نحن في العالم العربي وفي أحيانا كثيرة؛ الأخطار أشد فتكا بـــ”المثقف” والمحدقة به دوما وأبدا، هو “المثقف” نفسه… إننا ذاك المثقف الذي لا ينتهي أبدا من الخطب الطنانة كالبعوض حيثما ولى، حول الثقافة والفن والحرية، والحداثة وما بعد الحداثة وما بعد البعد…إلخ. إننا ذاك المثقف الذي لا ينفك يجتر أمجاده الذاتية، ويغالي بإطناب صفيق في عرض تراث الأسلاف الغابرة على الملأ. ولا يعيى من تسويد المقالات وتحبير الكتب حول الديمقراطية والعلمانية والمساواة، ويسهب بإفراط منقطع النظير في الكلام عن ضرورة إشاعة المعرفة والعلم والتقنيات. والتأكيد على أن الاختلاف الثقافي والأدبي ضرورة، وحاجة ماسة للتحرر والتطور والانفتاح…. لكن؛ في وضح المعيش اليومي، تبقى لعنة التخلف أعمق وأوثق، موغلة في كيانه حتى النخاع، وفي عقله ويديه، لعنة هي أقوى من زور أقواله وتصريحاته وزعاماته. إن التخلف ورم سرطاني لا يمكن اجتثاثه بالكلام الفارغ والاستعراض الهزيل، والتصنع والتنطع. وإنما بإعلان حرب ضارية على النفس والنرجسية، أولا وأخيرا. ثم الإغارة فيه على التطلع المريب إلى التسيد الأدبي، وعلى التشوف السخيف لنجومية مبتذلة. ونبذ الميكرفونات ومكبرات الصوت. وإضرام نار ملتهبة تأكل الأخضر واليابس، في مكامن الذات الأنانية، صاحبة النزعة الإقصائية والاستحواذية. الفائرة أحيانا بالحسد، وحتى المكر والكراهية المجانية. و بالتحلي بالصبر وبالصدر الرحب (ولو بألم مرير يعتصر الكتابة) إزاء استقبال الجمال والألق حينما يأتي عبر حروف وكلمات غيرنا، الآخر الزميل في الفن والمعاناة والمشاعر. الاعتراف بأريحية تامة، وباسترخاء هادئ، به وبالعطاء المختلف عامة (من أي كان) وبالأخص حين يكون “أجمل، وأبهى، وأجدى…إلخ”، وذلك دونما تمييز أو اعتبارات “شخصانية”… والانخراط دون خلفية نفعية أو إضمار لسوء، في مضمار ثقافة حرة بجناحين طليقين أبيضين. ثقافة تحتضن الجميع: المرأة والرجل، الشيخ والكبير والصغير. بلا تقييد من أهلها وذويها؛ أولئك المثقفون أنفسهم. على غرار ديدن “المثقف الغربي” حين يستقدم غيره من زملائه المثقفين، مبتهجا في نشوة عارمة، للتعريف به على المنابر. يدبج الحدث بأجمل الإشادات والإطراءات القمينة بكل أديب “قح أصيل مخلص”. ولا يتأبى في خدمة المجال ولا يحقد ولا يتآمر على الفن… على نفسه وأهله، ولا يزيف.
فالحياة دولاب طائش. حياة بكل الغوايات والاستدراجات، مخمورة معربدة، لا تكترث أبدا! هي: وجود يليه عدم، وعدم يليه وجود… لا غير. كما لا يبقى هناك، سوى أرض و”تاريخ يرشح زيفا وبهتانا”… وريحا تعوي تحت شمس كجمر. وزقزقة فراغ… أما جمجمة المثقف، فإلى زوال. كزوال السابقين، سليلي الحبر والقلم. ظلال أفلاطون وزمرته. الأقارب منهم والأباعد.