“نداءات الوحش”/2016: الجمال في الحزن والعزاء في الاستكانة

خاص- ثقافات

*مهند النابلسي

تعاني أم شابة (فيليستي جونز) من مرض خطير مزمن، فيما يهرب ابنها الفتى كونور (لويس ماكدوجال) الحزين المحبط لعالمه الخيالي الفني ويتقوقع داخله…ونلاحظ شجرة ضخمة معمرة في مواجهة المنزل الريفي الجميل، وهي تسترق النظر وتبدو متعاطفة مع حال الأسرة الصغيرة البائسة، ويبدع الممثل ليام نيسون باداء الدور  بصوته الجهوري المعبر، الذي يتحول لاحقا لوحش “شجري” لطيف، ويزور كونور ليخبره ثلاث قصص ذات مغزى مجازي لافت، طالبا في النهاية من كونور أن يسرد قصته الخاصة…إنها قصة مبدعة غير تقليدية “للتعاطف الهليوودي” غير المعهود مع مرضى السرطان، مع كم مدهش من الفنتازيا الغريبة والفريدة اللافتة…تكمن روعة هذا الشريط بابتكاره للوحش الفنتازي الشجري الحنون، الذي يبادر بإخبار الفتى ونحن بالقصص الطريفة “التحريكية” الملونة، ونتساءل بدورنا: ما المغزى من إقحام هذا الوحش الغريب داخل القصة إذا كان كل ما يفعله هو إخبارنا بهذه القصص المدهشة…تركض الحبكة وراء انعكاسات “كونور” (هذا هو اسم الفتى) لمواجهة حزنه وغضبه تجاه مرض أمه التدريجي القاتل، وتتدرج الأحداث لتصل بنا لذروة “درامية-عاطفية” مع موسيقى أخاذة معبرة…نرى “كونور” يعود مع صديقه “الوحش الشجري” ليواسي والدته التي تتوفى في نفس الوقت صباحا 12:07 (نفس الوقت الذي التقى به بالوحش)، ثم يعود للمنزل مع جدته التي تتعهد في الاهتمام به وإعطائه غرفة خاصة في منزلها، ويكتشف هنا كتاب قديم لوالدته المتوفاة، يحوي صورا ورسومات فنية تكشف الشخصيات التي أفصح عنها الوحش في روايته، كما يتضمن الكتاب رسما (سكتشا) لوالدته الطفلة مع نفس الوحش…فهل ننقل بلا وعي هواجسنا وأحلامنا ومخاوفنا لأطفالنا؟!

يبدأ الفيلم مع كابوس طفولي لفتى صغير عاقل يخشى من فقدان أمه التي تموت تدريجيا بالسرطان، والقصة تروى من خلال عيون “كونور” الذي  يشعر بمزيج من “الضعف والتيه والغضب والخوف”، وتفشل محاولات الجدة الحازمة (سيجورني ويفر) التي تسعى للاهتمام به كبديل، كما تفشل محاولات أبيه المغترب (توبي كابيل) الذي يعيش بعيدا مع عائلة جديدة في لوس انجلوس، ولكنه تخلى الآن عن كل شيء ليكون معه في محنته، فيما تواجه أمه المريضة اليائسة تجارب “طبية وجراحية” قاسية للاستمرار على قيد الحياة.

“كونور” هو فتى ذكي هادىء وفنان واعد، يعكس مشاعره برسومات معبرة، ويظهر متقبلا برباطة جأش لواقع حياته المرير، فيما ينبثق الوحش  من شجرة معمرة قابعة بمحاذاة المقبرة المطلة على منزله، مع عيون حمراء متوهجة وأقدام “غصنية” ملتفة، ولكن زيارته المفاجئة لكونور لا تخيفه أبدا، بل تبدد توتره المزمن المتصاعد، أبدع الممثل “ليام نيسون” بصوته “القوي والناعم والمتعاطف” في آن واحد، وهو يطلب من كونور أن يستمع بإنصات لثلاث قصص خيالية على أن يروي بدوره قصتة الرابعة في نهاية المطاف لكشف خفايا المشاعر المكبوتة، يعاني الفتى من القلق والضياع، ويبني الوحش أعشاشا من الأغصان حول الغرف وجدران المنزل في سعيه لاستمالة الفتى، وفيما تتطور حالة كونور النفسية والعاطفية، يغوص الوحش  داخل أزماته النفسية  العميقة، ومنها تداخلات الاستقواء المتواصلة لدى زملائه المزعجين، والتي تشعره بالضعف وقلة الحيلة، وصولا للتأزم  والانفجار المتمثل بتحطيمه لغرفة جدته التراثية وساعتها العتيقة الثرية في ثورة “غضب وإحباط” عارم وفجائي!

في سياق القصة الثالثة، يركض مع “وحشه الشجري” تجاه الفتى المستقوي ثم يتغلب عليه ويوسعه ضربا في نوبة سادية كامنة، مستغلا تحوله “لكائن غير مرئي”، ويطلق عليه طاقة عدوانية غير معهودة بعيدا عن جبنه وخوفه، وكأنه ينفس عن مكنونات غضبه وحزنه…بعرف عن مرض أمه القاتل، فيحضر فطوره بنفسه ولا يزعحها أبدا، ثم يرغب بالبقاء في المنزل القديم الآيل للسقوط، مفضلا هذا المنزل على اختيار الحياة مع جدته القاسية…وتبدو ممارسات الوحش وقصصه التحريكية المعبرة وكأنها إحياء لرسوماته الطريفة الخيالية، كما تبدو حالات الصمت المهيبة وسيلة للتعبير عن خطورة اللحظات، وخاصة عندما تتدهور صحة الأم فجأة وبسرعة، وتصبح كل حركاتها مؤلمة، ولكن ذلك لم يطفىء شغفها بالحياة ولا حبها الكبير لابنها، والحق أن الممثلة “فيليستي جونز” قد اأدعت بتقمص دور الشخصية لحد التماهي مع “ظروف المرض القاتل”، بحيث نكاد ننسى أنها هي نفسها نجمة فيلم الخيال العلمي الكبير “روج ون” التي تتدفق فيه طاقتها الحركية الهائلة بعكس هذا الدور تماما، مما يشي بقدرات تمثيلية فائقة وإبداعية! يتوجب على كونور في سياق “القصة الرابعة” أن يواجه بشجاعة كابوسه الثقيل المتواصل…حيث نرى أمه المريضة وهي تسحب على حافة وادي سحيق “حدث بفعل تصدعات أرضية ماحقة لسطح الأرض”، ويلجأ كونور بفزع لكي يمسك يديها لمنعها من السقوط المريع، ولكن قبضته الصغيرة تفلت تدريجيا وتسقط أمه لقعر الوادي السحيق، هنا تحدث المفاجاة عندما يجبر الوحش كونور للاعتراف بأنه أفلت قبضته بقصد لإيقاف الألم المترتب على شد قبضته باستمرار ويأس، وهو يعلم يقينا بأن قبضته ستفلت في نهاية المطاف…وازن المخرج بين الثيمات السوداء التي تسفر عن “حقائق مخفية صادمة”، وأبدع بدمح المؤثرات والفنتازيا والقصص التحريكية مع سياق القصة السردي العام، وفاز “ليام نيسون” بجائزة يستحقها عن الصوت التعبيري المؤثر.

ظلم الحياة وعبثيتها والبحث عن المغزى:

يتحدث هذا الفيلم عن ظلم الحياة وعشوائيتها وبأن علينا البحث عن المغزى العميق وراء الظواهر والقصص، إنه شريط أخاذ يشحذ الفكر بشاعرية محزنة فريدة، تجد الجمال في الحزن، والإغاثة في القبول والاستكانة، كما أبدع “ليام نيسون” كعادته في تحوله “لرجل عضلات عملاق وشجري المظهر”، يظهر من تداعيات مخيلة الفتى “كونور اومالي” ومن كوابيسه الخاصة بوالدته المحتضرة لكي يقول الحقائق وينفس المكبوت… يتحدث الوحش الحكيم عن قصص طريفة تتعلق بالملكات والأمراء والسحرة والمعالجين وسكان المدينة الغاضبين، وتحمل هذه القصص “التحريكية الملونة” مغازي عميقة عكس المتوقع، فالأمير الشاب في القصة الأولى يظهر على حقيقته المخفية كقاتل ماكر بدلا من الساحرة “المشبوهة” زوجة الأب المتوفي، كما يظهر الكاهن المحبوب في القصة الثانية كشخص أناني شرير بنصف إيمان عندما تتعرض ابنتيه الصغيرتين لمرض معدي قاتل، فيما يظهر “مركب العقاقير المشعوذ” كشخص محترف مفيد للمجتمع والناس…قصص تضج بالحكمة والواقعية “وغير المتوقع”، وتؤكد لنا أن التعمق بالأشياء هو الذي يكشف “المعنى والجوهر”!…يخبره الوحش بأن الحب لا يكفي في الحياة، وأنه لا مغزى من الاعتذار والعقاب بعد العدوان، وأنه لا مانع احيانا من تحطيم الأشياء إذا كان ذلك سيشعرنا بالراحة بعد ذلك، “بايونا” بالحق مخرج فذ  متمكن يعرف أدواته السينمائية جيدا، وينجح بإغراقنا بأداء واقعي ودرامي شيق وبالألوان والتفاصيل، وهو يقدم هنا شريطا عميقا حافلا بالدروس الإنسانية اللافتة بلا عظات وملل وميلودراما!

 

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *