزعتهم الأنانية في تكريس ذواتهم، دون رغبة في عطاء هذه الذات للآخر! بل عطاءها فقط لنفسها، فحتى في تصور -بهيجة مثلا- لنفسها ما بعد هذه الحياة -الموت- ترغب في أن تلتقيهم (عوض زهران/ سميرة/ حليم) وتتصور انهم سيلتقون، في قصر شبيه بقصر المرايا؟!
ربما تريد أن تلتقيهم لتأكيد وجودها المطلق، ربما.. فهي  لا شيء بدونهم” وتستمد وجودها من وجودهم! وحتى تكون شيئا، يجب ان تكون معهم. وهي ذات الرؤية التي توصل اليها حليم، فقد أدرك منذ البداية ان انسحاب اى طرف من أطراف،  علاقتهم الثلاثية. يعني أن ينهار كل شيء! فلا أحد من ثلاثتهم يعني شيئا؛ دون الآخريان.
كذلك الراوي يستمد وجوده عبرهم في حياتهم، وعبر تعبيره عنهم، وعبر اطيافهم التي تلاحقه، بعد أن آلوا إلى مختلف طرق، في رحلة بحث الذات عن آخرها!

هوامش
معاوية البلال. الشكل والمأساة (دراسات في القصة القصيرة السودانية). الشركة العالمية للطباعة والنشر. ص: 9
مجلة فصول للنقد الأدبي. الهيئة المصرية العامة للكتاب المجلد 16 العدد الثاني خريف 1997. ص: 17
مجلة الثقافة الجديدة. قصور الثقافة. العدد 172. أكتوبر 2004 . ص: 108
معاوية البلال. الكتابة في منتصف الدائرة. الشركة العالمية للطباعة والنشر. ص: 132
معاوية البلال. الشكل والمأساة  (مرجع سابق) ص: 32
كتابات سودانية  (كتاب غير دوري) مركز الدراسات السودانية. العدد 22 ديسمبر 2002. ص: 133
السابق ص: 136
نفسه ص: 134
نفسه ص: 135
غابرييل غارثيا ماركيز. ذكريات عن عاهراتي الحزينات. ترجمة د. طلعت شاهين. طبعة أولى ديسمبر 2004. سنابل للنشر والتوزيع . القاهرة.
مناظر من أرض جديدة (قصص لكاتبات من اميركا اللاتينية). ترجمة إيزابيل كمال.قصور الثقافة. آفاق عالمية. طبعة أولى 2003 -أليثيا شتايميرج (1933) كاتبة ارجنتينية. كتبت أربع روايات ومجموعة قصص قصيرة. من أهم الكاتبات المعاصرات في الأرجنتين.
كريستينا بيري روسي. كاتبة من أوروغواي. ولدت في مونتيفيديو. وهي ابنة لمهاجرين إيطاليين. وتعمل والدتها مدرسة. وقد علمها خالها الشيوعي تذوق الأدب. تخرجت في كلية الآداب في جامعة مونتفيديو. وعملت بالصحافة وتدريس الأدب. اضطهدت من قبل السلطة لموقفها المناهض للظلم. فانتقلت إلى برشلونة في إسبانيا في 1972. صدر لها في العام 1963 أول كتاب وهو مجموعة قصص قصيرة (لحياة) عن الجو المعتم المحيط بالمرأة ومعاناتها كضحية للمجتمع الأبوي. في 1969 صدرت لها مجموعة القصص القصيرة (المتاحف المهجورة) وحازت بها على جائزة اركا للكتاب الشباب في أوروجواي في 1968 وتصف فيها انحطاط الثقافة في ارجواي. وتظهر فقدان التواصل بين الرجل والمرأة. كما في قصة )الاشياء الغريبة التي تطير)  وفي 1969 حصلت قصتها (كتاب أولاد عمتى)  على جائزة مجلة مارشا. وهي قصة على لسان طفل. بها تحولات سردية عميقة. وبيري روسي تستخدم حيلا مرئية، وتمزج النثر بالشعر. وتهدف إلى السخرية من البرجوازية، خاصة الفتيات اللائي ينشأن محاطات برعاية مبالغ فيها. نشرت في 1970  (علامات ذعر) وهو مجموعة من 46 قطعة ادبية و قصة قصيرة وقصائد ومقالات وامثال تعبر عن سمات عصر القمع في ارجواي. وفي 1971 نشرت أول ديوان شعري لمجموعة قصائد حسية تحتفل بجسد المرأة. في 1975 نشرت ديوان (وصف حطام سفينة) تركز قصائده على النفي السياسي والحب. على النقيض من ذلك في 1983 نشرت (متحف المساعي العبثية)، الذي تناقش فيه محاور معاصرة مثل العزلة والتحليل النفسي والحرب والقمع السياسي. وفي 1984  نشرت  (سفينة الحمقى) وفي 1986 (آلام ممنوعة)
غاستون باشلار. جماليات المكان. ترجمة غالب هلسا. المؤسسة الجامعية. 2000 . بيروت الطبعة الخامسة. ص: 35
كتابات سودانية. (كتاب غير دوري) مركز الدراسات السودانية. العدد 22 ديسمبر 2002. ص: 129/130
فصول للنقد الأدبي (مرجع سابق) ص: 25
تقول الاسطورة ان نارسيسو (وهذا هو اسمه في الأصل اللاتيني) هو ابن إحدى حوريات النهر اللازوردية الشعر. انجبته من إله النهر. فهو كائن مائي تتبعه الحوريات العاشقات، لكنه لا يستجيب لهن فتحكم عليه الآلهة، استجابة لدعاء إحدى عشيقاته، بأن يقع في شراك حب لا يخرج منه فائزا. وإذ يحس نرسيس بالعطش ينحني ليشرب من ماء النبع، فيرى صورته وقد انعكست على صفحة الماء، فسحرته ووقع في غرام طيف حسبه جسدا، وهو لا يعدو أن يكون ظلا. وحاول تقبيل وجهه المنعكس على صفحة النبع، وحاول ضم خياله. وتورد الأسطورة هاجسا يحاور نارسيسو:  “اى نارسيسو! أيها الصبي الساذج؛ فيما محاولتك الإمساك بصورة خادعة؟ إن ما تبحث عنه ليس له وجود حي، ولو انك استدرت لغاب عنك هذا الذي تهيم به. إن ما تراه ليس الا خيال نشأ عن انعكاس صورتك على الماء ..”.. .. وإذ يكتشف نرسيس الحقيقة يدرك وهمه قائلا: “ان هذا الصبي الذي يتراءى لي،  ليس غيري. أن صورة وجهي لا تخدعني. انني احترق بنار حبي لنفسي. ويموت نرسيس حزنا، وتبكيه حوريات الغابة بنواح حزين. وإذ تختفي جثته، تظهر مكانها زهرة النرجس، التي ستظل ترمز الى الاعجاب المرضي بالذات. لقد غدا الماء المرآة التي يبحث فيها نرجس عن ذاته التي حسبها شخصا آخر. ولذا اقترن ذكر المرايا بالماء أو الظل.
فصول للنقد الأدبي (مرجع سابق). ص: 33
كتابات سودانية (مرجع سابق) ص: 129
السابق. ص: 130/131
نفسه. ص: 132
نفسه. ص: 134
نفسه. ص: 136
——————————————-
*احد أوراق قراءات (السرد والرؤى، الجزء الاول) قيد الإعداد للطبع.
**قاص وروائي سوداني مقيم بالولايات المتحدة.

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *