خاص- ثقافات
*أحمد غانم عبد الجليل
تستغرب السيدة العجوز ارتباك حسان بواب العمارة، تفصد العرق من جبينه الأسمر، تصلب عضلات ذراعيه، ووجهه الممتقع بالحمرة، بمجرد دخوله شقتها لاستبدال قنينة الغاز أو أي شأن آخر تحتاجه فيه، استعجاله الخروج، وإن نسي شيئاً من عدته التي تعينه على تصليح مختلف الأعطال في سائر شقق العمارة والعمارات القريبة أيضا، رغم إغداقها المستمر عليه، بالمال وبالطعام وبالملابس القديمة لولدها، أتت معه بعد حصوله على عقد عمل في هذا البلد، يتخطفها هاجس الموت في أرضٍ غريبة مثلما تخطفها هاجس الوحدة في بلادها، وكل واحدة من بناتها الثلاث قد استقرت في بيتها الخاص البعيد عنها.
يهرع إلى الخارج، مستنجداً بدفقة هواء منعش يسترد بها هدوء أعصايه النافرة، وجيب قلبه المتقافز في صدره العريض، بتلمظ صائم ينتظر انكسار قيظ الظهيرة، تنسم عطر الورود المختلفة المزوعة على أطراف حدائق بيوت الشارع الفخمة، شاسعة المساحة، وفي الأصص الموزعة على بعض شرفات العمارة والعمارات المجاورة، مميزاً منها رائحة النرجس، كانت والدته أيضا تهتم بزرع شتلات منها، رغم ضيق مساحة شرفة شقتهم الصغيرة، يفح عبقها على شرفات الجيران، يشتاق إليهم أكثر مما تصوَر لدى سفره، مودعاً شهادة المعهد في أحد الجوارير المخلَعة، يعد نفسه بعدم الرجوع قبل توفير مبلغ من المال يمكنه من شراء محل عامر بالأجهزة الكهربائية الحديثة، ربما ينافس بمساحته محل الحاج منير الذي أخذ يعمل لديه منذ دخوله المرحلة الإعدادية.
عناد رجولته يُحرِم عليه نسيانها؛ تلك السائحة الشقراء، ممشوقة القوام، استأجرت وزوجها ذات الشقة لمدة شهر من خلاله، بالكاد كانت إنجليزيته البسيطة تستطيع إفهامه الطلبات التي تريد أن يأتيها بها من السوبرماركت القريب، مغدقةً عليه بالبقشيش، في آخر ليلة كانت ترتدي ذات لباس النوم شديد الإغراء، بحمالتين تنوآن بحمل صدرها العامر، يغطيه روب لا يحد من شفافيته شيء، محاولات غض بصره، تعوذاته التي صار يجتهد بترديدها عقب كل صلاة لم تمنعها من مباغتة شبق أحلامه، وحدته الخانقة في غرفته الصغيرة سيئة التهوية.
كان طلبها واضحاً، لا يرتبط بأية لغة، بعد رؤيته خروج زوجها بالسيارة المستأجرة من المرأب، يرمقه بابتسامةٍ لم يستدل على معنى خبثها، قبضت بشرة يدها الغارقة بأغلى أنواع الدهان المرطب على خشونة يده القوية، ثم أغلقت باب الشقة بدفعةٍ من قدمها الحافية، وضعت أربع أوراق من فئة المئة دولار في جيب قميصه، تعلو وجهها ذات الضحكة التي تذيب شقاءه اليومي وتضاعفه في آنٍ واحد، أشارت بيدها نحو حمام غرقة النوم الكبيرة وثيرة الأثاث، ثم إلى رأسها، وكأنها تود دعكه وسائر جسدها البض، ارتمت على الفراش العريض، فوق المفرش الموَشى بخيوط الذهب، في غنجٍ لم يتخيل أنه سيحظى به يوماً في واقعه المكبل بالفقر، لعشرة أعوامٍ مقبلة على أقل تقدير، عله تكهن لبرهةٍ ساخرة لما فتحت له باب الشقة ذات مرة، منتفخة الوجه، وقد غادرت دفء الفراش لتوها، أنها لا تصغر والدته التي حنتها الأعباء وتدبر مصاريف البيت، بما يتيسر من دخل تشدد الحياة قبضاتها عليه حيناً بعد حين، أكثر من عدة أعوام، إلا أن نشاطها وحميميتها الملتهبة كانا يحفظان سنين عمرها في بوتقة الشباب.
أرادته فرعوناً من الفراعنة التي سمعت عن حضارتهم وسطوتهم الكثير، أو مثل شهريار الذي لم يمل من مطاردة العذارى، وإنهاك أجسادهنَ فوق فراشه السلطاني قبل إزهاق أرواحهنَ على يد السياف، هارون الرشيد الذي كان يصطفي كل ليلة واحدة من جواريه ويشرع السيف في وجه أعدائه نهاراً.
كان منهكاً، مستلذاً، فيما كانت تستنزف منه كل دولار نقدته إياه.
رغم كل تقزز تمَلكه من تلك الأوراق الخضر، لم يتخلَ عن شيءٍ منها، فقط نحاها جانباً عن مدخراته المتجمعة لديه، كرذاذ مطر بين كفيّ من أهلكه العطش، والمبلغ الشهري الذي كان ينوي إرساله لأهله مع أحد رفاقه لدى عودته إلى بلدهما، اضطر أخيراً، نازعاً شوك الترددعن نفسه، بسرعة تسابق الوقت، إلى إرساله وكل ما لديه واستدانه من مال، بمجرد أن كلمه أخوه عن ضرورة إجراء عملية جراحية مستعجلة لوالدتهما.
سجد سجدة شكر طويلة، ينبض في أطرافه خفقان قلبه المتسارع بعد سماعه خبر نجاح العملية، عندئذٍ فقط اسشعرت روحه بلسم الغفران، مغتاظاً من فكرة إعطاء النقود لحبيبة، من غير أن يعرف السبيل إلى ذلك حتى، فما شأنه بتلك الفلبينية ضامرة الجسد، من تمرمغت سنوات تغربها وخدمتها في البيوت، بين هذا البلد وذاك، في زواج والدها المسن من فتاة في مثل عمرها تقريباً، حتى لو ظلت صورة جلستها الذليلة على عتبة السلم تطارد مخيلته، تخبره بفجيعتها بعربية ركيكة متعددة اللهجات، قريباً من شقة الأستاذة الجامعية وزوجها العميد المتقاعد، يكاد لا يخرج من الشقة إلا برفقتها في زيارة عائلية، يعودان منها على الأغلب شبه متخاصمين، ينخزه تأنيبها المستفز، يتبرم من أحاديثه وتعليقاته غير المروضة على المجاملات الاجتماعية، أو للتمشي في الشوارع القريبة في أمسياتٍ متباعدة، تثقله بإنهاك لم يعهده لدى جولاته في ميادين القتال، أو لدى لقاءاته بعدد من رفاقه القدامى في إحدى الكافيتريات، يسرد لهم بإطناب بعض ما قرأه من مذكرات أشهر القادة العسكربين على مر العصور، بالإضافة إلى شيء من تفاخر ذكرياته عن الجبهات المحمومة بالموت والنار، وقد يرجع بين آونة وأخرى مخموراً، يتخبط في سيره كالأطفال حتى يدلف إلى شقته، ليبدأ عراك يفزع حبيبة من نومها ويرغمها على سماع صراخه وزوجته المتغطرسة أمام صوره بالبزة العسكرية وأنواط الشجاعة التي لا يتورع عن رميها في وجهها المشمئز منه ومن رائحته، مفضلاً العودة إلى بلدهما بمفرده، وإن لم يجد مكاناً يأويه، أو مصدر عيش يقتات منه سوى تقاعده الضئيل، على أن تسوقه كالخروف، بعد قيادته فرق من الجيوش في شتى المعارك، دون انتظار صدور القرار السامي بقبول هجرتهما إلى كندا، مكان إقامة ابنتهما وزوجها وأحفادهما منذ سنوات.
كثيراً ما يكون متحفزاً للشجار، يحاسب حبيبة على أي ذرة غبار يبحث عنها هنا وهناك، تمسحها والدمع يرسو في عينيها الدقيقتين، إلا أنه يمنعها من لمس الجرائد، وإن بهتت وتهلهلت أوراق بعضها، مكايدةً بشكوى زوجته المستمرة من بعثرتها في كل مكان، ينادي حسان بفظاظة، يعنفه لعدم اهتمامه بمسح السلم رغم تكرار قَسَم المسكين بمسحه كل يومين منذ استلامه العمل في العمارة، صيفاً وشتاءً، ردوده خافتة الصوت تستشيط صرامته العسكرية غضباً، تحثه على معاقبته بأي صورة كانت، ثم يفاجئه بمبلغ من المال لا يعرف الشاب مناسبته، بذات جهامة الوجه المزروع بالغضون.
أحياناً، وبعد انتفاضه من فراشٍ يلملم تذبذب نومه وهذيان أحلامه ثم يلفظهما نزقاً خانقاً، يلتمس من النسيم الرقراق في الشرفة شيئاً من السكينة، تباغته حيوية الشاب المشعة مثل ضياء الشمس الزاحف في السماء، عنفوان شبابه الذي يطلق العنان لجسده دؤوب الحركة في كل مكان، صعوداً ونزولاً، مجيئاً وذهاباً، يغبط جلسته مع أصحابه من بنائي العمارة المجاورة لدى شربهم الشاي، تتفجر منها ضحكات رائقة تغالب فقر الحال، وأيام الحارس الموحلة بالشقاء تواصل تتبعها زخرفة الآمال التي تزينها له الحياة، كل يوم منها ينتهي بهمود جسده فوق سريره الحديدي العتيق، يشبه الأسِرة التي كان يغفو عليها خلال عقود، مروضاً نفسه على عدم الاستغراق في النوم، خاصةً في ليالي المعارك الطاحنة، يتخطف سمعه دوي انفجار، أو حتى لعلعة رصاص بعيدة.
لم يتنبه إلى عدد سنوات عمره المبعثرة في جبهات القتال إلا لدى رؤيته ابنته فتاةً تنضح بالأنوثة، تهرب من خشونة طباعه وتدخله الغريب في شؤون حياتها إلى حضن أمها، يأخذها تمرد لم يواجهه يوماً مع أيٍ من مرؤوسيه، ليلة زفافها فقط تهدج صدره بعبق أنفاسها طويلاً، وكأن أحدهما يعتذر بسيل دمعه للآخر، عندئذٍ لم يود أن تفارقه أبداً، لا أن يسلمها ليد رجل آخر رحل بها إلى أقصى الشمال، ينتظرانه وزوجته هناك، برفقة أحفاد لم يتعرف عليهم لحد الآن، إلا من خلال عدة صور باسمة.
صرخات زوجته الفزعة تيقظه، كما لو أن قذيفة سقطت على مقربة منه، أخبرته قبل أن يبادلها الصراخ بهرب حبيبة! لم تسرق شيئاً من الشقة، جواز سفرها موجود كما هو في الخزانة ذات الأرقام السرية, جمعت فقط ثيابها القليلة في حقيبتها الجلدية المهترئة ومضت مع شقشقة الفجر دون سابق إنذار. بقي في سريره، لا يحسن الإتيان بحركة أو كلمة استغراب تشارك زوجته غضبها العاصف من تصرف تلك الحمقاء التي لا تعرف غير التيه في شوارع المدينة الكبيرة.
هي من تحرشت بكهولته الكئيبة، أم هو من أراد استراق نشوة العنفوان من جسدها الغر؟ من العسير عليه تذكر ذلك الآن، صورٌ ضبابية تصد عنه رغبته بالإستفاقة الكاملة، تغريه أكثر بإخفائها شيء من عريها عنه، توقظ عصباً غائراً في جسده من سبات طويل، كانت عذراءً؟… لم يخطر له الأمر على بال، عشيقته، لعبته السمراء المتفجرة حياة بين ضخامة أصابعه المرتعدة عقوداً على الزناد ومقابض المدفعيات، تحيل مواقع العدو إلى أكوام جثث وجماجم متناثرة، تضغط بقوة فوق مكامن جسدها المتسع فراشاً عامراً يتقلب عليه كيفما يشاء، يجلجل صوتها في أذنيه بما لا يفهم من كلمات، تنتقي من الجنائن أجمل صورها، ومن عذب ينابيعها أكثرها انعاشاً للروح.
أخذت، تلتف بالأغطية الحريرية المتداخلة في ثنياهما، تنزلق من بين قبضتي يديه، دون أن تمكنه من إرساء جذوته الأخيرة، متخفيةً بين وجوه كثيرة تمازجت ملامحها في ضباب عينيه.
لأول مرة يعلق في ذهنه ويجنح بين حواسه حلم من هذا النوع، متأكد أنه حلم ولا شيء آخر، لم يترك أثراً مادياً يمكن ربطه بسبب رحيلها المفاجئ، ربما في ذات الوقت الذي أبصر وهن جفنيه بصيص الفجر، بذبذبة متراخية أعلنت بسرعة خضوعها لسلطان النوم مجدداً.
أطلقت سراح نفسها نحو المجهول، تقفز خطواتها فوق صمت تمردها منذ أن وعت على ترحال والدتها المستمر، يقبض على براءة طفولتها يتم رضيع لم يبلغ سن الفطام بعد، تقطعه إجازات سنوية تغدق عليها برشقات فياضة من مياه البحر، حتى جاء دورها في ركوب قطار توصيل الخدم السريع، كل محطة غريبة تسلمها إلى آخرى لا تعلم عنها شيئاً.
(في كل المعارك العسكرية التي خضتها كنت تحمل همَ الأسر، لا الموت).
امتعض أكثر من الوجه المترهل في المرآة، الشعر الأشيب المنكوش، والساقين المتوجعتين، كما لو أنه قد مارس الجنس طيلة الليل فعلاً.
من أعلى السلم يطل وجه السيدة العجوز التي تبدأ يومها مع أذان الفجر، تصلي ثم تشرع بتلاوة شيئاً من القرآن الكريم، فوق فراش الليلة السحرية، والدعاء لولدها بالتوفيق في عمله، تهبط درجات السلم بأقصى ما تستطيع من سرعة، صوت جارتها المزمجر والمتوعد أمام باب الشقة عصي على الإفهام، تنادي على حسان بكل قدرة لديها دون مجيب، حتى غالبها ظن مشاركته خادمتها الجاحدة الهرب، تستغفر العجوز ما ترمي إليه سخريتها العصبية، في النهاية تجد نفسها مدفوعة بالشك والفضول وراءها، كان باب غرفته الصدئ مفتوحاً، وحسان منطرحاً على الأرض في نوبة حمى لم تهمله منذ ليلة الأمس، يرتعش برداً، يوالي هذيانه مناداة والدته المتوفاة عند شفق الغروب، بالقرب من أصص النرجس وحبل الغسيل، متمردة من جديد على تعليمات الطبيب المشددة على ضرورة ملازمتها الفراش والخلود التام لراحةٍ لم تعرف لها معنى يوماً.