إدوارد سعيد ومخرجات المقال المضغوط والكثيف

*يحيى بن الوليد

الظاهر أنه ليس كل ما يُنشر تحت مسمّى “مقال” أو “مقالات”، قابل لأن يدرج، وبالضرورة، ضمن نوع المقال الذي لا يخلو من نسق يمكن نعته بـ”النسق المقالي” الذي يتأكد من خلال مداخل ومخرجات… ومن خلال طرائق في التحليل والمقاربة والتوصيل والتلقي. وكما لا يمكن تلخيص وظيفة المقال في أشكال من النزال والتثقيف والتعليق… فقط، ذلك أن المقال بدوره يسهم في التنظير الأكاديمي وفي إطار من عمل الناقد ومهنة المؤرخ وأداء المفكر وتمثّـلات المثقف… إلخ. ولعل فكرة التنظير، في تشابكها المحتمل وحتى المحمود في أحيان مع الأشكال سالفة الذكر، هو ما يمكن استخلاصه من النقد الثقافي سواء في دوائره المعرفية والتصوّرية المخصوصة أو في سياقات تداوله وامتداداته داخل معارف وتخصصّات أخرى سبقت النقد الثقافي زمنياً أو تزامنت معه وعملت على الإفادة منه عبر التأثّر المتبادل. وفي هذا السياق يمكن الإحالة على الدراسات الثقافية ودراسات الجندر ودراسات التابع ونظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي. وفي هذا السياق يمكن التأكيد على حضور المقال الذي هو قرين نوع من الانتظام ضمن العناصر التكوينية الأساسية لهذه المعارف والتخصّصات والتيارات.

وهناك، ومن الأسماء الوازنة ابتداءً، من يتحفظ على المقال، بل يشكّك في الإمكانات (المعرفية) التي يتيحها هذا الأخير في مجالات البحث والتنظير. وهذا في مقابل أسماء أخرى (وازنة بدورها) اعتمدت المقال عبر مساراتها الفكرية والثقافية… والأكاديمية. والمثال الدّال على الانتظام في المقال هو الأكاديمي الأميركي/ الفلسطيني الأبرز والأشهر إدوارد سعيد (1935 ــ 2003). لقد كان للمقال تأثيره في الارتقاء بهذا الأخير إلى مصاف الأسماء الأكاديمية والفكرية المؤثّرة في جهات العالم الأربع، وهذا إلى جانب سفره المكثف (وفي أثناء مرضه أيضاً) من أجل إلقاء المحاضرات في كبريات الجامعات العالمية، إضافة إلى أحاديثه في الراديو والتلفزيون. وهذه جوانب عادة ما لا نوليها أهميتها التي تتجاوز لوثة الترويج والتسويق نحو الإسهام في الإنتاج الأكاديمي لصاحبها وفي أدائه البارع لأدوار المثقف المعاصر النقدي والمستقل.

 

كتاب واحد ومقالات عديدة

وباستثناء “الاستشراق” (1978) فإن باقي كتب إدوارد سعيد عبارة عن مقالات؛ وهو ما سبق أن أكّد عليه إدوارد سعيد نفسه في حوار معه. أجل إن كتاب “الاستشراق” هو الذي لفت الأنظار إلى صاحبه وجعله في واجهة عمارة الأكاديميا العالمية جنباً إلى جنبٍ مع تخصصات متباعدة، وهو الكتاب الذي تُرجم إلى لغات ولغات متباعدة. إضافة إلى أنه كان وراء التمهيد لحقل معرفي سيصطلح عليه بـ”نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي” (Postcolonialism) التي يعتمد أبرز أعلامها المقال بدورهم. وكما أن الكتاب حظي باهتمام عربي وإن لم يرق إلى اهتمامات ثقافات أخرى بخاصة في الهند وعلى وجه التحديد في مجال التأريخ الهندي من خلال ما يُعرف بـ”مجموعة دراسات التابع” (أو “سبالترن”) (Subaltern) وفي إسرائيل من خلال ما يُعرف بـ”ظاهرة المؤرّخين الجدد” من الذين يحرصون على تفنيد “سردية اختلاق إسرائيل”. واللافت أن إدوارد سعيد لم يلتفت إلى الاهتمام العربي على نحو ما تجسد من خلال متابعات ومناقشات وحوارات… على نطاق محدّد مهما كان الاختلاف على مستوى تقديره فإنه لا يمكن القفز عليه. وحصل ذلك في المقال الشهير “تعقيب على الاستشراق” الذي نشر في تذييل الطبعة الخامسة لـ”الاستشراق” التي أصدرتها “بنجوين” العام 1995. وقد ترجمه الناقد والمترجم السوري صبحي حديدي، ونشره في مجلة “القاهرة” في مايو من العام نفسه، وبعد ذلك ضمَّه إلى كتاب “تعقيبات على الاستشراق” (1996). ويحتوي الكتاب الأخير، وعلاوة على مقدمة المترجم المرّكزة والكاشفة، على مقالات سعيد التالية: “إعادة النظر في الاستشراق” (1988)، و”تمثيل المستعمَر: محاورو الأنثروبولوجيا” (1989)، و”تعقيب على الاستشراق” (1994)، وملحق يتضمّن حواراً حول الاستشراق (1995). والغاية من هذا الجرد هي التلميح إلى أهمية المقال على مستوى تعميق النقاش والتفكير… بخصوص كتاب “الاستشراق” الذي فلت من قبضة المقال.

وتمجيد إدوارد سعيد للمقال يفرض نفسه على المهتم بمجموع أعماله. ويظهر أن تقديره للمقال هو ما جعله ينتقد الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا الذي تمّ انتشاره بأميركا على نطاق واسع، وبشكل مختلف عن شهرته بفرنسا، إلى درجة أنه لما سئل جاك دريدا نفسه حول سرّ هذا الانتشار كان ردّه الجامع والساخر: “إن التفكيك هو أميركا”. يقول إدوارد سعيد عنه: “التقيت به عام 1966 عندما جاء إلى هذا البلد (الولايات المتحدة) للمرّة الأولى […]. لطالما وجدته شخصاً ودوداً وصادقاً إلى أبعد الحدود. كان عمله يثير اهتمامي أحياناً. لكن أعمالاً أخرى مثل “Glas” (رغم أن كلينا كان صديقاً لجنيه) و”La carte Postale” (البطاقة البريدية) لم تثر اهتمامي بكل بساطة. أعتقد أنه ككاتب مقالاتٍ أفضل بكثير منه كفيلسوف تصنيفي” (“السلطة والسياسة والثقافة”، ص106). والمسألة لا يمكن فصلها عن موقف سعيد من التفكيكية في حد ذاتها، ولذلك يضيف: “التفكيكية أُنهكت. ولا أرى أية أعمال تفكيكية ذات شأن” بسبب من ارتباطها بنوع من “الموضة” (م ن، ص170).

 المقال والحياة السياسية

واللافت في ما سبق هو عبارة (رغم أن كلينا كان صديقاً لجنيه) في إشارة إلى جان جنيه أحد عظماء كتّاب القرن العشرين كما قيل عنه. جان جنيه الذي أشيع عنه قوله “في اللحظة التي تكتب فيها مقالاً فإنك تدخل الحياة السياسية”. وهو ما استحضره إدوارد سعيد بدوره في كتابه “صور المثقف”: “إنك تدخل السياسة لحظة نشرك مقالات في مجتمع ما؛ وبالتالي، إذا أردت أن تبتعد عن السياسة تماماً، فلا تكتب مقالات ولا تجهر بقول” (ص113).

وفيما يتعلق بأنطونيو غرامشي، “بطل الدراسات الثقافية” كما تمّ تصنيفه، والذي تمّ تداوله بشكل مختلف في أميركا أو بصعوبة ملحوظة، فإدوارد سعيد يعتمد معيار المقال في النظر إليه. ولذلك رأى فيه “كاتب مقالات”، ورأى في “المسألة الجنوبية” [بإيطاليا] أهم مقالات غرامشي. وكذلك الفيلسوف تيودور أدورنو الذي يخصّه إدوارد سعيد بمكانة معرفية عالية إلى درجة أنه ختم حوارات “السلطة والسياسة والثقافة” قائلاً: “لذلك أنا الأخير: تلميذ أدورنو الوحيد. دعني أقلها كالتالي: أنا يهودي فلسطيني” (ص496). وصفوة القول فأدورنو، من منظور إدوارد سعيد في كتابه “صور المثقف”، “كاتب مقالات وشذرات”. وفي سياق غير بعيد، عن السياق الذي نتكلّم فيه، يشير إدوارد سعيد في كتابه “الثقافة والإمبريالية” إلى أن شهرة كتّاب عالميين مثل سلمان رشدي وكارلوس فوينتس وغابريل ماركيز وميلان كونديرا… مصدرها تدخّلاتهم القوية لا كروائيين فقط بل كمعلقين وكتّاب مقالات (الترجمة العربية: ص385).

 آلة نقدية ثقيلة

ولعل ما يثير في حال إدوارد سعيد أكثر، ومن ناحية الانتظام في المقال دائماً، ليس اعتماد  المقال في جبهاته المتعددة فقط… وعلى نحو ما تصل ما بين نقد الاستشراق والنقد الفلسفي والنقد الموسيقي والنقد الثقافي والنقد السياسي والنقد الإنسي والنقد الجامعي والنقد الحداثي ما بعد الكولونيالي وما بعد القومي. اللافت هو اعتماده المقال ضمن الآلة النقدية الأكاديمية الثقيلة والصلبة، بل جعل المقال في صميم النقد ذاته كما أومأ إلى ذلك إدوارد سعيد نفسه في “العالم والنص والناقد” (ص52). وكما أن إيريك أورباخ (Erich Auerbach)، وهو واحد من نقاده المفضّلين، حافظ في كافة أعماله على أسلوب كاتب المقالات النقدية (“الأنسنية والنقد الديمقراطي”، ص110). وكما أن كتاب نورثروب فراي “تشريح النقد”، وهو كتاب تأسيسي ومرجعي في مجال النقد، عبارة عن مقالات كما أشار إلى ذلك إيتالو كالفينو في كتابه “آلة الأدب” (ص58). واللافت أن جورج لوكاتش، وبشهادة أكثر من دارس، درَس مشكلة الشكل دراسة عميقة، بل كان وراء عبارة “إن الشكل هو العنصر الاجتماعي الحقيقي في الأدب”، من خلال مقال مبكر له تحت عنوان “تطور الدراما الحديثة” ويعود تاريخ نشره إلى عام 1909.

في حال إدوارد سعيد، وفي جبهة النقد الأدبي أو جبهة “عمل الناقد”، من المفيد أن نحيل إلى مقال رصين للناقد والمترجم صبحي حديدي تحت عنوان “إدوارد سعيد الناقد الأدبي” في مجلة “بدايات” (ملف (إدوارد سعيد هذا المجهول): العدد السابع، شتاء 2014). والخلاصة أن المقال يقع ضمن العناصر التكوينية لإدوارد سعيد الناقد كما قلنا في سقف المقال. وهو ما يمكن الاطلاع عليه من خلال كتاب “بدايات: القصد والمنهج” (1975) وكتاب “العالم والنص والناقد” (1983) الذي هو عنوان مقال ضمن الكتاب نفسه إلى جانب مقالات أخرى شهيرة مثل “الإسلام، فقه اللغة، والثقافة الفرنسية: رينان وماسينيون” و”النظرية المهاجرة”  (Traveling Theory)… وكتاب “تأملات حول المنفى” (2000) بمقالاته المكتوبة على مدار فترة تقارب الخمسة وثلاثين عاماً ضِمنها مقال موسوم بـ”إعادة النظر في النظرية المهاجرة” أو “إعادة النظر في ارتحال النظرية” (حتى نحافظ على لغة الترجمة العربية للكتاب المنجزة من قبل ثائر ديب)، هذا ولا ينبغي التغافل عن مقالات أخرى مفارقة للنقد والأدب وبخاصة المقال الآسر عن الراقصة المصرية تحية كاريوكا أو “الراقصة الشرقية العظيمة” كما نعتها سعيد في “السلطة والسياسة والثقافة” (ص144).

الشعر والذاكرة الجمعية

وفي حال تعاطيه للعرب، أو بالأحرى “حال العرب المأزومة”، ثمة مقال إدوارد سعيد الأوّل والطويل باللغة العربية المنشور في مجلة “مواقف” (البيروتية) في شهر مارس/آذار من عام 1972. وحتى نظل في سياق عمل الناقد ثمة مقاله الثاقب والفاتن “تلاحم عسير للشعر وللذاكرة الجمعية” (1994) الذي خصّ به الشاعر الفلسطيني محمود درويش (1942 ــ 2008). وينسب لهذا الأخير إلى جانب أدونيس عدم اكتراثهما بما كُتب عنهما أو بالأحرى عدم تأثير ما كُتب عنهما على منجزاتهما الشعرية. وفي هذا المقال راعى إدوارد سعيد نهجه في الكتابة القائمة على التكثيف وتجاور الأفكار وتداخل التحليل والتعليق. وقد نشر النص، ومترجماً، ضمن ملف “محمود درويش المختلف الحقيقي” مجلة “الشعراء” (العدد: 4 ــ 5، ربيع وصيف 1999)؛ وأعاد نشره مترجمه صبحي حديدي في جريدة “القدس العربي” (اللندنية) (12/ 08/ 2008) في إثر وفاة محمود درويش. وفي هذا المقال يتحدث إدوارد سعيد عن مرجعية درويش العربية (والإسرائيلية بدرجة أقل ولأسباب واضحة، كما يقول) ووضعه (كشاعر أساساً) الوطني المميّز وغير الرسمي، وصداقاته المنتقاة، ونشاطه السياسي الحذر، وانخراطه ــ و”على مضض” ــ في منظمة التحرير الفلسطينية، وقلقه المتواصل، وأسلوبه الناري والمتطاول… وغير ذلك من الأفكار التي تغني عن قراءة ذلك السيل من الكتابات ولا سيما تلك التي أخذت في التدافع في إثر وفاة صاحب “ورد أقل” الذي اقتبس منه سعيد أحد عناوين كتبه “ما بعد السماء الأخيرة”.

وكُتُب إدوارد سعيد، التي ستنشر بعد وفاته (2003)، ستحافظ بدورها على مخرجات المقال. سيكون آخر مقال له “الإنسية آخر قلعة أمام البربرية” في “لوموند ديبلوماتيك” (سبتمبر/أيلول 2003). وإذا كانت مقالات سعيد حول الإنسية شهيرة، وعلى النحو الذي أفضى إلى نشر كتاب “الإنسية والنقد الديمقراطي” دون إشكال بعد عام واحد من رحيل سعيد، فإن كتابه حول “أسلوب المرحلة الأخيرة” (2007) لم يكتمل، ومع ذلك ثمة “مقالات متنوّعة أو مقاطع من محاضرات وكتابات في مناسبات مختلفة، عبر الـ15 سنة الأخيرة من حياة سعيد، تشي بأن المشروع كان دائماً حياً ووشيكاً”… كما يقول أستاذ الأدب المقارن ستاثيس جورجوريس في دراسة “أسلوب إدوارد سعيد في المرحلة الأخيرة” (ترجمة: حازم خيري). والأهم أنه ثمة  مقال سابق لإدوارد سعيد سابق على الكتاب “أفكار حول أسلوب المرحلة الأخيرة” عدّه أستاذ الأدب المقارن نفسه “عرضاً مجزئاً، لكن عبقرياً للمشكلة التي كان سعيد يتحراها أو يسعى لسبر غورها، فضلاً عن أنها تطرح إطار عمل آخر كلياً يمكن من خلاله إدراك الأعمال الأخيرة لإدوارد سعيد”.

________
*ضفة ثالثة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *