دارة الفنون.. ثلاثون عاماً من الإبداع

*محمد العامري

لم تكن فكرة إنشاء دارة للفنون سوى مقدمة لمشروع ثقافي كبير، يسهم في إعادة التوازن للساحة الثقافية الأردنية والعربية والعالمية، عبر بناء جسور من التواصل وإتاحة الفرصة للمثقفين باللقاء وصولا إلى تثوير السؤال الثقافي والجمالي، وأرى إلى أن مثل هذا المشروع التي تقف خلفه الفنانة سهى شومان وعائلتها هو بمثابة الحلم البعيد لاستمرارية بث التوعية ومقاومة البؤس وإعطاء جرعة جمالية للمجتمع عبر اجتراحات متنوعة من أمسيات موسيقية وغنائية وشعرية وفكرية إضافة إلى المعارض التشكيلية بتعدد وسائطها من الرسم والغرافيك والفيديو ارت والبيرفورمانس والانستليشن، لقد جعلت دارة الفنون من جبل اللويبدة محجا للمثقفين والسواح الأجانب والعرب، ولا يكاد أحد من زوار عمان إلا ومر على الدارة، تلك الدارة التي تقف على مطل جميل مقابل القلعة، حيث تنير بوجودها أرواحنا المتعبة، لقد كانت لمكتبتها التي تعتبر الأولى في عمان والمختصة بالفنون موئلا للباحثين المحترفين، حيث قدمت المكتبة وعيا جديدا في مجال الفنون، بل أسهم في إشاعة الفن بين الناس والتعرف على المدارس الفنية الدائرة في تاريخ الفن العالمي وصولا إلى التعريف بالفنان العربي عبر سلسلة من المطبوعات والشهادات الإبداعية الخاصة بالفنانين،إضافة إلى مكتبة مهمة للأفلام، لقد كان لأدراج الدارة ذكريات في الصعود والنزول إلى مشاربها المدهشة، حيث تشهد تلك الأشجار تاريخا من العشق بين الناس، فكانت هناك حوارات هامة بجوار نافورتها وتحت وطأة شجرة التوت التي اطعمت الطيور من عسلها وظللت العشاق من صهد شمسها،

لقد نما مشروع دارة الفنون نموا متواصلا ومحترفا حيث ضمت مبان جديدة كانت مهجورة لتبث بها الحياة عبر ترميمها وإعادة تأهيلها لتصبح الدارة بتاريخها التليد المؤسسة الاولى في اقتراف الثقافة المحترفة والتعايش مع الناس والجيران من خلال فعل جمالي خالص.

من القليعات إلى دارة الفنون: بدأت علاقتي مع دارة الفنون منذ تأسيسها في العام 1993 حين كان موقعها في الشميساني وقد اشتبكت مع الفعل الفني الاحترافي منذ ذلك الحين كشاب قروي جاء من قرية في الأغوار الشمالية – القليعات.

لقد كنت شغوفا بمعرفة الفن وأصحابه حيث كنت أتابع الصحف الأردنية يوم الجمعة حين كانت الملاحق الثقافية، كنت مهوسا بصورهم كصورة الخزاف الفلسطيني محمود طه الذي عرف بصورة وهو يدخن البايب «الغليون» لقد كان حلمي أن أحتك بأعمال لفنانين كبار ووجدت دهشتي الأولى آنذاك بدارة الفنون في الشميساني من خلال تعرفي إلى أعمال الفنان شاكر حسن السعيد فعجبت لفنان ينقل حساسية الجدار من الواقع المعيش إلى عمل فني باسخدامات أدوات اقرب إلى البدائية منها الحرق وتفعيل الاثر، وانتقلت لمتابعة الدارة في جبل اللويبدة حيث شاركت في اكثر من محاضرة ومداخلة لها علاقة بالفعل الجمالي، وأذكر اأني في الثلاثين من الشهر الثامن للعام 1998 كان لدي محاضرة في البيت الأزرق حينها كانت زوجتي في مستشفى عمان الجراحي لولادة ابني نواف، واستلمت مكافأة من الدارة وأهديتها لطفلي الذي صرخ في لحظة كلامي عن الجمال.

لقد تتبعت أصدقاء كثر منهم اسماعيل فتاح الترك وزياد دلول ومروان قصاب باشي واسماعيل شموط وتمام الاكحل  ومهنا الدرة  وضياء العزاوي وعبدالرحيم الشريف ويوسف احمد ومحمود طه وشمعون وآخرين كانت أنفاسهم تبث الحياة في المكان.

لقد كانت علاقتي الأولى مع فن الغرافيك للمرة الأولى من خلال محترف دارة الفنون في منتصف التسعينيات من القرن الفارط.

حيث أنجزت مجموعة من الأعمال الغرافيكية المطبوعة عن معدن الزنك، وكانت علاقتي الأولى في الغرافيك، فلولا محترف الدارة الذي أتاح لي هذه الفرصة لما تعرفت بشكل مبكر على هذا الفن.لقد انغرمت بهذه المباني التي شهدت منذ تأسيسها هواجس الشاعر فؤاد الخطيب وبعض رؤساء الحكومات الأردنية، لقد ظلت تلك الانفاس تتواصل إلى يومنا هذا وتكبر يوما بعد يوم.

لقد كتبت هناك أجمل الذكريات والتقيت بمجموعة من الفنانين والشعراء على رأسهم الراحل محمود درويش وادونيس وقاسم حداد وامجد ناصر ونصراللة واخرين، فتلك الحواس لم تذهب من ذاكرتي إلى الان، تلك الغرف التي انشغلت بالجمال وذكريات العائلة كالمبنى الخاص بذكريات الراحل خالد شومان، الذي يبث ضحكاته في تلك الغرف الحنونة، فتشت الدارة حجرا حجرا فكانت تشبه احلامي، فلم اشعر انها غريبة علي، كاني اعرفها منذ زمن بعيد، واغرب ما اذكره ذلك الحوار التنافسي بيني وبين الراحل شاكر حسن ال سعيد حول دلالة الارقام والرموز في لوحته الاقرب إلى الطلاسم السحرية حيث كان يفسر لي تلك الارقام فقلت له حين ترحل من سيفسر تلك الارقام استاذ شاكر، وتابعت قولي الا ترى ان العمل الفني هو جمالية بصرية بامتياز بعيد عن التفسير، فاذا كنا نرسم ما نتكلم به لماذا الرسم؟كان الامر اقرب إلى مناكفة ثقافية وصولا للبعد الواحد وتجلياته المعرفية، لقد كنا نتقن الحوار على خلاق الان حيث اصبحت العزلات الثقافية هي السائد الرئيس في المشهد، فدارة الفنون تحاول جادة وباستمرار ان تكسر تلك العزلات لاتاحة الحوار والللقاءات بين اهل الفن والفكر.
_________
*الدستور

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *