كتاب عن الدين لشلاير ماخر

خاص- ثقافات

*د. عبدالجبار الرفاعي

عاش شلاير ماخر”1768-1834″ عصرَ الأسئلةِ الفلسفية واللاهوتية الكبرى، فقد تعرّضتْ الأدلةُ الفلسفيةُ على وجودِ الله إلى نقدٍ تقويضي في فلسفة ديفيد هيوم وإيمانويل كانط وغيرِهما من فلاسفةِ القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر، وكان النقدُ الذي تعرّض له الكتابُ المقدّس شديداً، بعد تعارُضِ بعضِ ما جاء فيه مع الاكتشافات والنظريات العلمية الحديثة. وظهرتْ آراءُ لمفكرين ترى أن منشأَ الحاجة البشرية للدين عواملُ معروفةٌ بوسع الإنسان التغلب عليها، ومن ثمّ الاستغناء عن الدين.
وأعلت الرُّومانْسِيَّةُ من مكانةِ المشاعر والعواطف والخيال في الأدب والفن، ولم تعبأْ بالعقل، ولم تكترثْ بالتقنيات والمعايير الكلاسيكية، ودعتْ للعودةِ إلى الطبيعة والانغمارِ فيها واتخاذِها موضوعاً للكتابة. وشدّدتْ على الانهمامِ بالذات، والبوح بما يختبئ في أعماقها من ألم وأمل، وحزن وفرح، وكآبة ومسرة. ولم تجدْ حاجةً لالتزام الأديب بالمعايير الأخلاقية، فليس بالضرورة أن يكون الأديبُ أخلاقياً. وكانتْ حياةُ الإنسان الأوروبي في ذلك الزمان قلقةً كئيبةً حزينة، إثر شدّة النزاعات، وما تركته الثورةُ الفرنسية من آثار وتداعيات.
لم يكن للدين أمامَ هذه الموجاتِ الحادّةِ من النقد، وضراوةِ الألم الذي يجتاحُ حياة الفرد والجماعة، أن يتمسكَ بمحاججاته الموروثة، ويكرّرَ اللاهوتُ دفاعاتِه المعروفةَ، بل كانت هناك ضروراتٌ تفرض على الدين أنْ يتحدثَ لغةً جديدة، يتخطى فيها منطقَ جداليات عقله اللاهوتي الذي تجاوزه العقلُ الفلسفي، ويعيدَ النظرَ في تفسير مسلّمات كتابه المقدّس التي زلزل شيئاً منها العلمُ الحديث.
في هذا الفضاء الروحي والفكري قدّم شلاير ماخر فَهمَه للدين، وهو الخبيرُ بالفَهم الذي كان أولَ من فتحَ الطريقَ لتدشين مسارٍ جديدٍ للهرمنيوطيقا بوصفها “فهماً للفهم”.
لم يتمسكْ شلاير ماخر في فهم الدين بالعقل لنقض أدلّة العقل، ولم يتمسكْ بالعلم لنقض نظريات العلم، وإنما اجترح طريقاً يتحدّث لغةً تحاكي لغةَ الشعراء، وتستوحي مخيّلةَ الفنانين، لاكتشافِ جوهر الدين وتفسيرِ وظيفتِه.كان يهمُّه التوغلُ إلى مديات عميقة في الذات البشرية، وتحليلُ طبيعة الحزن والألم واللامعنى الذي يُشقيها، وما الذي يمكن أنْ يقدّمه الدينُ لها.كان يبحث عن ذلك الدين الذي يشفي الروحَ من أمراضها، وليس ذلك الدين الذي يُمرِض الروح.
في هذا الفضاء العقلي والروحي، الذي تبلبلَ فيه تفكيرُ النخبة بشكوك مختلفة واستفهامات حائرة، ألّفَ شلاير ماخر: “عن الدين: خطابات لمحتقريه من المثقفين”، وأصدره عام 1799، وهو كما يشي عنوانُه كتابٌ موجّه للمثقفين في عصره، ممن يراهم يحتقرون الدين. وترسَّمَ فيه نهجاً خاصاً، تتناغم فيه رؤيا شاعريةٌ للدين ببيانات مكثّفة صاغها بأسلوبه المتدفق الغزير، وصنّفها في خمسة خطابات تتناول خمسةَ موضوعات، تكلّم فيها بلغة تجمع بين الذوق والكَشْف والحدْس والتأمّل. لغة تحضر فيها صورةُ الذات وتتجلى بصيرتُها الروحية أكثر من أيّ شيء آخر.
كتاب شلاير ماخر كتاب إيماني، والكتب من هذا النوع عادة ما يحضر فيها البيانُ ويشحُّ فيها البرهان. إنه كتاب يستمع اليه القلبُ قبل أنْ تصغي إليه الأذن، يخاطب المشاعرَ قبل أنْ يحاججَ العقل. يطغى على مساحات واسعة منه أسلوبٌ وجدانيٌّ، وكأنّه قصائد منثورة تلوّنها روحانيةٌ متوهّجة. بل كأنّه نصوصٌ مقدّسة، مشبوبةٌ بالعاطفةِ وتأجيجِ المشاعر، إذ يتحسَّسُ مَنْ يستمعُ إليها صوتَ الله يتردّد في ألحان عباراتها كأوتار قيثارة تعزفُ عليها أناملُ عازفٍ محترف. ومثلُ هذا اللون من الكتابة لا ينشغل بالأدلة، بل ينشد إيقاظَ الضمير، وإثارةَ العواطف.
هذا الكتابُ تعبيرٌ عن خبرة روح تحاكي خبرةَ الأرواح الحرة المشبعة بمكاشفات صوفية، إنه كلوحة يرتسم فيها سحرُ كلمات عميقة، المُضمَرُ فيها أعمقُ دلالةً من الظاهر، والخفيُّ فيها أعمقُ غوايةً من الجليّ، والجذوةُ فيها أعمقُ حرارةً من اللّهب. إيقاعُها يتناغم فيه ما يبوحُ به قلبُ مؤمن، وما يرسمه ضميرُ عاشق، وما ينشده إنسانٌ متيّمٌ بالحبّ والخير والجمال.
إنه كتابٌ ليس لأولئك القرّاء الذين لا يقرؤون إلّا ما يقولُه العقلُ المحْض والعلم، وإنما هو لنمطٍ خاصّ من القرّاء الذين تطربهم مثلُ هذه النصوص، إنهم الجائعةُ أرواحُهم إلى ما يشبعها، والظامئةُ قلوبُهم إلى ما يرويها، والتوّاقةُ مشاعرُهم إلى ما يشحذها.
الكتاب الحقيقي هو ما يبرَعُ في كتابةِ تاريخِه الخاص، الذي يخترق فيه قيودَ الزمان، ويتخطى فيه حدودَ البيئة، ويتغلب على مضايق المكان. فيمسي كتابًا عالميًا يخاطبنا اليومَ مثلما خاطب مواطنيه في عصره وبيئته الدينية والثقافية أمس. وحسب كتاب شلاير ماخر أنّ كاتبَه كان رائياً لا يروي روايةَ الفلسفة واللاهوت والعلم لزمانه، بل كان يروي سيرةَ القلب، يروي رؤيةَ البصيرة، وأشواقَ الروح. وحسبه أنه كان تجلياً للحياة الروحية لراءٍ يتبصّر خبراتِ الروح، فيصهرها بما يتذوقه القلب، ويلوّنها بما يُلهب المشاعر، ويسكب كل ذلك على الورق.
إن شلاير ماخر، وإنْ كتب كتابَه هذا بمشاعر الشاعر، لكنّه يعترف بموازاة تلك المشاعر بشيء للعقل. فهو في الوقت الذي يشدّد فيه على استغناء الدين عن العقل والمنطق، إلا انه يشير إلى أنّ الدينَ لا يضادّ العقل، نستمع اليه يقول: “فالدين ليس بحاجة للاستدلالات المنطقية، ولكنه في الوقت ذاته لا يدعو لإقصاء المضامين العقلية” .
يتلخص جوهرُ الدين وتتجلّى حقيقةُ التدين عند شلاير ماخر بالتجربة الدينية. وكأن الدينَ بمثابة المحار الذي يكتنز ما هو لؤلؤ داخلَ أصدافه، أو بمثابة الجوز الذي يحتوي ما هو لبّ داخل قشوره. فكلُّ “الأسرار المقدسة” مودعةٌ هناك في ذلك اللبّ والجوهر، وكلٌّ الشعائر والطقوس توقظ تلك “البذرةَ النائمةَ” وتستنهض الروحَ. وكلُّ ما في الدين، ما خلا الجوهر، شيءٌ ليس مطلوباً إلّا لكونه وسيلةً لتلك الحقيقة الباطنية التي تنغمس في الأعماق. يشرح ذلك بقوله: “إنني كإنسان عادي أحدّثكم عن الأسرار المقدَّسة والشيَع الغامضة للبشرية، من وجهة نظري، عن منطوق يكشف ذلك المتواري الذي أغراني للبحث عنه عندما كنت في عنفوان الشباب، عن تلك التجربة الباطنية والقوة الكامنة في أعماقي، التي تشعرني بوجودي منذ أن بدأت بتحسّس مفاصل الحياة وقيمة الفكر، عمَّا سيبقى مقامه هو الأعلى في داخلي إلى الأبد، على اختلاف طرائق تبدّل الزمن وعوامل حراك الإنسانية. إنَّ حديثي في هذا المقام لم ينبعث من قرارات عقلانية، ولا ينبع من شعور بالأمل أو الخوف، إلا أنَّه مع ذلك غالباً ما يحيط بالظواهر ويمنح الأشياء نسَقاً نسبياً متوخياً ما قد يؤول إليه من غرَض عقليٍّ نهائيّ، وهو حديث لم يتخذ المكاشفة المعتبرة لكيان الإنسان منهجاً بِناءً على سبب اعتباطي أو عرضي، إنَّه ضرورة داخلية تفرضها عليّ طبيعتي بشكل لا يقاوَم، بل إنَّه تسخيرٌ إلهيٌّ يمكنني عبره أن أُحدّد مكاني في هذا الكون، ويجعلني المخلوق الذي هو أنا”.
لا أريد أنْ أسرقَ متعةَ اكتشاف القارئ فأتحدّث له عمّا يكتنزه الكتاب، وأسهب في عرض مضامينه، لكن أودّ أن أشيرَ إلى أن قرّاءَ العربية عرفوا شلاير ماخر بوصفه المؤسسَ للهرمنيوطيقا بمعنى: فن الفهم، أو تقنية الفهم في العصر الحديث، ولم يدرسْ الباحثون رأيَه في هذا الكتاب وغيرِه من أعماله اللاحقة، الذي يغوص عبره في تحليل التجربة الدينية ويكشف عن أنها جوهرُ الدين.
يدعو شلاير ماخر إلى فهمِ الدين داخلَ الدين، لأنه “في الدين وحده لا في سواه؛ ينظر المعلم المحترف والتلميذ المبتدئ إلى أفق واحد، لأن فهم الدين لا يقع خارجه”. ويعلن عن تفسيره للدين “بوصفه حاجة وجودية”، والذي هو الخيط الناظم لكتابه هذا. إذ يقول: “إن ما يهمني هو تكريس فهم الدين بوصفه حاجة وجودية تحمل الدعوة للنظر إلى الأبدية، وكل رؤيا للأبدية توجد مستقلة ومعتمدة على ذاتها، وهي ليست بحاجة لسواها لإكمالها، لأنها جزء من سواها وكله في آن”.
يرتقي الدينُ لدى شلاير ماخر إلى مرتبة سامية في الحياة، عندما يصير مصدراً أساسياً للطاقة العظمى في الحياة، بوصفه تجربةً وجودية، تجعله قادراً على التعبير عن كلّ شيء، لذلك يتحدث عن الكثير من الخصائص والصفات التي يتميز بها، ويعلن عمّا يَعِدُ به من المهام، إذ يصفه بقوله: “لقد ثبت لديّ أنّ للدين أهمية لا تتجلى على مستوى التفاعل العملي في معترك الحياة وحسب، وإنّما في مضمار التفاعل الفكري، لأنّه تجربة منوطة بالوجود، ينفرد برؤى ونواميس قادرة على التعبير والإخبار عن كلّ شيء. الدين طاقة أبدية غير قابلة للنضوب، دينامية وحراك تتخلل الحميمية طبيعتها، وهو أقوى من أن يضمر تحت تأثير ما يجابه به من عنف أو تسطيح، لأنّه لصيق فطرة الإنسان، التي لا يعني احتجابها، تحت أي ظرف كان، انعدامها. يمنحنا الدين قدرة على أن نرى الآخر كرؤيتنا لذواتنا، وأن نتعاطى مع شرعية وجودنا عبر ما نضفيه على الآخر من شرعية للوجود”.
يهتم شلاير ماخر باكتشاف الصلة العضوية بين الفن والدين، فكلّ منهما يشبع توقَ الروح للمعنى، ويؤمّن حاجتَها للجمال. ويعلن أنَّ الدينَ لا يخاف المحبة، فغايةُ الدين تعني: “أن نحب روح العالَم، ونبتهج لمشاهدة صنيعها، وليس هناك أي خوف من المحبة، فالدين لا يختلف في جماله وحُسن وجوده عن سواه من قيم الجمال التي تنبثّ في ثنايا العالم، كيف لا وهو الفيض الذي يغمر الإنسان كرامة ومحبة منذ نعومة أظفاره”.
وكما يعتقد أن محبةَ روح العالم تنبع من الدين، كذلك يعتقد شلاير ماخر بلغة لا تخلو من الجزم أن محبةَ الآخر لا تتحقق إلّا عبر الدين. “الدين هو اللبنة الأساسية لتشييد محبة الآخر، ثمَّ إدراك القيمة العليا لتلك المحبّة كرابط جماعي لا غنى للفرد عنه؛ لأنَّه الوحيد الذي لا يفتقر بذاته إلى إمكانية تحديد مصير البشرية والاقتراب من مفهوم الإنسانية مادة للدين”.
إن مهمةَ الدين هي مناهضةُ الاستبداد الذي يفرض فهمَه للحقيقة، ويرسم طريقَه الخاص للوصول إليها، ويحظر أيَّ شكل للفهم لا يتطابق معها. يذهب شلاير ماخر إلى أنَّ أخطرَ ما يهدّد الدينَ هو احتكارُ الفهم وانحصارُه في فهم واحد، لأن “أهم ما في الدين هو تعدديته في الفهم وكراهيته للاستبداد، ذلك الذي يجمّد كل ما لا يتفق معه، يحجّره ظناً بأنه سيحافظ على وجوده. التعدّد هو جوهر الدين وكنهه، وعبره تتحقّق فكرة الخلاص في المسيحية، ويصبح ما يجثم على صدرها من بؤس قابلاً للزوال. لا يوجد شيء أكثر مناقضة للدين من ذلك المقوّض لقابليته لتعدد أشكال فهمه”.
ورغم كشف شلاير ماخر لتعدّدية فهم الدين، التي تعني تعدّدَ تعبيراته وتمثّلاته البشرية في الحياة، غير أنه يتحدث عن الدين في الكثير من فقرات كتابه هذا من دون نقد لبعض أنواع فهمه وتمثّلاته البشرية، ومن دون تحديد دقيق لتعريفه هو للدين، وما يعنيه كلٌّ من الإيمان والتديّن لديه.
يسوق شلاير ماخر كلمةَ الدين بتعميم ملتبسٍ، يتجاهلُ فيه كلَّ نقد الفلاسفة والمفكرين الغربيين للدين، ويوكل إليه مهمةً تلتقي فيها كلُّ أشكال المديح والتبجيل، ويرتقي بوظيفته إلى إنجاز مختلف المهام السامية، حتى يصبح الدينُ مستودعاً لكلّ الأخلاق الفاضلة، وكلّ ما من شأنه التسامي بمكانة الإنسان وحماية حقوقه وحرياته.
يضع شلاير ماخر الدينَ في سياق رهانات الحياة الجديدة، ويجعله الطريقَ الأمثل للصلة العضوية بالحياة، وكأنه مثابةٌ لما هو جديد، إذ يرى أن: “الدين ليس فكرة خسرت رهانها في الحاضر ولم يتبقَ لها غير الاستحواذ على الماضي القديم بدعوى أنّه منزلها الحقيقي، وإنّما هي فكرة قادرة على الانعطاف بنفسها نحو الجديد، لأنّها لا ترتابه أو تتجنّبه. الدين هو أفضل طرق الاتصال بالحياة”.
مع انه يعلن أن مفهومَه للدين إنما يختصّ بالدين الذي يتضمن اعتقاداً بإله، إذ يصرّح: (وتبعاً لوجهة نظري، وبموجب فهمي للإيمان الذي تعرفون “لا وجود للدين بغير إله”، ولا يمكن لأيِّ شيء أن يكون من دونه). وإذا كان “لا وجود للدين بغير إله” فلا وجودَ لدين بلا إنسان، ولا وجودَ لدين بلا حضور في حياة الفرد والمجتمع، ويتماهى ذلك الحضورُ بما يكون عليه كلٌّ منهما، من حيثُ ثقافتِه أو من حيث ظروفِ عيشِه المتنوعة، فحيثما يكونُ الإنسانُ يكون دينُه، وحيثما يكونُ الدينُ يكونُ الإنسان. ويعرفُ شلاير ماخر جيداً أولئك الكهنةَ الذين يرتزقون بالدين وينتهكون قِيمَه ويعبثون بمراميه السامية، ممن أشار اليهم في ثنايا كتابه.
يستعمل شلاير ماخر عباراتٍ يتداخل فيها الشعرُ المنثور بالوعظ، وكأنّه كاهنٌ بليغٌ لا يكفُّ عن صبّ عِظاتِه الحماسية على رؤوس رعيته، ولحنُ صوته يصدحُ بالثقة والصرامة، ولا يريدُ من المستمعين إلا التسليمَ بما تقوله عِظاتُه، وهو يعلن الاستغناءَ عن حاجته للحجج العقلية، ويصرّح بأنّ الدينَ لا يحتاج الاستدلالات المنطقية.
ولا تخلو كلماتُه من توبيخٍ لمن يراهم مناهضين للدين من مثقفي عصره. فهو يقول مثلاً: “أيعقل أن تستمرئوا احتقار هذا الاتجاه الروحي إلى الأبد، أيمكن أن يبدو لكم كل ما هو مهمٌ للإنسان سخيفاً؟ وتأسيساً على كل ما تقدّم من نقاط لا بد لي أن أقول إنَّ احتقاركم للدين هو نتاج لطبيعة خاصة بكم، وماذا عساني أن اقول أكثر من ذلك!”. وحتى العنوان الشارح لكتابه هذا يستعمل فيه كلمة “محتقريه”، وكنت أتمنى أنْ يستعملَ المؤلِّفُ في عنوان كتابه عبارةَ: “خطابات لنقّاده من المثقفين”، بدلاً من: “خطابات لمحتقريه من المثقفين”، لأن كلمةَ “احتقار” تستبطن معنى الازدراء والامتهان والإهانة والتوبيخ، وتشي بمضمون لا يخلو من تسلّط، وإن كانت كلماتُ الازدراء والتسلّط مألوفةً في لغة الوعّاظ والكهنة. وهذه المعاني لا تلتقي ومعنى “مثقف”، ولا تليقُ به، فكما ينشد هو أنْ يكونَ المثقفُ أخلاقياً مهذّباً يُفترض بكتاباته أنْ تكونَ كذلك. ومعنى “مثقف” يستبطن “النقدَ” لا “الاحتقار”.
كلُ فكرٍ يحملُ بصمةَ البيئة والحياةَ الدينية والثقافية والسياسية لزمانه، وربما نعذر شلاير ماخر لو وظّفنا معاييرَه في تفسير عباراته، التي لا يستقلّ فيها الفهمُ عن فضاء الأفق التاريخي للمؤلِّف، وبنيتِه السيكولوجية، وربما لو نقّبنا أعمق واكتشفنا الأسبابَ الكامنةَ وراءَ تأليف كتابه هذا، لاتضحَ لنا السببُ وراءَ تفضيله كلمةَ “احتقار” على كلمة “نقد”.
لبث كتابُ: “عن الدين: خطابات لمحتقريه من المثقفين” إما مجهولاً أو منسياً أكثر من قرنين لدى الباحثين المهتمين بالفلسفة واللاهوت والدين في دنيا العرب، ولم أعثر على دراسة عنه أو مقالة تنوّه به، وتعرّف القارئَ العربي بأهميته. وعلى الرغم من ظهور عدّة كليات ومعاهد للتعليم العالي ومراكز أبحاث ودوريات تعنى بالدراسات الدينية في بلادنا في السنوات الأخيرة، غير ان هذا الكتاب كان من أقل كتب الأديان حظاً في حضوره. مع أننا نعرف أن هناك الكثيرَ من المؤلفات الممتازة في الدين باللغات الغربية وخاصة الألمانية ما زالت مهملة، إلا ان كتاب شلاير ماخر هذا ظلّ الأكثرَ غياباً.
المؤسف أننا قلّما نجد من يهتم بالفكر الديني الغربي من الباحثين العرب ذوي التكوينِ اللغوي المتعدّد، والخبرةِ المعمَّقة بالعلوم الانسانية.كثيرون في بلادنا يتفادون الحديثَ أو الكتابةَ أو التأليفَ في الدين، وحتى الخبراء بالفلسفة والعلوم الانسانية الحديثة ينزعون لتوظيفها في قراءة الأدب والرواية والشعر وتحليل نصوص جديدة أو عتيقة، لكنهم دائماً يحذرون توظيفَها في حقل الدين ونصوصه، ويتفادون دراسةَ الدين وتمثلاته في مجتمعاتنا في سياقِ المكاسب الحديثة للفلسفة والعلوم الانسانية.
أقدّر حجمَ مغامرة اقتحام هذا الحقل، وأعرف كم هي موجعة ضريبةُ الاغتراب والنفي المتوقَعةُ من الخوضِ في مضماره، وتحرّشِ الباحث في المراجعة التقويمية لمسلّماته، وفحصِ بداهاتِه، ومساءلته لوثوقياته.
وأعلم أنّ أيّةَ محاولة لتحليل ونقد التفكير الديني وتعبيرات الدين في الحياة البشرية من شأنها أنْ تضعَ الكاتبَ في مواجهة مباشرة مع المؤسَّسات والجماعات الدينية، ومع كلّ من ينصب نفسَه وكيلاً عن الله في الأرض، ومن يصنّف نفسَه على طائفة وَرَثة الميراث الديني.
لكني أدرك جيداً، وكما أشرتُ إلى ذلك في أكثر من مناسبة، أنّ الدينَ هو الداءُ، وأنّه، هو أيضًا، الدواءُ لهذا الضياع في وديان التيه العربي منذ عدة قرون، والذي بلغَ أوطأَ حالاتِه منذ بداية القرن الجديد، هذا القرن الذي يحقّق ويَعِدُ فيه العقلُ البشري بمنعطفات عُظمى على مسار النمو والتطور العلمي والتكنولوجي، فيما نَسقُطُ نحن ونتردّى في حروب طائفية مريرة تستأنف ذاكرةَ حروب قبائلنا المزمنة في الجزيرة العربية.
في هذا المخاض القاسي ليس لدينا من خيار سوى العمل على المزيد من الدراسة والبحث العلمي في حقل الدين ومعارفه والظواهر المجتمعية التي ينتجها. وتلك مهمَّتُنا العظمى التي لو عملنا عليها بجدّ واجتهاد لفتحنا الباب نحو نقاشٍ بعيد عن الأغراض، لطريق الخلاص.
نبقى مدينين في تعريب هذا الكتاب للصديق الأستاذ أسامة الشحماني، الذي أنفق الكثيرَ من الوقت والجهد في نقله من اللغة الألمانية لعصر شلاير ماخر نهاية القرن الثامن عشر. ولولا جدّيته، واصراري عليه الذي أحرجني معه وأحرجه معي، ربما يمكث هذا الكتابُ في الظلام لأَمد لا نعلمه، بعيداً عن القرّاء العرب.
قد يجد القارئُ غيرُ المحترف أن كتاباً لا يتجاوز مائتي صفحةً من السهل ترجمته، لاسيما وهو يرى العديدَ من المترجمين يُغرق الناشرين باستمرار بمؤلفات كبيرة ينقلها عن لغات أخرى بعربية ملتبسة، لا تكاد تتلقى من كثير من عباراتها شيئاً مفهوماً. لكني كقارئ لترجمة هذا الكتاب ولترجمات أخرى، رأيتُ كيف يعاند نصُ شلاير ماخر أسامةَ، وكيف يعانده أسامةُ بالمزيد من الجلد والعزيمة، وهو يُعرّب جملَ شلاير ماخر الطويلة، وفقراتِ كتابه المتناسقة كنسيج حرير خيطي دقيق، وينضّدها كعقد مضيء، بعربية مكثفة تحاكي لغةَ المؤلّف، لذلك كان يعيدُ ترجمةَ جمل الكتاب وفقراتِه لأكثر من مرة، ويقف كثيراً عند الكلمات الألمانية لينتقي مقابلاتِها بالعربية الأشدّ وضوحاً، والأقرب في التعبير عنها لفظاً ومعنى.كان أسامة ينجز في البدء ترجمةً خشنة، ثم يكرّر ترجمتَها، بغية ترويض كلماتها وعباراتها كي تصبح ترجمةً مخملية.
كنت وأسامةَ نتحدث طويلاً وقتَ انشغاله بترجمة خطابات الكتاب، وعند فراغه من كلِّ خطاب من هذه الخطابات الخمسة.كانت رحلةً شاقةً لكنها شيقةٌ مع شلاير ماخر، أمضينا فيها ثلاثَ سنوات من حوارات جميلة عبر الهاتف بين بغداد وزيورخ، كلما أنجز أسامةُ شيئاً من ترجمة صفحات الكتاب. وهكذا نحتفل اليومَ معاً بصدور هذا الكتاب الذي نقدّمه للباحثين والمهتمين بالدراسات الدينية بالعربية، متمنين أنْ يأخذَ مكانتَه المناسبةَ في المكتبة الدينية.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *