خاص- ثقافات
*محمد كريش
– ورد هذا النص في كتالوغ معرض جماعي نظمته جمعية الفكر التشكيلي بدعم من وزارة الثقافة المغربية تحت شعار: ” تصاديات -ألوان وكلمات-“. وذلك برواق باب الكبير الرباط. بتاريخ 15 دجنبر 2015. كما يتضمن النص إضافات.
في محاولتنا الحديث عن موضوع “الفنان/الكاتب”، سنقتصر على مقاربة كتابة الفنان في المجال التشكيلي في بعده النقدي حصرا، ولن نتناول كتابته في الحقول الإبداعية الأخرى كالشعر والقصة والرواية، إلى غير ذلك من أجناس الكتابة. كما أننا سنقتضب الحديث عن تجربتنا الشخصية المتواضعة في السياق نفسه.
ولضيق ومحدودية المساحة الورقية المتاحة، وتعدد محاور المناقشة، لن نسهب في تفصيل وتعميق الحيثيات المختلفة للموضوع، ولن نتوسع “فكريا” فيها وفي أبعادها المتنوعة، حيث يشكل هذا الأخير مجالا بحثيا شاسعا متشابكا متعالق العناصر. وفي نفس المنحى، نعتقد أن البحث يستدعي الفنان- باعتباره منتجا وناقدا للتشكيل- للحديث عن كتابته عن نفسه (فنه) وعن فن غيره، إن الحديث عن الذات الإبستيمية (ذات الفنان أو ذات غيره) في المجال التشكيلي وغيره من المجالات الإبداعية الأخرى، سيفضي حتما إلى تعدد مستويات وزوايا المقاربة، حيث تبقى مساراتها وطبيعتها مرتبطة بتموقع “المتكلم/الفنان” ضمن تلك المقاربة، ومرتهنة بها بشكل حاسم، حيث ستتنوع طبيعتها وتختلف اتجاهاتها باختلاف “الموقع الجغرافي” للفنان ضمن تلك المقاربة. فرؤية الفنان (كمستقرئ ومستكشف منفصل) أي في وضعية تواجه وتقابل مع ‘المادة الموضوع’، بمعنى تقابل الذات الإبستيمية مع ذاتها كمادة بحثية، تكون مختلفة عن رؤيته وهو يشكل مع موضوعه ‘وحدة عضوية’. حيث سيتكلم حينئذ عن الإبداع من جوف الإبداع، أي من قعر تجربته. وعليه؛ فاختلاف التموقع يقتضي اختلافا في الأدوات المنهجية والإبستيمولوجية، وفي الجهاز المفاهيمي …إلخ. وفي حقيقة الأمر، هذا الطرح يشكل موضوعة مرتبطة بالسوسيولوجا عامة، وبـ”سوسيولوجية الفن” خاصة[1]. ذلك أن العلم وبما فيه الفن التشكيلي ( ليس نسقا واحدا ووحيدا، بل هو ظاهرة اجتماعية متغيرة عبر التاريخ الإنساني، ويتدخل في هذا، العوامل الخارجية: الثقافية والحضارية والاجتماعية والأيديولوجية )[2].
يشكل الفعل الفني كما الفلسفة، رابطين مباشرين مع الأشياء والحياة، يتحريان الإمساك بحقيقتها وماهيتها ومبهماتها عبر تجلياتها وتفاعلاتها الوجودية وتمظهراتها الصورية في الزمان والمكان، هنا، يتكفل الفنان والفيلسوف باستجلاء تلك الحقيقة واستشفافها. فالفيلسوف، العقل نوره ومعوله الوحيد في تنقيبه عن تلك الحقيقة ، أما الفنان فيفوقه استلهاما ووجدانا وحدسا في ذلك. ولا غرابة أن يكون الفن أوثق المناطق وأغناها وأزخرها إلهاما وتحفيزا للفلسفة والفلاسفة ومنطلقا للتفكير وإطلاق التفلسف…
الفنان هو الماسك بالخيط التواصلي الدقيق واللامتناهي، بين الحياة وأشياءها من جهة، وبين ‘الإنسان العقل’ من جهة أخرى. حيث يتمكن المتلقي عبر ذاك الخيط من الانتقال والعبور من حيز الحجاب إلى حيز الرؤية المباشرة لعوالم الممكنات، عوالم “ما ورائيات ” المرئيات أو ‘الأعيان’ كما يسميها المتصوفة. ويحاور صورا وأفكارا مستشرفة لواقع جديد ووضع أرحب وأجمل، يهبهما الفنان وحده. وبالتالي ينتقل المتلقي من ‘زمكانية البصر’ إلى ‘زمكانية البصيرة والاستبصار” أي معاينة مخفيات ومتاحات الأشياء وممكناتها، باعتباره مستكشف ومستقرئ لمُستقْرَئِ الفنان ( أي رؤيته)، حيث هنا يبقى الفنان هو المتفرد بتلك القدرة الحدسية على تجاوز دثر وحجب المظاهر المباشرة وسطحياتها، وهو الحامل كذلك للملكة والموهبة “الممتنعة” الفائقة في استشراف الممكنات الكامنة في خلفية الأشياء والحياة والأحداث، وذلك من خلال إدراكاته الوجدانية والفكرية المستلهمة ، ليعيد صياغتها من جديد (فنيا وتشكيليا) عبر تمثلات تصويرية رؤيوية مفعمة بفيض من الدلالات والإيحاءات التعبيرية، معطاة للاستقراء البصري والذهني، باعتبارها نصا سرديا بصريا تتواشج في طياته بحور من المعارف والعلوم والأسرار والرموز…
إن فعل التشكيل وإبداع المادة البصرية بتجلياتها المختلفة، يتبلوران ضمن دورة نسقية تفاعلية مغلقة، ويتأسسان انطلاقا من فلسفة “الهدم وإعادة البناء” على أساس تفكيك المركب وتركيب المفكك، وذلك حسب قولٍ جيل دولوز-Gilles Deleuze إزاء عملية الإبداع. فيكون فعل التشكيل إخراجا للبصري من حيز الذهني والفكري والمتخيل إلى عالم المُبْصَرات والحسيات. وعليه، يمكن القول أن البصري التشكيلي ينبثق ويتفتق عن الفكري ويبقى تابعا له، ويتحدد فحواه ومضمونه به وعنه. وبالتالي يمثل البصري تماثلا للفكري ومرآة له، وذلك عبر مصوغات وتوليفات نسقية أيقونية (أو غير أيقونية) بوصفها مادة إبداعية معطاة للمعاينة وللتفكير والتسامي الوجداني…
وعلى هذا المنوال يعتبر الفنان ‘صائغا وحرفيا ‘، يقوم بتسجيل وجدانياته واستنباطاته الفكرية والفلسفية ، وفي الوقت نفسه، ينسج ويحوك تمثلاته الرؤيوية. حيث الشكل واللون والضوء، والخامات وأشياء أخرى، تشكل المواد الأساسية في ذلك،. إذن؛ عملية التشكيل الفعلية باعتبارها ‘حدث تشييء وإنجاز وتشخيص’ لا تنفصل بتاتا عن حدثي التفكير فيها وتمثل معالمها ذهنيا. وفي هذا السياق، ليس هناك من منجز فني ومنتجة يمكنها أن تسلك مسلك الاعتباطية وتتسم بالعشوائية إلا اعتقادا وظنا منا. والحقيقة، أن كل عمل إبداعي – أيا كان- لابد أن يجد فحواه وجدواه ضمن بيئة اجتماعية سوسيوثقافية أو منظومة فنية معينة تؤهله للاحتواء والاعتبار والاستقطاب وبالأحرى بيئته. حيث أن قيم الجمال ومقوماته الفنية والفلسفية تختلف باختلاف البيئات التي أنتجتها وشكلتها وتبلورت في كنفها. وبالتالي لا مجال هنا لإصدار الأحكام القيمية. فكل تجربة جمالية وفنية إنسانية لها قيمتها وقدسيتها ضمن حيزها الجمالي المخصوص بها وضمن البعد التاريخي الإنساني.
ولا شك في أن دور الفنان يتمثل أساسا في كونه صائغا ومنتجا للمادة الجمالية، المفتوحة على التفكير والتحليل، وبالكاد هو الواضع الملهم للمحفزات البصرية لينخرط العقل في تلقيها وسبر أغوارها واستجلاء مخفياتها، وفك شفراتها ورموزها ودلالاتها لإنتاج الفكر والمعرفة والنظريات… والنماذج الإرشادية الناظمة.
ولكن يمكن لدور الفنان – من حيث هو حرفي- أن يمتد إلى آفاق الإبداع الفكري والفلسفي ويتحول فيه إلى مفكر وفيلسوف ( فيلسوف ينتج المفاهيم الفنية التشكيلية و يبتكر الأنساق الفكرية الإبداعية ). كيف لا؟! والفنان الحقيقي الخالص – في واقع الأمر وبطبيعته المبدعة والمبتكرة- يمارس حتما دونما انقطاع “فلسفة” الوجود والعدم، وإثارة أسئلة الحقيقة والإنسان، والوهم والخوف، والزمن والفضاء…إلخ، وذلك من خلال إعمال التأمل الفكري والجمالي، وإطلاق الخيال والحلم. كما التحليل والتفكيك وإعادة التركيب: أي صياغة وابتكار الجديد واللامألوف. فيتميز الفنان وحده ويتفرد دون غيره ب “فعل الإيجاد والاستحداث” واستخراج “اللامرئيات” إلى حيز الإبصار، كما يقوم ب” تشييئ” الأفكار والمعارف والوجدانيات وتأهيلها للمعاينة البصرية العامة والخاصة… بمعنى يبتكر آفاقا جديدة للحياة والحلم والأمل والمعرفة والتذوق الجمالي.
الكتابة تقتضي وتستلزم القراءة، والقراءة يُسْتَجْلَبُ بها: العلم والمعرفة والإدراك المحيط، كما الوعي بسببية الأشياء … وما إلى ذلك. وعلى هذا المنوال، هو كذلك “الفنان الكاتب”. يتحرى فهم الأحداث والحياة والأشياء…
قد يتخطى الفنان حيز إنتاج المادة البصرية إلى حيز القول عنها وفيها، فيكتب في الفن وعنه، ويقارب أسئلته الكبرى الفكرية والفلسفية والفنية والتقنية والجمالية والقيمية… إلخ، فيخوض بشكل متواز ومتزامن تجربتين وغنيتين- معرفيا وفنيا وفلسفيا وجماليا – ترتبطان بقطبي معادلة التواصل وهما : “الإنتاج والتلقي” بمعنى ” الرسالة ما بين المرسل(المنتج) والمرسل إليه ( المتلقي/ المستقبل )” عبر التفكر والتدبر والتمعن، وعبر القراءة الواعية في الفن ومعالجته منهجيا. وعبر سبر متاهات التبصر في ماهيته الفلسفية، ومآلاته الوجودية والمعرفية والحضارية، فيتعقب الفنان “الكاتب” بالبحث والتحليل والدراسة الإشكاليات والارتدادات الفكرية والجمالية بمستوياتها وبتجلياتها المختلفة، التي تتــفتق عـــن حــــدث الإبداع والخلق لدى الفنان، وينخرط كذلك ضمن قلق التنقيب عن أسرار ” الميكانيزمات الخفية و الماورائية” الفاعلة والمشكلة لجوهر فعل “الخلق” هذا( وليس للديني ولا للروحانيات دخل في كلامنا هذا كله)، والبحث عن حقيقة الدوافع الناظمة والكامنة خلف ظاهرة فاقة الإنسان وحاجته الماسة للتعبير عن كينونته من خلال ديمومة ممارسة الإبداع : الفنون عامة والتشكيل خاصة.
وحيثما تمحور وتمركز اهتمام الفنان على مستوى المقاربة التشكيلية ( بمعنى: أكَتَب عن فنه أو عن فنون غيره) لا ينفك عن كون ذلك عملية للتفكير والتحليل والكتابة عن الفن ، باعتباره ظاهرة إنسانية وجودية ومعرفية وسوسيوثقافية…إلخ. وتتبلور هذه الظاهرة ضمن التفاعل الارتدادي بين الفنان كفرد وكموضوع “إبستيمي”، حامل ومنتج لقيم المعرفة الجمالية والتقنية، وبين بيئته كـ”جماعة” باعتبارها موطنا للاستقبال والاستقراء. وبالتالي، فإنهما يشكلان (الفنان وبيئته) الركائز الحيوية لـ”ماكينة إنتاج وتدوير الفن ومعرفة الفن”، في إطار دينامكيةِ وجدليةِ المفاعلة التراكمية بينهما، وذلك ضمن دورة نسقية تطورية تتسم ب”اللانهائية” – في الزمان وفي المكان- وتستمد ديمومتها من تعاقبية الأحداث وتحصيلاتها المعرفية والفنية بشكل عام.
فالكتابة عن الفن هو انخراط في “إبستمولوجيا الفن” باعتبارها نشاطا يتمحور حول البحث في الفن كمادة معرفية وعلمية. وهي كذلك امتداد لـ”ممارسة التشكيل” بلغة وأدوات أخرى، غير تلك الموظفة في المراسم والمحترفات، فتستهدف التفكير والبحث في منظومة التشكيل والإبداع بغية فهم مقوماتهما وحيثياتهما المتنوعة، حيث مؤدى ذلك كله تشكيل القواعد والمرتكزات العلومية الضمنية للفن: كالتقنيات الإجرائية والعلميات والمنهجيات والنظريات الأدائية…إلخ، ومن جهة أخرى، ابتكار وصياغة رؤى ومفاهيم جديدة تتعلق بالشق المعرفي والفلسفي والسوسيوثقافي والسيكولوجي… لفعل الإبداع والفن.
وفي هذا الاتجاه – وعلى مستويات عدة – يكون الفنان هو الأوفر حظا وكفاءة، والمؤهل – بامتياز- للتحدث – في وعن – فنه، انطلاقا من كون المنتوجة قائمة بفعله، ومن كونه كذلك، الناشئ والمهندس لها والعارف بدقائقها، إضافة إلى كونه الأوحد، الذي له الإمكان بأن يقاربها من داخلها، متموقع في جوفها كظاهرة معرفية. وفي النهاية، يمكن الخلوص إلى القول بأن: “صانع الشيء، هو أكثرهم أهلية للكلام عنه. وقد أشار إلى هذا المعنى ‘جاك ديريدا’ في قولٍ له حول الترجمة و”جيل دولوز” في حديث له حول الفن التشكيلي … وحسبنا في التدليل على ما نقوله ما ورد عن فنانين كثر من أقوال وكتابات تتضمن آراء وأفكارا حول أعمالهم وتجاربهم، وكثير ما شكل بعضها مرجعيات ومبادئ مفاهيمية وفلسفية ترتبط بالفن ومنظومته. من أمثال الفنانين: أوجين دولاكروا. بول سيزان، فان كوخ، فاسيلي كاندانسكي، بابلو بيكاسو، مارسيل دوشان، أنطوني طابييس. فرانسيس بيكون.. وغيرهم.
وفي نفس السياق، واستنتاجا لما أوردناه، يمكن الجزم بأن الفنان- على المستوى التقني بالخصوص- يتبوَّأ الصدارة في مقاربة وتحليل عمله الفني، والوقوف عند دقائق تمفصلاته، وبنائه الصباغي. حيث هنا، لن يتحدث الفنان عن منجزه – كالفيلسوف- متكئا على “الجهاز الفكري التجريدي، والافتراض والاستنباط…إلخ.” والذي تقوم عليه الفلسفة عامة. بل من حيث كونه حرفيا وصانعا، ممسكا بناصية عمله. عالما بماهيته المادية وبكل مراحل بناءه وجزئيات تكويناته، وكيفية تركيبه وتشكيله…إلخ، وذلك على مستوى اللون والشكل والضوء والحركية والنتوء والتواري الموادي… إلى غير ذلك. وبالكاد، هنا تتدخل وتنشط المعارف والعلوم الفنية والتقنية، كما الدربة والتجربة الميدانية المتوافرة لدى الفنان دون غيره.. مما يؤدي به في النهاية إلى الإحاطة المعرفية الشاملة بالمصوغة الفنية. ومفاد ذلك أن رؤية الفنان للوحة (على سبيل المثال لا الحصر) متميزة، حيث تختلف تماما عن رؤيتها من غيره، وذلك لاختلاف شروط الرؤيتين. إذ أن حزمة من الشروط المعرفية والتقنية متوافرة لدى الفنان، لكن منتفية عند غيره… وكما سبق أن ذكرنا في أكثر من موضع، أن هناك مستويان لرؤية العمل الفني/التشكيلي: رؤية “عارفة” وهي رؤية الفنان، ورؤية “غير عارفة” وبالأحرى مستكشفة، وهي الرؤية الغيرية (هنا عارفة وغير عارفة بالمعنى التقني والتشكيلي الموضوعي).
فكلما كتب الفنان عن تجربته الذاتية في التشكيل، ورام التوغل عميقا في مساراتها وحيثياتها ومنطلقاتها…إلخ، يجد نفسه مستدعيا لمقاربة حدثين متعالقين بشكل عضوي ووجودي تكاملي، حدثين متوازيين يشكلان في حقيقة الأمر، أُسَّ عملية الإبداع، هما: حدث التفكير في’ فعل الإبداع’ وحدث ‘فعل الإبداع عينه’، بمعنى عملية الإنجاز وإخراج المبدعة إلى الوجود. وبالتالي هناك ممارسة ذهنية تشمل التفكير في الإبداع تحصل قبل ومع عملية الإنجاز وموازية لها. فالحديث عن حدث التفكير يعني للفنان الحديث عن طريقته في بناء تصوراته المخيالية إزاء مبدعاته ومبتكراته، وكيفية مقاربتها فكريا وفلسفيا قبل الشروع في إنجازها. ولا شك في أن الكتابة عن ذلك يشكل عاملا معرفيا إضافيا يصب بالتأكيد، في تسهيل فك شفرات عمله حين استقرائها عموما. مما يوسع آفاق إدراكها وفهمها وتذوقها لدى المتلقي…
وبممارسة الفنان الكتابة يكون، بلا شك، يمارس جنسا آخر ثان من التعبير والتواصل، جنس له مقوماته الذاتية ومرتكزاته الناظمة له والمخصوصة به. واللغة، ( كما هو معروف في العلوم اللسانية) المنطوقة منها (أي الكلام ) والمقروءة (المكتوبة)، على حد سواء، تتميز بقوة وطاقة لا حد لها من حيث التعبيرية والتواصلية، والتوصيلية للأفكار والمعارف والمشاعر والصور…لا يوازيها في ذلك – باعتبار الفارق- غير الفن التشكيلي والموسيقى والمسرح والسينما والرقص… وتفوق بعضَها أحيانا، من حيث نجاعتها التبليغية وسلاستها، وفاعليتها التأثيرية وثراء معجمها الوظيفي…لكن مع ذلك، في حيز وعند حد ما ، تتقلص وتتلاشى المؤهلات التعبيرية للغة وينكمش المدى التعبيري والتواصلي لديها فتتوارى منكفئة لتفسح المجال واسعا للفن ليتكفل بالحدث التواصلي المعرفي والثقافي والتاريخي والرمزي… إلخ. فهناك حضارات غابرة تعرفنا عنها حصرا من خلال شيفراتها الفنية لا اللغوية.
تنضاف، إذن، اللغة بكل طاقتها وبما لديها من قوة شحن الأفكار والمعارف، إلى “التعبيرية التشكيلية”، فيمتلك الفنان حينئذ وسيلتين لتوصيل “عوالمه ومحمولاته ومقاصده” وتأطيرها فكريا ومعرفيا وإعلاميا…إذ لا يجب إغفال حقيقة أن ‘الكتابة عن الفن’ توثيق وتأريخ للفن، وبالتالي تشكل – ضمن البعد التاريخي- مكونا من المكونات المرجعية المعرفية المخصوصة بـ”أنثروبولوجية الفن”…
هناك ثقافتان: ثقافة: ‘الذاكرة وتدوير المحتوى’، وهناك ثقافة: ‘التفكير والبحث’، أما الأولى فتقوم على استعارة المحتويات واستيرادها وإعادة إنتاجها واستنساخها، ولا تقيم بذلك مجتمعا علميا لأن ( المجتمع العلمي يكون موجودا عندما توجد تقاليد وطنية في البحث العلمي تمهد لوجود هذا المجتمع العلمي وتقدم له الخصائص التي تميزه، وإذا انعدمت التقاليد الوطنية في البحوث لا يبقى سوى كمية من المعلمين وتجمع من التقنيين )[3]. أما الثانية فعمادها التفكير والبحث في الأشياء مما يؤهلها للاكتشاف والابتكار والإبداع، وبالتالي إنتاج العلم والمعرفة ، وهكذا؛ الأولى تتكلس وتتحجر، وتشيخ وتضعف وتتقوقع، أما الثانية، فتتطور وتتوسع وتتكثف وترحُب آفاقها… كذلك هو حال الفن، فن يعتمد على التقليد واستنساخ معالم فنون غيره لن تقوم له قائمة، ولن يعول عليه، و حقيقته أنه ليس فنا وإنما جثة فن. فالموت لا ولن ينتج الحياة، وفاقد الشيء لا يعطيه. الفن الحقيقي، المفعم والنابض بالحياة والحيوية، هو ذاك الذي نتج ذاتيا من رحم بيئته/مجتمعه حيث نبت وترعرع في كنفه وحضنه، وتغذى منه وفيه. ويشكل جزءا ذاتيا منه … من خلال هذا الفن وفيه، تجد الذات نفسها وهويتها فيتحقق معناها، وعبره ترتبط بالأشياء والحياة وبالوجود والتاريخ والمعرفة…. هو وعاء للحلم والآمل والمشاعر، ومرآة لآلام وأحزان الناس. هو كذلك استشراف للمستقبل والممكنات والمتاحات، وهو الفن الذي يقاوم العدم ويتصدى للنسيان، يفتح آفاقا جديدة أكثر رحابة وامتدادا، وأزخر وأكثف فكرا ومعرفة… وخيالا.
وكما أن الفن وجود، وكشف عن الحقائق والمعرفة والممكنات، والأسرار والمتعة و”الجمال” ، وعبور لآفاق الجديد… يمكنه كذلك أن يشكل بوتقة للمنافي و دوامة الاغتراب وتغييبا ومحوا للذات واستنزافها، ومسرحا للوهم والألم. كلما كان فنا مصطنعا غير أصيل منتحَلا و منتحِلا هجينا. دخيلا على الذات وعلى الهوية والثقافة الأصلية…
فليس هناك أعظم مأساة قد تصيب حضارة أو ثقافة ما، من أن تلتمس ذاتها في ذات غيرها وتبحث عنها في الآخر وعنده. وبالأحرى ذاتها الفنية. لأن الفن – كما سبق قولنا فيه – هو هوية، والهوية لا تُسْتورد ولا تُسْتبدل، إنما تكون أو لا تكون. وبذهابها ترحل الذات الثقافية والحضارية، ومعها تاريخها وذاكرتها، فتنقرض وتنتفي ليلتهمها في النهاية، العدم والنسيان…