*د. هند السليمان
هل بالإمكان اختصار الكتابة النسائية بكتابة النساء عن ذواتهن عبر سيرهن الذاتية.. أيكفي هذا لإعادة التوازن للغة ظلت حكراً في استخدامها وإنتاجها في الفضاء العام على الرجال؟! أما النساء فكان حق استخدام اللغة يتم حصره في فضائهن الخاص. وإن خرجت النساء للفضاء العام، لا يمتلكن إلا أن يتحدثن بلغة الرجل، وإن كان بصوت أكثر انخفاضاً. وضع نون النسوة بين حين وآخر ليس وحده من سيخفف من سطوة الفجوة بين الخطابين. إنه أشبه بتحرير شكلي للغة، تحرير يُطال اللغة من الخارج دون أن يهز عمقها. أما، تحرير اللغة لتصل لتوازن جندري متكافئ، فيتطلب تغيير قالب اللغة بما يتناسب والبنية الذهنية لمستخدميها باختلاف جندريهما.
كيف يحدث هذا؟ من الصور النمطية عن المرأة أنها حدسية في طبيعة علاقتها مع الأشخاص والأشياء، وأيضاً أنها ذاتية في أحكامها. في المقابل، الرجل عقلاني وموضوعي في أحكامه. قد لا تكون هذه الصورة صحيحة، وقد تكون، لا نملك يقيناً قاطعاً بهذا. إلا أننا في حقل علم النفس نعلم كيف يستبطن اللاوعي الصورة التي يختزلُها الآخرون عنا، لتُصبح جزءا من هويتنا رغم إرادتنا، فتلك الصور النمطية قد لا تكون حقيقة، ولكن وجودها في الفضاء المحيط يعني وجودها في عقلنا الباطن مما يمنحها وجوداً وفعالية ما. نستطيع القول، إنه بحكم الإرث الثقافي وأساليب التنشئة لكلا الجنسين فإن المرأة، على الأغلب، ستميل إلى التفكير بالأمور وفق منظور ذاتي فيما سيميل الرجل إلى التفكير بموضوعية. هنا، لا خلل في ذهنيتيهما، ولا تعميم مطلقا، ولا تفسير بيولوجيا لهذا، ولكن على الأغلب، إن فكرت المرأة بموضوعية دون النظر مثلاً، لأثر قرار ستتخذه على الأشخاص المهمين من حولها ستشعر بتأنيب الضمير، فيما لن يقع الرجل بذات درجة تأنيب الضمير. التعزيز الاجتماعي يلعب دوراً هنا. التعزيز الذي حصلت عليه المرأة طوال حياتها ينحو لتشجيعها على التفكير بالآخرين حين أصدارها لقراراتها، وذات التعزيز ينحو بالرجل ليفكر بموضوعية مستبعداً مشاعره. اختلاف التوقعات والتعزيزات ترجع لكون الأدوار المطلوبة من الجنسين مختلفة، وحتى نصل إلى مرحلة تمازج هذه الأدوار بشكل غير متمايز، فلعلنا نرجح هذا التحليل حتى تلك اللحظة. ولكن، ما علاقة هذا باللغة والكتابة؟
العام والخاص
إن كانت البنية الذهنية للمرأة، كما شكّلها المجتمع مختلفة عن الرجل، فلماذا عليها الكتابة وفق البنية الذهنية للرجل؟ بنية المرأة أقرب للتفكير الذاتي، فلماذا حين تقرر الكتابة عليها استخدام الكتابة الموضوعية؟ لماذا لا تلجأ للكتابة الذاتية؟ الكتابة الذاتية لا يقصد بها فقط كتابة السيرة الذاتية، بل إن تأخذ الكتابة منطلقاً ذاتياً وشخصياً في قراءتها وتقديمها للعالم في نصوصها.
إن كان الرجل هو من يمتلك الفضاء العام، فمن الطبيعي حين يكتب، أن تتخذ كتاباته طابعاً موضوعياً، يفصل فيها العام عن الخاص. في المقابل، حين يضيق الفضاء الخاص بالمرأة وتريد توسعة فضائها بالخروج للفضاء العام، فإن ما يميزها في هذه الحالة، أمران: تجربتها السابقة في عيش الفضاء الخاص بحميميته، وأمر آخر هو تجربتها الحالية بالانتقال بين الفضاءين. من هنا، من المهم حين تكتب النساء أن يستحضرن كلا الفضاءين. لابد للعام والخاص من الامتزاج بشكل خلاق في لغتها.
تُحضر الكاتبة في كتاباتها قصصها، تفاصيلها، عائلتها، ضحكاتها، حتى وهي تقوم بتحليل سياسي. إنها كمحاولة «لتأنيث العالم». المرأة/&rlm&rlm الكاتبة تحدّيها ليس فقط في جعل الآخر يعرف كيف تفكر، بل أن تمنح العالم فرصة، أن يبدأ التفكير بذات الآلية التي تفكر هي بها. المرأة في الفضاء الخاص تنتج خطابها، ولأن خطاب الرجل هو الخطاب المسيطر فهي على اطلاع على كلا الخطابين. في المقابل، الرجل حديثاً فقط، بدأ أكثر اهتماما بالاستماع لخطابها، ولكن لازالت مسافة تفصله، ليستطيع فهم ومن ثم التداخل مع هذا الخطاب. لهذا تمتلئ أدبيات الرجل بأقوال تتناول عجزهم عن فهم المرأة. عجزاً نتج عن محاولة لفهم المرأة بآلياته الذهنية، لا التفكير وفق آلياتها الذهنية.
اكتشاف الذات
الصفة الأخرى التي توصف بها المرأة هي تناول الأمور بمنظار شخصي. فماذا عن هذه؟ كيف يمكن أن تستحضر النساء هذا في الكتابة؟ أن تكتب كتابة ذاتية، تعبر عنها، وعن موقعها في المجتمع، وكيف يتناولها، وكيف ترى هي كل ذلك. مثلاً، ألا يشخص المجتمع المرأة في كل سلوكياتها؟ فإن وضعت مكياجاً فهي تفعل لأجل فلان، وإن لم تفعل فمن المؤكد لأجل فلان آخر، أو لعله ذات الفلان! ولنقس ذلك على بقية سلوكياتها.
المرأة، وفقاً للمجتمع، لا توجد بذاتها، فهي «الزوجة والأم والأخت والابنة»، أي عبر علاقة شخصية مع آخر أو آخرين. في حالة كهذه، لتكون المرأة أكثر صدقاً في تمثيل واقعها وتجربتها الإنسانية التي تميزها، عليها أن تكتب نصاّ، فيه من الذاتية ومزج العام مع الخاص بشكل شخصي دون خوف من أن ينظر الآخرون لما تكتبه على أنه أقل قيمة مما يكتبه الرجل. هنا، هي لا تمنح وجودها صوتاً فقط، بل هي تعيد خلق صوتها الأنثوي، صوتها الخفيض. صوتها الذي ظل خفيضاً لقرون، وحين أرادت إعلاءه كانت أذناها معتادتين طوال تلك القرون على الاستماع لصوت الرجل، فأخرجت صوتها على نمط صوت الرجل. تحدّيها الحقيقي ليس في «الانتصار» أو علو النبرة على صوت الرجل، بل في اكتشاف صوتها الخاص القابع بداخلها.
يقول رولان بارت: «الكتابة ليست سوى بقايا الأشياء الفقيرة والهزيلة للأشياء الرائعة والجميلة في دواخلنا». تحدينا كنساء أن نتمكن من الاقتراب أكثر نحو الأشياء الجميلة بداخلنا لنمنح الكتابة ضفافاً جديدة، الأشياء الجميلة وفق تعريفنا نحن النساء. المرأة/&rlm&rlmالكاتبة تحمل بداخلها ما اختزنته من تجربتها وعلاقتها بالأشياء والأشخاص، والتي شكلت ذهنيتها وذاتها وصوتها الخاص، فما يميزها هو ذاتويتها في رؤيتها واختبارها للعالم.
وحتى لا نمارس نفاقاً ثقافياً هنا، من المهم في مقال يطرح أهمية الكتابة الذاتية، استخدام كاتبة المقال ما تدعو له كطريقة لإيصال الفكرة. كتبتُ مرة مقالاً بعنوان «لماذا نسافر؟» أرسلته لصديق لأرى انطباعه قبل النشر. علق الصديق وقتها بأن:»هذا ليس مقال عن «لماذا نسافر» لكنه مقال بعنوان هند السليمان!» ليكمل تعليقه، «النص جميل ولكن لا يصلح للنشر، فهو عنك أنت». ردة فعلي حينها، والتي لم أعلنها خشية سوء الفهم، هي «نعم، هذا بالضبط ما أريده أن يكون». كل كتابة هي كتابة ذاتية، قد نخجل من التصريح بهذا، ولكن هل ننشر المقالات دون أن نحرص على أن نسطر أسماءنا وربما صورنا أعلى كل مقال؟ نلتفت خلف القضايا الكبرى والعبارات الرنانة، نفعل ذلك لأننا نريد أن نُعلن عن ذواتنا وحضورنا وقيمنا وأفكارنا، لكن نفعلها باحتشام مقبول. احتشام صنعته بنية ذهنية وحيده للكتابة: الكتابة الموضوعية! أي الكتابة وفق ذهنية الرجل. فهل موقف الصديق أتى من تصور موضوعي للكتابه ينطلق من ذهنية ذكورية؟ لأختبر هذا، أرسلت مقالي لصديقة نسوية، أخبرتها عن خشيتي من ذاتية المقال المفرطة. حين قرأت المقال تعليقها كان بأن «المقال ذاتي لكنه ينطلق من تجربة خاصة وحساسة تستحق النشر، رغم ذلك». اختلاف الحكم بين الصديقين قد ينطلق من اختلاف التفكير، ولكن لا يمكن إهمال البنية الذهنية المختلفة بينهما في تحديد الموضوعي والذاتي وعلاقة هذا بالاختلاف الجندري بينهما. ولأن القارئ وعلى الأغلب، نساء ورجال، لا زال معتاداً على النص الأقرب للطرح الموضوعي فمقال بنفس ذاتي عال، قد لا يكون ملائماً طرحه بعد.
ضفاف جديدة
يقول رولان بارت: «الكتابة ليست سوى بقايا الأشياء الفقيرة والهزيلة للأشياء الرائعة والجميلة في دواخلنا». تحدينا كنساء أن نتمكن من الاقتراب أكثر نحو الأشياء الجميلة بداخلنا لنمنح الكتابة ضفافاً جديدة، الأشياء الجميلة وفق تعريفنا نحن النساء. المرأة/&rlm&rlmالكاتبة تحمل بداخلها ما اختزنته من تجربتها وعلاقتها بالأشياء والأشخاص، والتي شكلت ذهنيتها وذاتها وصوتها الخاص، فما يميزها هو ذاتويتها في رؤيتها واختبارها للعالم.
صوتهنّ الخفيض
المرأة، وفقاً للمجتمع، لا توجد بذاتها، فهي «الزوجة والأم والأخت والابنة»، أي عبر علاقة شخصية مع آخر أو آخرين. في حالة كهذه، لتكون المرأة أكثر صدقاً في تمثيل واقعها وتجربتها الإنسانية التي تميزها، عليها أن تكتب نصاً، فيه من الذاتية ومزج العام مع الخاص بشكل شخصي دون خوف من أن ينظر الآخرون لما تكتبه على أنه أقل قيمة مما يكتبه الرجل. هنا، هي لا تمنح وجودها صوتاً فقط، بل هي تعيد خلق صوتها الأنثوي، صوتها الخفيض. صوتها الذي ظل خفيضاً لقرون، وحين أرادت إعلاءه كانت أذناها معتادة طوال تلك القرون على الاستماع لصوت الرجل، فأخرجت صوتها على نمط صوت الرجل. تحدّيها الحقيقي ليس في «الانتصار» أو علو النبرة على صوت الرجل، بل في اكتشاف صوتها الخاص القابع بداخلها.
فتّش عن التنشئة
يمكن القول، إن بحكم الإرث الثقافي وأساليب التنشئة لكلا الجنسين، فإن المرأة على الأغلب، ستميل إلى التفكير بالأمور وفق منظور ذاتي، فيما سيميل الرجل إلى التفكير بموضوعية. هنا، لا خلل في ذهنيتيهما، ولا تعميم مطلق، ولا تفسير بيولوجي لهذا، ولكن على الأغلب، إن فكرت المرأة بموضوعية دون النظر مثلاً، لأثر قرار ستتخذه على الأشخاص المهمين من حولها ستشعر بتأنيب الضمير، فيما لن يقع الرجل بذات درجة تأنيب الضمير.
________
*الاتحاد الثقافي
مرتبط