الفنان العصامي جمال الكتامي .. صوت لحن الأمل والصمود
أكتوبر 21, 2017
خاص- ثقافات
رشيد أمديون*
رجل يأتي إلى الدنيا
– “رجلٌ يأتي إلى الدنيا نحيلا وجميلا”. يتأبط عودَه.. وبالعزف يُسعد الأذواق تغريدا وترتيلا. وإذا أطرب لا يرتاح كالناس قليلا.. ويتغنى بالجمال، بالمشاعر، بالإحساس.. وطريق الفن منذ الأزل كان طويلا.
– رجل يأتي إلى الدنيا، على شفتيه أغنية الحياة تنساب كماء النهر سلسبيلا.
يلتزم بالقضايا الكبرى، قضايا المواطن المغربي والإنسان عموما.. يشدو أهازيجَه فما تأبى نداءَ الغيمِ ذاتُه، يشدو كي يُبلِّغ احساسه لعالمِ ولى وجهه شطر الشر والدمار.. يشدو ليعبِّر عن موقفه كإنسان أحبَّ من خلال فنه، أحب الكلمة، أحب النغمة، وأنطقت لُحُونه صمت العشق والعاشقين، وأرجفت أوتاره أجنحة وطن، بل قلوب العارفين. أحبَّ أن يرى السعادة تعمُّ العالم فحلق كالطير يشدو بين غابات الجمال.. وبين ربا العبارات، يلتمس رؤية ساقية عوده تتفجر بحورا وألحانا، وعيون السعادة كأنها موجه العاتي، وأغنياته ريح، تطرق بابه، واللحن بالسعادة أتِ..
– فنان وملحن صاحب صوت شجي يختار الكلمة أو تختاره، لأن الكلمة الجميلة والشعر البديع لن يرضى إلا بلحن سامق وصوت دافئ يُدهش. لهذا فعلى عود الفنان المغربي جمال الكتامي يلتقي الجمال بالجمال.. وتصدح القصيدة، فيصبح لها لسانا وشفتين، فيحادي صوت الشاعر صوت حنجرة الفنان. وهكذا الفن حين يعرج بالشعر إلى عنان السماء، أو يحوم به في أفق الإبداع…
الفنان جمال الكتامي طير خفيف يشاهد الأفق البعيد ويغني للحياة…
الفن نضال
بناء على المفهوم السائد، الأغنية الملتزمة هي من تتناول القضايا الإنسانية والعربية، أو التي تتخذ لها موقعا احتجاجيا ضد الظلم والقهر كشكل من أشكال النضال… يمكنني في هذا المقال، أن أضيف، أني أعتبر الالتزام بمفهومه الفضفاض يشمل أيضا مسؤولية رفع مستوى الذوق العام، وبعبارة أخرى، الفنان الجاد يقدم الأغنية التي تنقذ الفن من مؤامرة التشويه، يقدم العمل الذي يعيد للفن قيمته الأصلية والأصيلة… ولا يمكننا أن نغفل أنها مهمة الفنان أساسا كما هي مهمة القائمين على المجالات الفنية. ثم إذا اعتبرنا الأمر كما قلت، فإننا نضع الفنان بكل بساطة في موقع المناضل، لأنه يناضل من أجل الفن، ومن أجل تشكيل الوعي وتهذيب النفس، وتنمية الإحساس بالجمال ورفع مستوى التذوق أمام موجات شتى، تُجيش الأعاصير وكل ألياتها المادية والمعنوية والتقنية والعملية لتقدم الرداءة باسم الفن دائما.. إن الجمال بدوره يعدي (على حد قول القاص أحمد بوزفور)، وعدواه هي غايتنا، كي تنتشر ثقافة السمع والذوق السليم ورهافة الحس.. أما الاستسلام فهو شكل من الانهزام والتخلي عن المبادئ.. والفنان والملحن جمال الكتامي يبحث عن الجمال أكثر مما يبحث عن الشهرة – وقد صار طريقها أسهل بكثير عن ذي قبل- الأغنية المعاصرة أريد لها عن قصد أو عن غير قصد، أن تنحدر نحو الرداءة، ثم تُقدَّم للجمهور على أنها إبداع يواكب ثقافة العصر وميولات الأجيال الجديدة ويتماشى مع مقولة “هذا ما يطلبه الجمهور”، ويدعونا هذا إلى التساؤل، هل فسد الذوق أم أن الزمان غير الزمان؟ لأنه في الحقيقة، لا يمكن أن نعتبر الإبداع الغنائي يحقق وجوده الصحيح، إلا إذا جمع ما بين أمرين وآلف بينهما من غير تنافر: الكلمة الشعرية بما تضمره أو تعلنه من قضايا تخلو من النشوز، واللحن المطرب الذي يخضب الكلمات فينفذ بها إلى أعماق النفس، لتستولي على وجدان وشعور وعقل وخيال المستمع، هذا هو الإبداع الحقيقي الذي يرفع ولا يخفض، يسمو ولا ينزل، له جناحان لا يمكن التخلي عنهما أبدا: الكلمة الشعرية المرفرفة، واللحن الفني الذي تمده الكلمات قوة ودعما كما يمدها تعبيرا وجمالا ورونقا وسحرا ودهشة. الأغنية التي لا تستطيع أن تمنح ذلك للأذواق، فهي في أغلب الأحيان تتوسل بالصورة البصرية/التلفزية والتقنيات الحديثة، بالمؤثرات الصوتية التي تخفي عيوبا كثيرة لخلق التأثير الذي تفتقده ضمنيا..
نجد جمال الكتامي يختار القصيدة قبل أن يختار اللحن، كل شعر أو زجل نفذ إلى عمقه فهو اللحن نفسُه، فالقصيدة ترافق لحنها في اختراقها لذاته ولوجدانه، وفي أعماقه يتزاوج المعنى والمغنى، لينطلق النغم رقراقا تستجيبُ لانسيابه أوتار عوده الرنان…
الباحث عن القضية والقصيدة
ولد الفنان جمال الكتامي بمدينة تطوان (شمال المغرب) عام 1962. كانت بداية اكتشافه لموهبته وهو في سن الثالثة عشر بإحدى الجمعيات الكشفية (بحصة الإنشاد) التي كان منخرطا فيها. ثم نمت تجربته العصامية عبر مشاركاته في الجمعيات الثقافية بدار الشباب إدريس الأول بمدينة صفرو، إذ كانت مثل هذه الفضاءات تمثل بديلا يعوض غياب معاهد موسيقية في بعض المدن، فيلجأ إليها الموهوبين كي يصقلوا مواهبهم. لكن هذا الفنان كان يؤمن بأن الموهبة أمر أساسي في مجال الفن فلا إبداع لمن لا موهبة له، والمعاهد لم توجد إلا لصقل المواهب وإبرازها وليس لخلقها، كما صرح بذلك في حوار بإحدى الصحف… ثم مع تأثره بمجموعة ناس الغيوان وجيل جيلالة والمشاهب، أسس بدوره مجموعة تغني هذا اللون الغنائي الذي ذاع صيته خلال تلك الفترة. خاصة وأنه كان لونا إبداعيا جديدا فرض وجوده بقوة في الساحة الفنية المغربية بالخصوص، وسميت تلك الظاهرة بعد ذلك بالظاهرة الغيوانية التي أنتجتها بلا شك تلك التحولات العديدة التي عاشها المغرب بالخصوص والعالم عموما. ولعلنا لن نكون مخطئين لو قلنا أن تلك التجارب استجابت لانتظارات كل الناس على اختلاف وتنوع المناطق التي ينتمون إليها، فهي كانت لسان الطبقة الشعبية والطبقات المهمشة التي عبرت عن آمالها وعن نبضها وكذا انزعاجاتها من الاخفاقات والهزائم التي شهدتها تلك الفترات. والذاكرة المغربية مازلت تحتفظ بصيحات العربي بطما (يا صاح وسط الحملة) وانتفاضة عبد الرحمن باكو صاحب آلة الهجهوج (غير خذوني)، وتغريدات عمر السيد… إن هذه الحقبة كان لها أثرها الطبيعي على هذا الفنان وهو من عاصر فترات تأسيس كل هذه المجموعات وبروزها… إلى أن بدأت مرحلة أخرى من النضج مع إلتحاقه بالباكلوريا، حيث تأثر بالشيخ إمام، وبالموسيقار مرسيل خليفة فكان يغني أغانيهما مستدرجا بذلك إلى نفسه قبل محيطه متعة أخرى من متعة الغناء الجاد، فتحول من الغناء الجماعي إلى شكل الغناء المنفرد مع العزف على العود. ولعل تجربته تشكلت ملامحها وبصماتها بناء على تلك التجارب السابقة التي عاصرها الفنان أو تأثر بأدائها وإبداعاتها على الصعيد المغربي والعربي، بيد أنه لا يمكن اعتبار بداية انطلاق مشواره الإبداعي الذي زاد تجربته رسوخا بل وثبتت قدميه في عالم الغناء إلا حين اقتحم بثقة مجال التلحين، وقام بتلحين أول أغنية له، كان ذلك عام 1990 عندما استطاعت واحدة من قصائد الشاعر المغربي عبد الرفيع الجواهري التي نشرت على جريدة الاتحاد الاشتراكي أن تأخذ بتلابيبه إلى اقتراف اللحن والإقدام على انتاج عمل إبداعي خالٍ من التقليد أو المحاكاة، فكان عنوان القصيدة “عام تسعين”. كانت تشير إلى أحداث انتفاضة 14 دجنبر 1990 وكذا إلى أحداث حرب الخليج.. وعلى هذا فإن هذا الفنان العصامي، منذ البداية يبحث عن القضية كما يبحث عن القصيدة، وعن الكلمة الشعرية العميقة، لهذا فهو يختار النص بذائقة شاعر وملكة أديب، القصيدة عنده إحدى الركيزتين الأساسيتين في العمل الغنائي، كما أنه يعطى أهمية للقضايا التي غفلت عنها الأغنية المغربية مثل قضية الطفولة.. والأمومة: (رأيتك آه يا أمي رأيتك/ كان وجهك دافئ الأفياء يسكنني)… والمرأة والأنثى كإنسان له كيانه: (هب أن الريح أغنية/ وأنكِ لحنها الآتي/ هب أن البحر من عينيك ساقية/ وأنك موجها العاتي..).. إضافة إلى القضايا الإنسانية كالكرامة والعدالة والحرية: (قيدوه ضربوه /أخمدوا في وجهه السيجارة العشرين/لكن لم يقل شيئا).. وإن تلحين قصيدة “عام تسعين” لأحد شعراء المغرب المبدعين، والذي غنى له المطرب الراحل محمد الحياني رائعته (راحلة) و”قصة الأشواق”، كما غنى له الفنان عبد الهادي بالخياط رائعته “القمر الأحمر” و”معياد”.. لهو بداية موفقة لفناننا في مرحلة شبابه، ولا شك أنه كان يعي جيدا ولا يزال أن الفن إبداع خالد مادام قادرا أن يزرع الأثر، لا يكفي أن يمر مر السحاب، وإلا لماذا بقيت روائع الفنانين محمد الحياني وعبد الهادي بالخياط وغيرهما حية لا تبلى مع كثرة الاستماع إليها. فمنذ النصف الثاني من القرن العشرين إلى يومنا هذا مازلت تُطرب وتمتع أذواق عاشقي الفن بنفس المستوى الذي أطربت به الأجيال السابقة، وكما لازالت أغاني أم كلثوم وعبد الحليم وفريد وغيرهم خالدة، كلما تبعاد زمن إصدارها زاد بهاؤها وزادت قيمتها..
تجربة جمال الكتامي الفنية متنوعة وغنية بما راكمته من إبداع، رغم أن أعماله لم تحظ بعدُ بتسجيل داخل أستديوهات الإذاعة والتلفزة، كي تدخل على الأقل إلى أرشيف الأغاني المغربية بالإذاعة الوطنية إلا أن هذا لا ينقص من قيمة فنه ومن مسعاه النبيل نحو انتاج أغنية مغربية يُرَاهن عليها.
في التسعينات من القرن الماضي، إلى جانب غنائه للشعر الفصيح، غنى القصيدة الزجلية الساخرة التي تمرر رسائلها السياسية وهي لون من ألوان الاحتجاج ويعتبر الأقرب إلى سمع الطلبة والمناضلين في مدرجات الجامعة، وداخل صالات النقابات والأحزاب السياسية، خاصة في تلك المرحلة تحديدا والتي عرفت أشكالا مختلفة من النضال… ومع ذلك ظل مقتنعا بالقصيدة الشعرية لأن الأغنية النضالية أو الأغنية الاحتجاجية، إن صح تسميتها هكذا، تظل محصورة بين فئة معينة، فئة يستهويها النضال والاحتجاج والرفض… لهذا فقد غنى للعديد من الشعراء المغاربة ومازال يغني لهم تقديرا للإبداع المغربي وتعريفا به من جهة، ورفعا لمستوى الذوق العام من جهة أخرى وتقديم الأغنية المعاصرة ببصمات إبداعية جديدة.
ومن القصائد التي لحنها وغناها أذكر:
– قصيدة “دفاتر الألم” للشاعر عبد السلام بوحجر
– قصيدة “عرس الصباح” للزجال الراحل محمد خوتاري
– قصيدة “أنثى الضحى” من شعر محمد شيكي
– قصيدة “أضيئي الشوق في عمري” من شعر لطيفة الأزرق
– قصيدة “جئتِ من حلم جفاني” للشاعر محمد شنوف
– قصيدة “وداع” لجمال بدومة
الفنُ، ما تركَ الأثر
إن الإيمان بالفن الحقيقي وبقضاياه يضع الفنان أمام مسؤولية تقديم ما يرضي ذوقه أولا ثم أذواق من يعشقون الكلمة التعبيرية القوية واللحن الرصين العميق. وقد شارك جمال الكتامي في مئات من الأنشطة الفنية والثقافية والأدبية طوال مشواره الفني، كما عُرف بحضوره الدائم في العديد من المهرجانات والملتقيات والأمسيات الشعرية منذ منتصف التسعينيات إلى يومنا هذا. ومن المهرجانات والملتقيات المهمة التي شارك فيها نذكر على سبيل المثال: الملتقى الوطني للأغنية الجادة بمراكش – ملتقى الشعر والأغنية بتازة ، الذي شارك في ثلاث دورات منه (1995 و1998 و1999)- الملتقى الوطني للشعر بفاس- مهرجان ربيع الزجل بتيفلت – مهرجان الأغنية الجديدة بالمحمدية…
تجربة هذا الفنان تمثل صوتا جادا من الأصوات المتواضعة والمحترمة، أصحابها صامدون وملتزمون بالقضايا ذات الأبعاد الإنسانية والقضايا الفنية التي تدعو إلى فن رفيع له جمهوره رغم قلته بالمقارنة مع من يتبعون موجة الأغنية الجديدة السريعة التي تخاطب الجسد لا الوجدان، وتفسد الذوق، وتلبس الحق بالباطل… تلك الأغنية التي لا تترك أثرا حقيقيا لأنها بلا أثر. وقيمة النجاح –حقيقة- لا تقاس بكثرة الجمهور وإن كان ضروريا خاصة في مجال الغناء، ولكن تقاس بقدرة الأغنية على حفاظها على تأثيرها الوجداني حالا ومآلا ولو بعد عقود، تماما كما هي الأغاني الكلاسيكية والأغاني الغيوانية على سبيل المثال.
__________