«بنات حواء الثلاث».. رواية للقارئ الساذج

*محمد إسماعيل زاهر

بعد أن ننتهي من مطالعة رواية أليف شافاك الأخيرة «بنات حواء الثلاث»، تستعيد الذاكرة كتاب أورهان باموق «الروائي الساذج والحساس»؛ حيث يشعر المتابع بتورطه كقارئ ساذج في هذه الرواية الضخمة، يلتهم صفحاتها الستمئة حتى النهاية، يستمتع ب«الحدوتة» وب«الفكرة» وبتلك الحوارات المطولة، وبقدرة الكاتبة على جذب انتباهه. أما القارئ الحساس فلا يتبقى في عقله شيء من الرواية، ثم تنشأ في ذهنه من بعيد أسئلة عديدة تتعلق بهذه الرواية أولاً، وبمنجز شافاك ثانياً، وبتلك النوعية من الروايات التي أصبحت توزع مئات الآلاف من النسخ. «بنات حواء الثلاث» حكاية ممتعة؛ بل ممتعة للغاية، من هذه الزاوية هي رواية ناجحة جداً، وهناك عوامل نجاح أخرى ارتبطت بأعمال شافاك: «قواعد العشق الأربعون»، و«الفتى المتيم والمعلم» على سبيل المثال، فهناك تلك المحاولة المستمرة لبناء عالم كوزموبوليتاني، تتقاطع فيه الشخصيات بخلفياتها الثقافية والفكرية؛ بحثاً عن مشتركات إنسانية تتجاوز الهويات الضيقة، فضلاً عن اللغة شديدة البساطة، وأيضاً ذلك الولع بالمنمنمات، والإسهاب في وصف قوائم بالأشياء تعبر عن تلاقح الحضارات.

الرواية تقع أحداثها في ليلة واحدة، تبدأ ببيري، تلك المرأة التركية التي تتعرض لحادث سرقة وهي في طريقها لحضور حفلة عشاء نظمها أحد كبار البرجوازية التركية في إسطنبول، وبعد أن تتشاجر بيري مع اللص الذي سرق حقيبتها، تقع من الحقيبة صورة تجمع ثلاث فتيات وأستاذهن في جامعة أوكسفورد، وبمجرد ذهابها للحفل، ورؤية ابنتها المراهقة للصورة تسألها عن قصتها، هنا يرجع السرد إلى ست عشرة سنة ماضية، إلى عام 2000، مع العودة المتواصلة إلى الحفلة وضيوفها ورصد دقيق لما طرأ على نفسية وأفكار البطلة بين مرحلة الجامعة ثم النضج والأمومة.
في الرواية ثلاث فتيات يدور حولهن السرد: منى المصرية المتدينة والمحجبة، وشيرين الإيرانية الملحدة، وبيري التركية المتذبذبة بين عالمين، وهناك آزور أستاذ الفلسفة الذي يدرس مقرراً خاصاً بالإلهيات في جامعة أكسفورد؛ حيث تختار الفتيات الثلاث منهاجه لإكمال مشوارهن الجامعي. إن الشخصيات بتلك الأفكار التي تحيط بالقارئ من كل مكان هي العيب القاتل في الرواية، التي ربما جعلتها أقرب إلى الكتاب منها إلى فن الرواية. وربما لا تخلو صفحة من الرواية من حوار فكري أو جملة مقتبسة من أحد الفلاسفة، أو إحالة إلى أحد المتصوفة والشعراء، بحيث تحاصر شافاك القارئ ولا تمنحه برهة من التأمل، هي رواية مع الفارق في الهدف وأسلوب السرد تقترب كثيراً من رواية «عالم صوفي» لجوستاين غاردر، وإذا كانت هذه الأخيرة تقص تاريخ الفلسفة بشكل مبسط وبأسلوب حكائي، فإن شافاك تسرد واقع الصدام بين الأفكار، والصراع بين الشرق والغرب، والعالم الإسلامي والحداثة. ولعل هذا سر جاذبيتها وسبب ضعفها في الوقت نفسه.

تلعب شافاك على وتر السائد؛ ذلك الإرهاب الأسود الذي يضرب بقوة في المنطقة، وتلعب أيضاً على جمهور لا طاقة له بقراءة أحد الأعمال الفكرية المكثفة التي تتناول الموضوع، وتتوجه بالدرجة الأولى إلى المتلقي الغربي، وهناك مفارقة لافتة في الرواية فبرغم عشرات الحوارات الدينية والفكرية حول الإسلام بين ثلاث فتيات مسلمات في الرواية لم يرد لفظ الجلالة «الله» إلا مرة واحدة، فدائماً ما تستخدم شافاك كلمة الرب، وبالتأكيد تعرف الروائية التركية الفارق الثقافي والديني بين اللفظين، هي تضع نصب أعينها الجمهور الذي تتوجه إليه أولاً؛ ذلك الجمهور الذي تعرف شافاك أن أي حديث عن أوضاع المرأة في العالم الإسلامي سيثير شغفه بلا شك.
وهناك ذكاء بالغ في اختيار هويات البطلات، وبخاصة بيري تلك التي ولدت وعاشت طفولتها ومراهقتها في مدينة مثل إسطنبول الموزعة بين الشرق والغرب، أوروبا والإسلام، تلك الثنائية التي تعم أجواء الرواية، وتوظفها شافاك بصورة مرهقة لقارئها بحيث لا تدع أي فرصة إلا بوضع فكرة في مقابل أخرى، ثم تقوم بما يشبه «التوك شو» بين الشخصيات، بدءاً من بيري التي نشأت في أسرة ممزقة، فالأب علماني والأم متدينة بتشدد، والأخ الأكبر ماركسي والأخ الأصغر قومي، والبطلة حائرة بين كل هؤلاء، وهو التمزق نفسه الذي ستواجهه عندما تتعرف إلى منى وشيرين؛ إذ ستحب الاثنتين وسيذكرها شجارهما الدائم بما كانت تعانيه في أسرتها من خلاف متواصل بين أمها وأبيها. ويظهر ذكاء شافاك مرة أخرى مع تلك النقاشات المستفيضة حول التطرف وعلاقته بالدين وبالمسلمين في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول؛ حيث يعاني الطلبة المسلمون في أكسفورد من تغير النظرة تجاههم.
في سردها المسهب، تقول شافاك كل شيء للقارئ، لا تترك له مساحة للتفكير أو الاستنتاج أو التخيل؛ بل ما يصيب القارئ الحساس بامتعاض وربما يشعره بالغضب إحساسه أنه أمام روائية، تود لو تتوجه إليه بعد كل فصل بالسؤال: هل فهمت أم لا؟، هل عرفت ما أود قوله؟؛ ولذلك تتكرر الحوارات بصيغ متعددة، والأفكار بطرائق مختلفة، والشخصيات ثابتة، وكأنها تتحاور حواراً بيزنطياً لا هدف له. فلا الحوارات تصل إلى نتيجة أو رأي، ولا الشخصيات تتطور، ولا يوجد مكان آخر في الرواية لغير النقاشات الفكرية، لا يوجد بشر.
وحتى عندما تقع بيري في حب أستاذها آزور، لا نلمح إلا تمزقها الفكري، الذي انعكس على عواطفها في التعامل معه، حتى ينتهي بها الحال إلى محاولة الانتحار، يأتي حب بيري في إطار مفكرن بحت، فلا نشعر بعاطفة فتاة صغيرة تجاه أستاذها العجوز، ولكن بحب عقلي بارد تتنازعه الأفكار الفلسفية والعلاقة بين الذات والآخر، من هنا تقدم على الانتحار وعندما يشاع أنها انتحرت بسبب علاقة غير شرعية مع أستاذها، وتطلب لجنة التحقيق شهادتها في شكوى قدمها أحد الطلاب متهماً آزور بغواية طالباته، تتخلى عنه ولا تقدم إفادتها، الأمر الذي أدى لفصله من الجامعة.
شخصية بيري، البطلة الأساسية في الرواية شديدة السطحية، موزعة بافتعال طوال حياتها بين أبويها، ثم بين شيرين ومنى، ثم بسذاجة بين حبها لآزور ورغبتها في الانتقام منه بسبب أفكاره الغريبة وبسبب حبه لشيرين، وحتى في تلك «الحدوتة» البسيطة تقول شافاك كل شيء، تعيد شرح شخصية الفتاة المتذبذبة، التي يعرفها القارئ سلفاً، بالتفصيل، كأنها تكتب مقالاً حول شخصية صاغها روائي آخر.
أما شخصية منى أو شيرين فجاءت كل منهما منزوعة الأبعاد الإنسانية، فالأولى لا أهمية لها إلا في ظهورها بالحجاب ودفاعها المباشر والمفتعل كثيراً عن المسلمين ومحاولة تصحيح الصورة عنهم، والثانية تمثل النموذج النقيض.

تتبقى شخصية آزور الغريبة الأطوار، التي لا يمكن أن تقنع القارئ أبداً برجل كرّس حياته لدراسة اللاهوت، فترديد الأفكار الفلسفية حول الله وطبيعة الوجود يحتاج إلى جهد أكبر من ذلك، وإلى شخصية مرسومة بقلم روائي أعمق من ذلك، شخصية كتلك لا يمكن معالجتها إلا من خلال موهبة روائية فذة، لا بتلك المباشرة والسطحية ولا يكفي لإقناع القارئ الحقيقي مجرد ترديد فكرة ضرورة التخلص من عقم الجدل والصراع بين الأفكار الذي لم ينتج إلا الحروب والصدام بين البشر لإشاعة التسامح الذي يروج له آزور. ولا يمكن لقارئ أن يتورط في رواية تناقش هذه الأفكار إلا استحضار «الأخوة كارمازوف» لدستويفسكي، مع اختلاف البيئة المكانية والزمانية، ليدرك الفارق بين روائي ساذج وآخر حساس.
وكما اختارت شافاك موضوعها الشائك والجذاب، الاستعراضي في الوقت نفسه، فإن طبيعة موضوعها هيمنت عليها ووجهتها إلى طريق لا يمكن الفكاك منه، فككل الكتابات الفكرية الدائرية، وهي بالعشرات، التي بحثت وحللت العلاقة بين الأنا والآخر، ولم تصل إلى شيء، فشافاك كذلك لم تصل إلى شيء، فبيري انتهى بها الحال إلى الزواج من عدنان المتدين والمنفتح في الوقت نفسه، هي النتيجة التي قيلت مئات المرات منذ بداية اللقاء بالغرب، أي أن نضج البطلة أو تخلصها من أزمتها يتمثل في تجاوزها للتمزق العنيف بين الشرق والغرب، بين إسطنبول الآسيوية وإسطنبول الأوروبية، إلى الزواج من رجل يحافظ على أصالة الذات مع الأخذ بشكل الحياة العصرية. هنا أزمة الرواية الأساسية، فالموضوع والشخصيات والحوارات وتطور شخصية البطلة، أي مفردات العمل بأكمله، لا تصلح لفن الرواية، خاصة إذا تمت معالجتها بهذه الخفة والمباشرة.
تتبقى الرسالة التي حاولت شافاك أن تقولها من خلال هذه الرواية؛ حيث عالجت موضوع التعدد في منطقتنا وما يتعلق به من قضايا وإشكاليات في روايتي «قواعد العشق الأربعون»، و«الفتى المتيم والمعلم»، وبغض النظر عن أي انتقاد لهاتين الروايتين، فإن الخلفية التاريخية لهما سمحت لشافاك بقول كل ما تريده، متخفية في الرواية الأولى وراء جلال الدين الرومي وشمس تبريزي، وفي الثانية وراء إسطنبول التاريخية في لحظة فارقة. أما معالجة الثيمة نفسها من خلال شخصيات تنتمي إلى الآن وهنا تناقش موضوعاً فكرياً شديد الحساسية، فربما يؤدي إلى عكس ما رغبت شافاك في إيصاله للمتلقي، ففي النهاية هناك افتعال واضح في تجميع هذه النماذج البشرية في مكان واحد، وهناك افتعال في تقبلها لبعضها، ولا يلبث القارئ أن يصاب بانزعاج ويضع الرواية جانباً ليقول: لسنا كائنات دينية، نفكر ونسير ونعيش ونحب ونكره ونحزن ونفرح..إلخ، وفي كل فعل أو إحساس أو سلوك نتذكر أننا كمسلمين نعاني أزمة حضارية وثقافية، هنا ربما يشعر بعضنا أن شافاك في بحثها عن الانفتاح رسمت صورة لكائنات مرهقة بذاتها لا يمكن لها أن تتغير، وهو ما نقبله في دراسة بحثية أو مشروع فكري، أما الرواية فلها شروط أخرى ومناخ مغاير، ورسالة مختلفة، إن كان ينبغي للرواية أن تقول رسالة ما ولكن موضوع شافاك هو الذي يفرض ذلك.
إن مشكلة شافاك؛ بل مشكلة الكثير من الروايات التي توزع ملايين النسخ الآن، أنها تتوجه إلى قارئ يتميز بسمات معينة، ربما يكون من الخفة أن نقول إن أول سمة من تلك السمات تتمثل في الرغبة في التسلية، كما يُردد دائماً، فمعظم أعمال شافاك لا تقل عن 500 صفحة، أي تحتاج إلى وقت وصبر، وهناك أيضاً تلك المشهدية والبساطة في اللغة، وكلها سمات إيجابية لأي عمل روائي، إن مشكلة شافاك بالنسبة للقارئ الحساس أو نجاحها بالنسبة للقارئ الساذج تتمثل في قطاع كبير من القراء، لم تُدرس ملامحه بعد، ينتظر من الروائي أن يقول كل شيء، أن يضع له في رواية واحدة: الحكاية الجذابة، والقدر الضخم من المعلومات المبسطة، وأن يتفاعل مع قضاياه هو، أي القارئ، أي يقترب منه، لا أن يحاول أن ينقل القارئ إلى عالمه، وأن يفصح الروائي حتى لقارئه عن أهدافه وأفكاره، فلا مسافة بين المتلقي والروائي، ولا يوجد أي مسكوت عنه بين السطور، هي رسائل واضحة؛ بل شديدة الوضوح، وكأننا نتحدث في «جروب» على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، وبالنسبة لتقنيات الرواية لابد أن تحتوي على أفكار مشروحة بسلاسة، وحوارات مطولة وجدلية، وصور مفصلة، ولغة شاعرية، أي أن تتضمن الرواية باختصار: الكتاب الفكري، والحكاية السردية، والحوار المسرحي، والنفس الشعري، والفيلم السينمائي.
_______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *