خاص- ثقافات
*أحمد الحسين التهامي
(2)
إن استدعاء هذه الشخصية المفهومية: مواطن عادي ؛للمرة الثانية لهو امر ذو دلالات هامة ؛ فالحاجة لا تكاد تنقضي لاستدعائها مرة حتى تتجدد ثانية ؛ وهذا ما يدفعني للتفتيش في ذاكرتي عما يمكن ان يشرح رؤية هذا العادي للأمر؛ امر الادب .. فأجد انني و قد قادتني ظروف متنوعة -ليس هذا اوان الحديث عنها – الى اماكن يحتشد فيها البشر لأسباب مختلفة؛ لطالما عرفت ان اول تعبير يخطر على بال المواطن العادي عند لقائه بمن يصف مهنته او حتى هوايته بأنها الكتابة او الأدب -وهما في الاستعمال النخبوي الحالي مترادفان -؛اول ما يخطر على باله ؛ اول رد فعل له حين يشرح له المقصود ؛ ان يعمد الى ترديد تعبير مميز : (اكتبوا علينا/ اكتبوا عنا =عن حالتنا/ اشرحوا قضيتنا)؛ وصحيح ان هذا الاعتبار نفسه يشرح بالضبط في أي مستوى حضاري وثقافي نقف نحن اليوم (كمجتمع لا كنخب)؛ حيث البدائية ظاهرة بوضوح في التفتيش المباشر عن الجدوى /الفائدة؛ وبالرغم من انه ثمة مشاهدات واسعة ومؤكدة تكشف عن وجود انشطة لا نفعية تجري على ارض مجتمعنا المعاصر (1)؛ إلا ان حقل الكلام/ الثقافة هو اخر من يتأثر بهذه الاعتبارات و الانشطة اللانفعية من حيث نظرة بقية افراد المجتمع اليه.
العالم المرتب جدا لدى مواطننا العادي ؛ فيه حكومة (اجهزة/مؤسسات/مسئولون الخ……. ) ؛ وفيه خدمات تقدم له؛ وهو حين يفهم ان وظيفتك في الحياة هي : عرض الحالات/ الاشياء أي الكتابة عنها؛ يطالبك فورا بان تعرض حالته على المسئولين !!؛ أي ان مواطننا العادي يتصور الكتاب و الادباء على انهم ((عرضحالجيين))(2)؛و الحقيقة الواقعية تماما هي انني شخصيا عشت تجربة كتابة عرائض الشكاوى و طلبات المواطنين المختلفة اذ عرفت في تلك الاماكن التي قادتني اليها صدف الحياة ؛ قبل ان اشتهر ككاتب سيناريو عرفت بأنني كاتب و اديب ؛فكانت الترجمة العملية الوحيدة القابلة للفهم والتفسير عند اغلب الناس -خاصة غير المتعلمين منهم – لمهنتي تتمثل في مطالبتي بكتابة عرائضهم وشكاويهم أي شرح وعرض حالاتهم؛ وظل نفس الطلب يتكرر امامي بنفس التعبير ؛وان كان المعنى قد تغير قليلا عندما عرفت كسيناريست اذ تحول الطلب الى عرض الحالة بمعنى حكاية قصة المواطن المطالب بغرض اما لجلب التضامن معه او دفع الضرر عنه ؛ عبر رؤية المسؤلين لحالته تلفزيونيا.
و الحقيقة الاخرى هنا ان ممارسي هذا النشاط=الكتابة وآنا منهم ينفرون بشدة وبتلقائية من هكذا تصنيف ويرونه -وهم محقون في رؤيتهم هذه- يرونه تصغيرا لمهمتهم وتقليصا لحقل فاعليتهم بل ربما رأوه دفعا لهم الى زاوية ضيقة حادة لا تكفي لانطلاق واتساع امالهم التي بنوها ساعة دخولهم حقل الكتابة وحقل الادب؛ وتدبر سبل ردهم ومقاومتهم لهكذا نظرة ضيقة كفيل بان يكشف خصائص اخرى تصلح للمقارنة والمناقشة في صلب موضوعنا الرئيس العلاقة بين الادب والسياسة؛ فنحن اللحظة في صلبها اذ حضور الجمهور هو عامل انشاؤها.
و نظن ان ردودهم أي الكتاب قد تتفاوت مابين رد غريزي تلقائي لا مفكر فيه ؛ و ردود مفكر فيها بهدوء وبرود؛ الحال الاولى تبدو لي سائدة في مجتمعات النخبة الضيقة؛ وهي التمترس باعتقاد لا يناقش يشبه الهمس السري وقد تقوده بعض الاحداث الى انكشاف لا يجد من يعلق عليه فالكتبة متضامنون كقبيلة صغيرة شديدة التماسك والخروج على اعراف القبيلة امر مهلك في أي مجتمع بدائي !!؛ هذا الهمس السري خلاصته نقاوة عرق الكتاب وارتفاع مستواهم وانحطاط العامة= المواطنون العاديون !! وهي الية دفاعية نفسية بدائية مستهلكة تخدم هدفين معا : تحفظ توازن الذات في مواجهة من تظنه عدوا ؛ وتحيل اعتراضاته – أي الاخر : ذلك المختلف – الى مبررات تؤجل المهمة الصعبة التي قد تلقى على كاهل الكتاب ألا وهي التورط في اقامة علاقة قائمة على الندية التامة مع المجتمع فهذه اصعب و اكثر تطلبا ولا ينفع في انشاءها تكرار محفوظات نقلت من غيتوات نخبة اخرى (3)؛ وفي هذه الحالة فقط يمكن فهم اللامبالاة التي يبديها المسؤلؤن الليبيون تجاه الثقافة و الادب؛ فهم ينطلقون من ملاحظة شبه غريزية لوضع الغيتو الذي يعيشه هؤلاء فيستنتجون لا اهميتهم السياسية !!.
اما الرد الذي نتصوره مفكرا فيه ومدبرا فيقضي بان نعمد الى اجابة طلب المواطن حرفيا أي ان نتحول فعلا الى عرضحالجية !! فنكتب عرائضه وشكاويه ؛نكتب قصصه الحقيقية! والتي لحسن حظنا ككتاب وسوء حظنا كمواطنين بالتأكيد لن تجد من يقراها إلا وفقط إلا من يجدها قصصا ممتعة! أي من يجدها ادبا.
فلو جرى الادب وفقا لرغبة مواطننا العادي وكتبت استجابة لطلبه آلاف بل ربما ملايين العرضحالات/ الشكاوى فان هذا يعني توفر مادة خام جاهزة للاستغلال الادبي وان حقل السياسة بفشله في خدمة مواطنيه وتعذر اتصاله بهم قد وفر للكتاب المادة وسمح لهم بالتقاط الحالة !!… و اذا جرى الرد بشكل مختلف و قدر ان نجح عدد محدود من الكتاب في فهم ضرورة ارتباطهم بمجتمعهم ولو على سبيل البحث عن الشهرة والدعاية فان نموا بطيئا سوف يؤدي في النهاية الى رؤية المجتمع لصورته في اعمال هولاء القلة وهذا سوف يفرض لاحقا على السياسيين والسياسة كلها مطلب ضرورة قراءة الادب !.. هذا فيما لو !..
والحال هكذا نحن اذا في الحالتين بمواجهة إرادتين تتصارعان ؛ إرادة الجمهور العام و إرادة ممارسي الكتابة و الادب؛ فإذا ما انتصرت ارادة الطرف الاول أي الجمهور العام ولد حقل الادب و اذا انتصرت إرادة ممارسي الادب فسنظل في وضعنا الذي نحن فيه اليوم: حالة رمادية مخنوقة قابلة للموت في أي لحظة تترك مجالا رحبا لنوع اخر من الادب ان يسود و يتعملق ويكبر: الادب غير الرسمي؛ غير الفصيح بشتى الوانه و انواعه؛ منذ قصص الليل في زوايا الشوارع وحتى قصائد الماضي بكل جمالياتها وهذه ستجد يوما من يحولها الى خطاب موضوع تحت الفحص تحت الضوء وسنترك الان حالنا كممارسين الى ان يحين موعد نشر غسيلنا الوسخ على اسطح الجيران الفضوليين لاحقا !!… ونعود الى مسارنا العادي؛ مسار مواطننا العادي اننا اذا دققنا في جهة كلامنا على سبيل بذل شئ من الجهد والتعب سنجد ان التزامنا بعرض حالته كما نفهمها نحن لا كما يفهمها هو – الكلام هنا عن شرط الحرية- يعني ان تكون كل موادنا الادبية (المواد الخام القابلة للاستثمار في جلب الجمهور وربط العلاقة معه) متعلقة بحياة هذا المواطن العادي فإننا في هذه الحالة شئنا ام ابينا سنكون في حالة وساطة لكن ليس بين المواطن و المسوؤل بل بين المواطن وذاته !! أي اننا نخسر الكثير حين لا نرى اتساع مهمتنا التاريخية بل ولا نرى الصعوبات التي تحول بيننا وبينها ومنها تقييمنا المتعالي لأنفسنا و مهمتنا عندها ستكون : ان يرى مجتمعنا صورة نفسه في أعمالنا.
ولكن لنتحدث عما يجري الان… اثناء الحرب
اليس ما يجري اليوم بشكل سريع ومكثف هو استمرار لما كان يجري في الماضي بطرق اقل و اكثر بطئا ؛ ففي الحرب اليوم يجري استخدام قصائد الشعر الشعبي كسلاح فتاك كما سبق وحدث على فترات متباعدة طوال سبعينات وثمانينات القرن الماضي؛ فلقد كانت هذه القصائد شكل المعارضة السياسية الوحيد انذاك وهذا يعني انه من خارج دائرة نخب اللغة الفصحى شبه الميتة ؛ ثمة من عملوا كعرضحالجية مجهولين انذاك اذكر من اجواء تلك الفترة قصيدة يقول مطلعها:
مالك ومال تشاد وانجامينا…………..صلح اوضاع الوطن واشقى بينا (4)
و الحقيقة ان نظاما كذلك النظام كان مغلقا تجاه المعارضة السياسية في الاساس وبمرور الوقت تحولت القصائد من انتظار رد الفعل من قبل النظام السياسي الى لغة اكثر يئسا أي تحولت الى مجرد عرض الحال !!؛ فتوقفت عن انتظار أي رد فعل متجاوب وهنا بالذات التصقت القصيدة الشعبية بالنكتة/ الطرفة في الية تنفيس شعبية شائعة ودائمة تلجا فيها الكتل لإزاحة الضغط عبر الادب ؛ وأنا هنا اقبل الى حد ما ما راج خلال السنوات الاخيرة في عمر النظام من ان بعض هذه القصائد المعارضة كانت تدبيرا وقائيا لجا اليه النظام نفسه !! فمواقف الكثيرين بعد 2011 م تبين انه كان من النادر وجود معارضين سياسيين في داخل البلاد وان هذه القصائد لم تتجاوز عرض الحال.
عموما هنا ايضا ثمة تعالق خلف الاحداث المباشرة لا يمكننا اهماله فلابد من التقاطه اخلاصا لموضوعنا فحتى في اكثر الانظمة السياسية ابتعادا عن التصنيف الكلاسيكي( وهي نقطة يجتمع فيها معارضوه ومؤيدوه) ثمة دور ووظيفة لعبها الادب !! ويمكن في الحالتين اعتبارها عرضا لحالة وهنا علينا الاعتذار لمواطننا العادي فحقا ثمة في كل ادب بما في ذلك ادب المعارضة السياسية في بلد من العالم الثالث الادب المصحوب بقساوة وجدية و خطورة الحال ثمة ايضا…. عرض حال !.
(3):
ينتمي الادب والسياسة معا الى حقل اكبر و اوسع؛ هو حقل الممارسات الثقافية والفكرية للبشر؛ صحيح ان السياسة تتعدى حقل المنتجات الفكرية الخالصة وتظهر تأثيراتها بشكل واسع حتى في المنتجات المادية للبشر( قرارات الانتاج مثلا)؛ وان الادب لا يكاد اثره يظهر بسرعة في المنتجات المادية إلا ان السياسة تتجاوز حقل الادب في عدة نقاط هامة منها : ان كل كلام سياسي سوف ينتهي بسرعة الى استثمار عملي سلوكي مادي؛ وان كل كلام سياسي يسعى لآسر المستمع اليه وحصر وتقييد فعل المتلقي بل وقيادته في اتجاه سلوك محدد مسبقا (= انتخابات؛انتماءات؛ تبرعات؛ حملات؛…)؛ وان الادب يعمل بالعكس على فك قيد كل اسير وتحريره من أي رد محدد؛ بل لعله يجتهد في اجتناب خانة التأثير المحدد والسلوك المحدد؛ وهذا الاتجاه يزداد بالتقدم مع تقدم حداثة المنتجات الادبية بالذات ولكن فيما تعجز السياسة
عن اثبات وجودها دون الناس(=اعداد كبيرة من الناس)؛ فان الادب يمكنه ان يراوح في مكانه دون تقدم او تأخر؛ فيما يجري السياسي ليلحق بالعدد… لا يستطيع السياسي ان يكتفي بالعدد المتاح فيما قد يكتفي الاديب بان ينشر ادبه دون امل ان يقراه احد الان واليوم… فثمة في كل عمل ادبي مراهنة مؤجلة فيما يضطر السياسي للحاق بالعدد ولو ضحى ببعض مبادئه ومقولاته وخلفها وراءه على قارعة الطريق الفارغة وهذا الملمح قد يعني ان السياسة هي في النهاية امر عملي صرف فيما الادب سلوك معنوي اولا وهذا التناقض قد لا يمكن جمعه بسهولة ؛ ثمة مسافة دائمة تفصل الحقلين بالرغم من اندماجهما الزائف احيانا.
فهل تعني مراوحة الادب في مكانه انه نشاط يمكن وصفه بالتواضع ؟! او بالتساهل ؟!
لا طبعا و قطعا .. فإمكانية مراوحة الادب في مكانه تعود الى نقيض التواضع تماما ؛ فالأدب امبريالي بطبعه !! و هذا بالضبط ما يجعله لا يقبل حلولا وسطا كتلك التي تقبلها السياسة !!؛ انه لا يرضى بأقل الناس بل عينه دائما على اوسع تجمع ممكن من الناس ولكن في….. المستقبل؛و هذا يعني انه في كل ادب ثمة تناقض اساسي لا يكاد يفارقه : ثمة عين ترغب اسر الناس … في المستقبل و في نفس الوقت تحررهم الان .. لحظة القراءة !.
نهاية الجزء الثاني
وللمقال تتمة ……………….
الاحالات:
-
يمكن تمييز الانشطة اللانفعية في نوعين من المجتمعات فالأكثر تخلفا من حيث النشاط الاقتصادي لا تكون الانشطة غير النفعية فيه الا ضمن اطار الحياة العادية اليومية كحفلات الرقص الجماعي مثلا لقبائل افريقيا لكنه في ذهنية ابناء هذه المجتمعات يرتبط بمنافع عديدة قد تتخذ احيانا شكل الطقس الديني ؛ اما في مجتمع اكثر ارتباطا بالنشاط الاقتصادي المعاصر فالذهاب الى حديقة الحيوان قد يشكل نشاطا غير نفعي و يجري الاعتراف بوجود انشطة ترفيهية تستقل عن المنفعة وقبولها وتعميمها حتى؛لكنه لا يجري في اطار الحياة اليومية من حيث وجود مستفيدين يدفع لهم مقابل الانشطة الترفيهية ومن حيث ان قرار الذهاب نفسه قد يرتبط بالقدرة المالية لرب العائلة ايضا؛ من امثلة النشاطات اللانفعية التي حظيت ببعض الانتشار اخيرا في المجتمع الليبي : طابور انتظار الجولاطي(=الايس كريم) في عز دين الحرب 2016م؛ وتأسيس الالتراس لبعض مشجعي النوادي.
2.العرضحالجي : ليس هو الكاتب العمومي المعروف في ليبيا ؛فذلك نصف محامي يتخصص في اجراءت العقود في المحاكم ؛بل يقوم بعمل وظيفة غير رسمية؛ فيحصل مقابل كتابة شكاوي الناس وطلباتهم وفقا لصيغ مكررة ومعروفة تعتد بها المؤسسات على اجر محدد؛ نموذجه الضاحك يتمثل في الفنان دريد لحام في مسرحية غربة عندما يتجول حاملا الته الكاتبة ليكتب عرائض الاخرين.
-
في ظني ان كثيرا مما يشيع من مقولات وشعارات وطرق حياة في اوساط الكتاب الليبيين مستورد حرفيا بحرفيته قص ولصق من اوساط الكتاب المصريين جريا على عادة الطفل البشري في التقليد قصد التعلم.
-
البيت باللهجة الدارجة الليبية ويقصد القول ان على الحاكم الاهتمام بشؤون الوطن والالتفات الى الداخل وإصلاح حاله بدلا عن الاهتمام بالشأن السياسي الخارجي.