لطفية الدليمي: الرواية تجربة وجودية خارج سلطة المكان

*حاورها خضير الزيدي

لم يحمل المشهد العراقي في التنوع والعطاء مثلما بين لنا قدرة الكاتبة الروائية والمترجمة لطفية الدليمي عبر مسيرة طويلة وثرية منذ بداية العقد السبعيني حتى هذه اللحظة امرأة حملت التجديد في خطاب النص الروائي محمل الجد فأنتجت نصوصا بقيت في ذاكرتنا لم تتوقف عملت لطفية الدليمي في مجال التدريس ثم محررة للقصة في مجلة الطليعة الأدبية العراقية فمديرة تحرير مجلة الثقافة الأجنبية العراقية في عام 1992 أسست مع عدد من المثقفات العراقيات منتدى المرأة الثقافي في بغداد ترجمت قصصها إلى الانكليزية والبولونية والرومانية والايطالية وترجمت رواية عالم النساء الوحيدات الى اللغة الصينية من أعمالها الروائية من يرث الفردوس 1986 بذور النار 1988 خسوف برهان الكتبي 2001 ضحكة اليورانيوم 2001 حديقة حياة 2004 سيدات زحل 2009 عشاق وفونوغراف وأزمنة 2016بالاضافة الى مجاميع قصصية ودراسات جمالية ورحلات فضلا عن ترجمات كثيرة قدمتها للقارئ العربي في هذه المقابلة نقترب من تجربة لطفية الدليمي فيما يخص إنتاج النص الروائي وعوالم الترجمة وتفاصيل هذه المزاوجة الشاقة.

أود التساؤل عن تقنيات السرد لديك هل تغيرت من نصوص موسيقى صوفية حتى سيدات زحل ؟ هل ثمة رؤية وفهم خاص في تشكيل تلك النصوص ؟
لم أكتب يوما نصاً سردياً وأنا واقعة تحت غواية تجريب رؤية سردية قرأت عنها وفتنت بها أو تماشياً مع روح نصّ ما قرأته وأعجبتُ به،بل أكتب طبقا لذائقتي الشخصية وبما يتطلبه النص الذي أعمل عليه وتستدعيه موجبات بنائه وتشكلاته وما يتطلبه الموقف الفكري الذي ينبغي أن تنهض به الرواية بكل أجناسها إلى جانب المستلزمات الجمالية التي يتطلبها الفن الروائي . يمكنني القول أن أعمالي السردية (وبخاصة الروائية منها ) اجتهدت لحيازة سمات محددة تخص تجربتي، وقد تطوّرت هذه السمات وتكثّفت في أعمالي الأخيرة السمة الأولى تعود لتوظيف النص الصوفي والعرفاني كمادة أصيلة في النص الروائي وبطريقة عضوية ملتحمة يمكن معها أن توفّر نوعاً من (المتحسسات الميتافيزيقية ) للقارئ قد تعينه على تلمس خطاه وتدبّر خياراته في حياته الحاضرة أما السمة الثانية الحرص التام على تضمين النص نوعاً من ( الرؤية الخلاصية ) الميتافيزيقية وعلى نحوٍ يكافئ الرؤية الفلسفية الكانتية ( الخاصة بالفيلسوف كانت ) القائمة على أساس مفارقة اللامرئي للمرئي،والميتافيزيقي لليومي العابر.إن فكرة( المجاوزة ) المستمرة للوقائع اليومية – مهما بدت مثيرة ومدهشة ومغوية – أراها تقع في قلب كل رؤية خلاصية فردية، وأحسب أن الرواية جديرة بتعزيز هذه الرؤية حتى وإن كانت رواية تتشكّل من حوادث يومية محدودة طارئة أو عابرة .

** في كتاباتك، هناك استدعاء للشعر العرفاني وروح الموسيقى تضع القارئ ضمن (نص مفتوح ) وهل يمكن أن تنجح هذه المعادلة دائما مع النصوص روائية ترصد مأساة الإنسان والتي تبدو أنها تحتاج إلى لغة واضحة المعالم بعيدة عن الغموض ؟
يمكنني تأطير الجواب في سياق المقايسة التالية التي صارت بمثابة مواضعة روائية لديّ : أعبّر عن الثيمات الرئيسية في رواياتي (وكتاباتي بعامة ) بنصوص تقارب روح النص العرفاني وجمالياته وقدرته المدهشة على تكثيف التجربة البشرية وضغطها في عبارات تخلو من ترهّل اللغة اليومية المتداولة، وتحوز هذه العبارات عادة نوعاً من تنغيم موسيقي يساهم في تكثيف المعنى وجعله في حالة تناغم مع روح القراءات التي تدربت على التقاط الخبرات الجوهرية المتجاوزة للخبرة المادية اليومية ويمكن أن يلتقطها القارئ العادي والآخر الذي خبر النصوص العرفانية وبات يتلذّذ بأية إيماءة عرفانية وتسري في أطرافه كهرباء الانتعاش الروحي والاسترخاء المبهج . في هذا السياق أرى وجوب التأكيد على حقيقتين : الأولى أن النص المطعّم بنكهة عرفانية لم يعُد بالنسبة لي أمرا أجهد نفسي بقصد اقتناصه بل هو معطىً أراه ماثلا أمامي ويأتيني ليّنا مطواعا وأتعامل معه بسلاسة وتلقائية مثلما نتعامل مع الهواء والماء وموجودات الطبيعة في حياتنا ،وقد بلغ بي الأمر حد أنني أرى في النفّري وأبن عربي وأكابر عرفانيينا الأجلّاء أصدقاء عمرٍ خلّصاً لطالما ناجيتهم في صحوتي كما في منامي .أما الحقيقة الثانية فإن النص الروائي الذي يتميز بالنزوع العرفاني في بعض مفاصله لم يعد محكوماً بمحدودية التعامل مع موضوعات معينة، إنما هو نص صالح لاحتواء جميع الموضوعات الإنسانية عندما يوفق الكاتب في توظيف عدّته الروائية توظيفاً عرفانيا لتوجّه ومعرفي الهوى،


**دعيني أتساءل عن جانب شخصي بالنسبة لك ككاتبة عراقية هل انقذتك كتابة الرواية من الم الحرب والتشظي ؟ 
تعتبر الرواية الحديثة في بعض توصيفاتها محايثة للحياة أو مفسرة لها وتمتلك في الوقت ذاته وعيها الخاص بالزمان والمكان، وعلى هذا سوف يصبح بإمكانها التعاطف مع الحدث مما يجعل كتابتها مصحوبة بحالة من الأسى والأحزان الخفية . عندما كتبت روايتي ( سيدات زحل ) كنت أهدم المشهد التقليدي الروائي المتعارف عليه وأعيد بناءه برؤية شخصية جدا معززة بالقوة التي أواجه بها الخراب والحرب، وبدا بناء روايتي للبعض أمراً مربكا؛ فهم لم يألفوا هذا التشظي المتواتر والمقصود وهو أسلوب فرضته طبيعة الموضوع وتنوع تفاصيله : كنت أهدم صورة الحرب وأنشرها كشظايا حارقة وجارحة في الرواية مثلما تشظّت لدي الحبكة الواحدة متحولة إلى حبكات بعدد شخوص الرواية ، واشتغلت في مجاورة يومية للخراب فكان علي أن أرصد الألم وأتعرف إلى مصادره المختلفة وأعاين أسبابه ونتائجه وانعكاساته عليّ،جعلتُ من مواجهة الألم ومعرفته وسيلة ناجعة لتجاوزه ؛ فالمعرفة بحد ذاتها تمنحنا قدرات مفاجئة للتعامل مع الألم وتشد من أزرنا وتدفعنا للبحث عن خلاصنا في عمل نحبه وننجزه فتخفف من شحنات الوجع وتحوله إلى مشاهد ومقاطع تغادر واقعيتها إلى حالة رؤيوية خالصة


** وهذا التوصيف هو مخاض (سيدات زحل )بمزيد من التفصيل كيف تشكلت شخصيات هذه الرواية ؟ 
.أسهمت ( سيدات زحل ) في علاج ألم التغرب والهجرة والوحشة؛ فهي لا تشبه أيا من رواياتي السابقة في البناء الفني وأسلوب السرد ولغته وتشكله على طبقات زمنية ومكانية متراكبة وتواتر الأصوات المتعددة فيها وان بدا لغير المدقق والقارئ المتعجل أنه صوت الحكاءة الساردة ( حياة البابلي) حاملة ارث العراق العاطفي والعرفاني والتاريخي وهي التي قامت برواية أحداث بعض كراسات الشخصيات وأتاحت لشخصيات أخرى أن تروي كراساتها بلغة سرد مغايرة ؛فكتاب الشيخ قيدار يرويه الشيخ بلغة عرفانية ورؤى مثالية رومانسية فيها أنفاس من مواقف الزهاد والمتصوفة تكشف لنا موقفه من العالم والحياة والحب والعدالة والجسد والمرأة، وفي كراسة مدينة الأجراس يعتمد معظم السرد على الأسلوب الحكائي شبيه القصص الشعبي فتروي البطلة للصبي إبراهيم الناجي من الخطف حكايات عديدة متداخلة الأحداث وتقولله ” نحن نروي الحكايات لنستطيع تحمل الزمان” –تخبره عن المدينة والناس والإمبراطور الذي حرم طرح الأسئلة ووضع إجابات لكل ما يطرأ على بال البشر وأطلق مقولة صارت دستورا للعلاقة بينه وبين الشعب ( السكوت مقدس والنطق مدنس والرؤية إثم والشم محظوروالفكر كفر والسؤال زوال والحلم خيانة) ،بينما روت الساردة وقائع كتاب الحب التي عاشها العاشقان في زمنين متباعدين وبأسماء وشخصيات مختلفة تفصل بينهما نحو مائة وثلاثين عاما روت وقائع العشق بلغة حسية ترتقي بالحب والايروتيك إلى مصاف الانشغال الجمالي الصرف للرد على القبح والخراب والألم والموت الذي كان يحاصر ذاكرتها ومخيلتها ووجودها على امتداد الزمان تتمثل خصوصية سيدات زحل في كونها اشتغلت كمصدٍ للألم على امتداد فصولها إلى جانب امتلاكها رؤية انثوية خالصة للعالم بعد أن قُمع صوت الأنثى في الواقع ومتون الكتب طوال العصور؛ إذ لطالما كُتبت المرويات والقصص والروايات – حتى تلك التي كتبتها النساء – بصوت ذكوري يسقط رؤيته على الشخصيات والحوادث


**تواكبين أهم الحوارات والنصوص السردية الغربية بالترجمة ،إلى إي مدى تشغلك الترجمة وكيف تجدين تلك المنطقة الفاصلة بينها وبين مشاريعك الروائية ؟
غدت الترجمة – بالنسبة لي – عينا ثالثة أرى بها العالم من جهاته المختلفة، ويتوازن عملي في الترجمة مع عشقي للفن الروائي والكتابة المقالية والدراسات، وقد منحت الترجمة منذ ثمانينيات القرن الماضي وقتا وجهدا خاصا لم يؤثر على الكتابة القصصية والروائية؛ فأنا كاتبة منظمة جدا ومتفرغة للكتابة وحدها وأقسم وقتي بين أعمالي بشكل دقيق، وقد منحتني الجهود الترجمية أفقا واسعا لما تتطلبه من قراءات متنوعة ومتعددة لاختيار وتحديد الأعمال الملائمة للترجمة ؛ إذ ربما يستهويني كتاب ما واقرأه ولكني في النهاية لا أجده مناسبا لاشتراطات الترجمة .
____________
*المصدر: مجلة الدوحة

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *