نقود

خاص- ثقافات

*خلود البدري

لا أريد غير غفرانك ، أنتظر ، لا أريد لهذا الجسد أن يطوى ، تلتهمه الحشرات الصغيرة ، ينتهي ، لا أطيق التفكير بهذا الأمر ، أحاول أن أتهرب منه ، كيف لا وأنا المحاصرة الآن وكل ساعة ، السيئة الحظ  أعلنتُ العصيان والتمرد وأقفلتُ على نفسي ، لكنهم جعلوني أذهب إلى موتي الأبدي. الذي استعنت به لتقترب نهايتي ، نهايتك . كنت راضية . سحقني العمر ، مزقني بمخالب الألم والخيبة , لا زلت للآن غريبة عن نفسي وعنهم ، أتراني تجاوزت كينونتي بالابتعاد عن دمي ؟! أهو دمي حقا ؟! وأن كان لماذا لا أود هذا الدم ؟! لماذا يبغضه وجودي ، يا الله ماذا عساني أفعل لهذه الغربة التي تكاد تغتالني ؟!

 أشعر بيد تطبق على روحي ترجرجني زارعة اليأس في المسام وطاردة نفحة الأمل .

أطالبك بالغفران ، ربما لم أقاتل أكثر للاحتفاظ بي ،  بالأنا ، التي فقدتها ! هل وصلت مأساتي ؟! فما أنا إلا سويعات أسترجع فيها، صدفة، تمشي أمامي أو تقف في ركن بعيد تطالعني عن بعد .

 بالأمس ،  لم تغمض ، ترقب عن بعد  ، دموعا مبثوثة ، عبر الأنفاس الحرى . فكيف تهدأ ؟! أتراها تتضور كمدا ، ربما كلمة منها تبثه الهدوء ، لكنها ،  تهزأ بها ، تنظر يقظة : يا لجبروتكِ !   تغتال الأفكار التي تتصاعد بهذا الرأس للبعيد ، تصيخ السمع : أعلم أني هالكة لا محالة فما أردده الآن يقض مضجعي ، يتلبسني شبحه ، يغدق علي بأفكار ورؤى ، ما لي بد إلا من العودة والسعي حثيثا للعزوف عن التطلع إلى الهناك ، سأقفل هذا الهاجس المشرئب ، عله يدعني أعوم في بحر ما كان ليغرقني ، سأقول لا تتعدي كثيرا فتظلين ، كوني أنت دائما ، فمثلك لا يُغلف بسر ،  فكوني وإلا لن .

مالئة أوراقها كخدوش على جلدها، متصارعة، تكاد من قسوتها تنتزع شهيقا لن يعود بعده الزفير هذه المصابة بفقر الدم ، نعم هذا ما عانت منه طويلا ، ربما بسبب كرهها للونه. أو بالبعد عن كل ما يدخله الآخرون في جوفهم .ألم تقل أنها تكره الدم . صمتها يحاصره النداء والبوح سم بنخاع العظام. ستقتص منها، فهي التي تعرف كيف ، وألا فما هذا الهروب للمجهول. ألم يُخبر أنها امرأة لا تُطارد في غابة الأيام !

 العيادة التي تقع في نهاية ممر ضيق ينتهي ببيتين قديمين تحولا إلى عيادتين ، دخل ، نظر إلى المراجعين الذين جلسوا على كراسي اصطفت على شكل مربع مفتوح من الجهة المطلة على السكرتيره ، للنسوة جزء ، أما الجزء الآخر من العيادة والذي يقع في بدايتها فخصص للرجال ، غُلفت  بسقوف ثانوية ، غرفة وحيدة صفت بالمرمر الأبيض هي غرفة الطبيب ، أما الأرضية المتبقية فكانت من بورسلين أبيض . سحب كرسيا برتقالي اللون ، جلس ، أخرج من جيبه فئات نقدية مختلفة ، أرباع الدنانير ، أنصافها ، فئة الدينار الواحد ، لّوح من بعيد بمبلغ الخمسة والعشرين دينارا . تبسمت له ، ودارت في مخيلتها تلك الأفكار التي ما زال يتردد صداها : لقد تجاوزتْ منذ أمد الكثير من الفخاخ . ستكتفي بظل ظليل كغصن يحتمي بشجرته الأم. هي الماهرة في اكتساب المزيد من الأعداء !

 لا بد أن تواجهه : ستكون صادقة هذا ما رددته : ستكون , لكن ليس كما تهيأ له ؟! أيحفرُ لها رمسها ! تساءلت ، ثم طمأنت نفسها : ياه كم أحمَل الكلمات أكثر مما تحتمل !

 بدأ العد ، بوجهه الذي بدت عليه آثار مرض قديم ، حركة رقبته التي لا يتحكم بها , خرسه ، صوت يصدره لا يفهمه الناس من حوله  ، يتبادر إلى الرائي له أن هناك تلفا ما قد أصابه منذ كان طفلا . هو الآن لم يتجاوز سن الشباب ، لحية خفيفة الشعر ، بادية عليه النظافة ، دشداشة سوداء ونعال أسود من البلاستك ، ببشرة تميل إلى البياض ، نثر النقود في حضنه  ، أنهى العد بشكل غريب ، أدخل يده في جيبه وهم بالخروج ، تذكر أمرا حيث لامست يده بقية اوراق نقدية لم تزل في جيبه ، ساعده أحد المراجعين وألتقط نقودا تساقطت منه على الأرض ، تبسمت امرأة جلست في المكان الذي يشرف على جلوس الرجال ، وتطلعت بأسى لجهة فتاة بمقتبل العمر كانت تجلس بجوارها .عاد من جديد لإكمال العد ، بدت له كثيرة , أبتسم فرحا ، نظر بود مرة أخرى لتلك السكرتيرة الجالسة خلف مكتب صغير ، سطحه المتهرئ يلفت الأنظار ، حيث تغير لونه وانتزعت أجزاء منه ،على سطحه دفتر غير معتنى به ، تجلس وراءه السكرتيرة بيدها قلم تدون به أسماء المرضى حركات جسدها السريعة بادية للعيان . تظهر ملابسها تفاصيل جسدها الممتلئ الذي يميل إلى القصر ، تُغرق عينيها بالكحل الأسود وبمكياج لافت يبين ملامح وجهها الدائري . تبسمت له ، هم بالاقتراب منها ، ضحكت وبدت منها ناحيته ، كموافقة ، بحركات أنثى تمتلك الشيء الكثير من الجرأة ، لكنها انشغلت عنه لسماعها رنين الجرس الصادر من غرفة الطبيب ، هبت بخطوات سريعة لداخل الغرفة التي أتخذها لفحص المرضى .

 هو بدأ يلّوح بالنقود ، وبصوت كأنه الهمهمة : طالبها بأخذ تلك الرزمة .

 من خلال فتحة الباب ، نادت على المراجع الآخر ليدخل ، ضحكت بصوت عال ، أحدى المراجعات بابتسامة عريضة قالت : أنه مهرك جمعه من نهارات سعيه المتعب  ليعطيك إياه . تأملت فيما سمعت ، ركزت بصرها بفتاة جميلة تقف في انتظار أن يحل دورها في الدخول تمعنت بها ، لكنها حاولت عدم اظهار ما مر بخاطرها من ريبة وتوجس ، في قرار أعماقها ترغب بأن يكون ” قسمتها ونصيبها “، هي سكرتيرته ومساعدته في كل شيء : أليست هي ” الأولى به “، لكنها تعرف أن زمنها قصير هنا . قالت : لتكن استراحتها من كل شيء ، عندما استوت على كرسي جلدي أسود كان بباب غرفة الطبيب حركة يدها باستخفاف وقالت ” هم هذا حضي “! وأشارت الى المتسول الذي ينظر لها بحب من بعيد .

 ثم واصلت ما بدأت أتقول له : هي على يقين أنها لا بد من أن تختفي أولا . فتغادر مكانها ، ترحل عنه بعيدا ،إذا فكر بالتقدم لخطبة غيرها ، لن تعمل على أن يبتعد عنها ببطء ؟!  قالت : لا لن أكون القاع اللا نهائي ! أنها تشعر أنه يبحث عن امرأة ما ، لكن ليست هي ، ماذا ستفعل ؟ كيف إذا وجد ما يبحث عنه في هذه المراجعة الفاتنة ؟!

استرسلت بأفكارها فتمنت لو يرسل الإله  أياديه البيضاء ، ليزيل حزنا أصبح غولا يقضم أعماقها ، يطل برأسه ، يتنفس ببطء ، يتسلل بمهل ، رويدا ، مزلزلا بصداه روحها ، الأرض التي تدور في عتمة ، تُضيئها .  تُلامس وجهها من البعد الأمن، تتهافت للحظة إشراق، ناسية أن لا بوح لديه، مقصية منذ أن ضمتها أيام الأسى .

 نظرت إلى الجهة التي وقف بها المتسول فرأت تهدل رأسه بين الحين والآخر، كأنما هناك رخاوة ما في فقرات رقبته, تبدو حركاته غير إرادية. يستجدي المرضى الذين جلسوا بانتظار دورهم في الدخول للفحص الطبي . أحس بالتعب فهو قد مر على جميع العيادات التي تنتشر بكثرة في الشارع الرئيسي من المدينة. نظر لها بود لكنها صحراء تتلاطم عاصفة بالشياطين فكيف به وهو الملاك ! صاحب هذه الانفاس وهذا اللهاث . عندها حان موعد دخول الفتاة الجميلة ، لم تتمالك نفسها ، هبت واقفة ، تحركت بسرعة ودخلت الغرفة ، فوجدته يبتسم لها ، ويحدثها عن موعد تخرجها من كلية الطب ، ممازحا : ” يجب أن تعالجين أختك ”  تنهدت أختها الكبرى وقالت :” تريدها تجرب بيه ” هربت من الغرفة ، وتساءلت : ماذا يُطارد ؟! الجمال ، المرأة فيها !

خارج الغرفة ، أزداد الضحك ومن بين الضحكات قالت السكرتيرة موجهة الكلام لجمع النسوة اللواتي أتشحن بالعباءات السوداء فلا تكاد تفرق بينهن الا بحجم كتلة الأجساد المتراصة والتي غلبت على أكثرها سمنه واضحة : ليس النقود فحسب أنه يجلب لي العطور والحلويات وكل ما يحصل عليه ، ضحكت كثيرا ،  لكنها رأت من بعيد ظل دمعة تترقرق في عينيه .

خرج ، تمشت في ممر العيادة ، هذا ما كانت تفعله عند شعورها بالضجر من الجلوس لفترات طويلة ، تناهى لسمعها صوت سيارة تقف مع ارتطام عنيف تطلعت جهة الطريق وإذا بكتلة لحمية يلتف عليها السواد فلا يرى منها ، غير بقعة دم على أسفلت الطريق .

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *