الكتابة والإبداع لدى كازو إيشيجورو وجائزة نوبل 2017

خاص- ثقافات

*عمر ح الدريسي

لم يكن يوما، غريبًا على  كل العارفين، بخيوط  تاريخ الفنون والإبداع، من شعر ورسم وموسيقى ورواية وقصة ومسرح، أن يكون لكل شخص فنان، اشتهر بإبداعه الإنساني، ألمه الخاص، أو مرضه النادر، أو موضوعه الوشائجي العميق، أو حُلمه الكامن في سويدائه، أو صدق مشاعره الرقراقة، حيث عُرف عن بعض المبدعين، وبالنظر إلى تركيزهم على التفكير في مشاريعهم،  أنهم غريبو الأطوار، لدرجة أن الآخرين ممن لا يُدركون عناصر العملية الإبداعية، وصعوبة الإمساك الزئبقي بتلابيب إنجازها، يعتبرون مثل هؤلاء المبدعون، من المرضى النفسيين، بسبب اختلاف طَبائِعهم وطِبَاعهم وسلوكهم العام عن طَبائع وطِباع وسلوك الآخرين، الذين يُشاركونهم الحياة من حولهم.

في حوار صحفي له سنة 2014، يقول الفائز بجائزة نوبل 2017، الكاتب الياباني الأصل، الإنجليزي المنشأ، كازو إيشيجورو Kazuo Ishiguro، “لم أكن شغوفًا بالقراءة أو الكتابة منذ صغري، إذ كان دافعي الوحيد للكتابة هو إبقاء اليابان حية في ذاكرتي، من خلال مشاهد تعافي أهلى، وخاصة والدتي، من دمار القنبلة الذرية التي وقعت على ناكازاكي، تولاني إحساسٌ بالذُّعر، وودت أن أُحافظ على نُسختي من اليابان آمنةً، أن أصُونها أدبيًا.”.

فإلى أي حد، استطاع الكاتب إيشيجورو، توظيف تقنيات الرواية الحديثة، لتتناسب تماماً مع ما كابده وكابدته عائلته منذ صغره،  بمدينة نكازاكي في اليابان، إلى أن هاجروا وتفتحت عيناه وأفكاره على تعقيدات العالم الغربي، وعالم العولمة  ومجتمع الحداثة والتنوع الثقافي والصدام الأخلاقي، أي كيف تمكن من امتلاك الخيط الرابط، في الحبك والسبك والسرد وصناعة الأبطال والشخوص والأحداث والوقائع، التي من خلالها يُسرِّب، عبر قالب فني، إبداع ما يُقلقه، وما يُعانيه، وما ينتقده، وما يُريده، حيث يقول ميخائيل باختين، ” الرواية ستظل أكثر الأشكال التعبيرية انفتاحا على المحتمل والممكن، وعلى اللغات والأصوات، والأساليب والأوعية والأبنية.”.؟!

دشن إيشوجورو عهده الإبداعي بتواضع العارف، المُختزن  لمخزون، هو زاده الوحيد، عبر الطريق الشَّاق والطويل،  حيث يقول  ” كتبت أول روايتين لي على طاولة الطعام، وكنت أشعر بسعادة غامرة وأنا أمتلك مكانا يُمكنني فيه نشر أوراقي.”.

-1-  رواية ” بقايا النهار

شخصيا، احترت في الترجمة هل يمكن قبول بقايا النهار، إن فهمنا من الكاتب رومانسيته وغلوه في المتخيل المفقود ضمنيا عبر الحكي، أو” بقايا اليوم”،  إن قبلنا بأنه هو المطلوب والمراد لدى أغلبية الناس نهاية يومهم، كل مساء. و رواية “بقايا اليوم”، هي ما لم يعرفه يوما بطل الرواية، الذي هو رئيس الخدم السيد ستيفنسن , يعمل فقط دون أن يلتفت لحياته الخاصة؛ “في لحظة رومانسية، عندما كانت السيدة المدبرة، تحاول أخذ الكتاب من يده، اقتربت منه كثيرا حتى استطاع شم رائحة شعرها، أفسد كل شيء، بالطلب منها الخروج من غرفته، مدعيا أن هذا هو وقته الخاص وأنها تفسده عليه”. و في كل مرة تُحاول التلميح وتتمنى  أي اجابة أو استجابة منه ..كان هو أيضا، في كل مرة، يضغط على نفسه، مُتظاهرا باللامبالاة، يخفي حقيقة مشاعره، فكان يومه مُمتدا من استيقاظه حتى نومه، يعمل عند لورد انجليزي يتورط، بقصد او عن غير قصد، في خيانة بلاده. ” لقد منعه كبرياؤه المصطنع، كرئيس للخدم، وإخلاصه الأعمى، لخدمة سيده، من أن يقوم بأي عمل يُخرجه من الصورة الرسمية التي رسمها لشخصيته أمام الآخرين .. كم كرهته السيدة المدبرة، حينما نزل من غرفة والده، بعد وفاته مباشرة، عائدا إلى عمله، مُتظاهرا بعدم الاكتراث مُجبرا دموعه أن تبقى في مقلتيه.. وكم أشفقت عليه، وعلى مفهومه الساذج، للنجاح في العمل”.

 ألا يجدر بنا ان نتذكر المسرحي  الكبير، الكاتب التشيكي فاتسلاف هافيل Václav Havel، الذي يقول “إن البشر مُرغمون إرغاماً على الحياة في كذبة، إرغاماً لا ينبع سوى من قدرتهم على الحياة بمثل تلك الطريق. وعليه فالنظام ليس هو المتسبب الأوحد في وحشة الإنسانية، فمن يكابدون الاغتراب، يدعمون هذا النظام كخطة كبرى، لا طواعية لهم فيها، كصورة متفسخة لتفسخهم، كشاهد على فشل البشر في أن يُصبحوا أفراداً متفردين.”.

و بحسب المترجم طلعت الشايب، يرى “إيشيجورو” فى هذه الرواية، أن التاريخ والذاكرة للفرد عرضة للانتقاء والكبح والمراجعة بشكل دائم، “الذاكرة بالنسبة للفرد، “هي بالضبط، كالتاريخ بالنسبة للدولة. ففي أحداث الرواية التى تبدأ عام 1956، بقصر “دارلنجتون” أو “دار لنجتون هول”-الذى يستأجره رجل أعمال أمريكى، وعندما يبدأ ستفنسن، “رحلته بالسيارة الجديدة -سيارةالمالك الجديد- إلى الريف الغربي، فانه يبدأ الوقت نفسه رحلة معذبة فى الذاكرة.

الرواية هذه حققت لكازو انتشارا واسعا، بيعت منها اكثر من مليوني نسخة، وتحولت الي فيلم سينمائي رائع من تمثيل النجم الانجليزي أنتوني هوبكنز، ‘ منحت الحكومة الفرنسية كازو إيشيجورو، لقب فارس، في الفنون والآداب منذ عام 1995، عن مجمل اعماله الادبية.

-2- رواية  “فنان من العالم الطليق

أحداث الرواية، تأتي أعقاب الحرب العالمية الثانية، لتتطرق إلى النماذج الإجتماعية والسلوكيات الثقافية، التي وُسمت بالقلقة، و التي طالها التغيير، ربما كانت نتيجة مشاعر اليابانيين الذي دشنوا حربا وخسروها، حيث تأتي الرمزية كتقنية وراء الثنائيات المعبرة عن صراع تماثلي في نفس  وضمير الشخص الواحد، مثل : الكبرياء والخزي، الوطنية والهزيمة، التضحية والنفعية، الشهرة والدعاية السياسة الرخيصة.  وهنا يذكرني بالكاتب الفائز بجائزة نوبل 2014، باتريك موديانو ايضاً، الذي يبني أحداث معظم أعماله،  حول الذاكرة، وما يختزنه الإنسان في ذاكرته من بقايا وآثار الماضي، مما يتطلب قارئا متمكنا وليس قارئا عاديا.

مشكلة الرواية تنصب حول التساؤل التالي: هل “فنان العالم الطليق” مغرور، ساذج بدرجة لا يتصورها عقل، أم مُفكر أساءت اليابان مُعاملته وشوهت صورته بعد الحرب العالمية الثانية؟ أكان فنُّه ذا أهمية قصوى لنظام الحكم، أم تراه يعيش خدعة كبرى؟  ولا ريب أن تظهر  إحدى الشخوص التي ظلت مُغيَّبة حتى النهاية حين قالت: “ضُبّاط جيش، سياسيون، رجال أعمال، كُلهم لِيمُوا على ما جرى لهذا البلد. لكن بالنسبة إلى من هم على شاكلتنا يا أونو، كان إسهامُنا هامِشياً على الدوام، لا أحد يكترث الآن لما جاء به أمثالُك وأمثالِي في يوم من الأيام، فهم ينظرون إلينا ولا يرون سِوى عَجُوزين بعُكَّازين”، “ابتسم في وجهي ثم واصل إطعام السمك”. “نحن مَن نأبه الآن ولا أحد غيرنا، ولمّا يتطلّع أمثالنا إلى حياتهم من خلفهم، ليفطنوا إلى أنها قد شابتها النقائص، سوف يجدون أنهم العابئون وحدهم”. .

ربما الكاتب إيشيجورو، غلّب الرمزية على النّص، ليس اعتباطا ولكن يتوخى قارئ بقدرات استكشاف ما بين السطور، لأنه لا يقول أي شيء بصورة مباشرة على لسان الراوي، فهو يُسائل الذات  اليابانية، يُسائل من هلكوا أمة ليذهبوا بدون عقاب، بل  إيشيجورو، اراد تقييم مبادئ الحرب والسلام.. !!

-3- رواية “من لا عزاء لهم”

ربما إن شئتم التعميم، فلنقل للرجل الأسلوب نفسه، مع تغيير في الأمكنة، والشخوص حيث يصل رايدر، عازف البيانو، الى مدينة في وسط أوروبا كي يُحيي حفلة موسيقية فيها، ليُواجه قلقا يشعر فيه بنسيان موسيقاه، ويُصارع نفسه والوقت، كي يُحضِّر للحفلة يوم الخميس. ايشيجورو  وعبر غوصه في الماضي عبر أحداث رواياته، يكشف عن ضُعف وماضي ابطاله، عبر اسلوب الحديث عن انفسهم. تبقى الأزمنة والأمكنة لأحداث الشخوص بين المدن والارياف، لكن الريف والمدينة يظلان  خاضعين لأسلوب اللغز، وعدم الإفصاح، حسب رؤية وأسلوب الكاتب، ومن دون علامات واضحة. فالمدن غير معروفة او في بيوت تقليدية انجليزية. اسلوب الكاتب هذا، المقصودة منه، إظهار التجارب المخفية في الماضي للشخوص، مما يسمح لهم التوصل والكشف عن مكامن ضعفهم، وتقبل ماضيهم والتسليم بما جرى لهم، لتبقى الرواية، كما رواياته الأخرى، بنهايات مفتوحة.

4- رواية “لا تدعني أذهب”

لا تدعني اذهب، عنوان الرواية التي صدرت عام  (2005)، وهي تسرد صراع وتنافس في الحب بين اصدقاء ثلاثة، شخوص الرواية، يعيشون في عزلة اصطناعية عن العالم، اثنان منهم يحاولان خداع الموت.

مكان أحداث الرواية، هو المدرسة الداخلية، المعروفة في انجلترا، مرة اخرى يبرز أسلوب وشخصية الكاتب، في حبك الأحداث والوقائع وتمثل  الشخوص، الأسلوب تقريبا، اعتماد الثنائيات المتضادة لكن بتمويه يتطلب سبر المعنى؛ هي  مدرسة وليست مدرسة، كأنهم مجهولي الهوية بل يجهلون وجودهم ولا يجهلون.

ثلاثة أصدقاء، يبحثون عن مصيرهم، يكبرون ولا يكبرون، كأنه عالم خيالي،  يعيشون الجمال والإبداع، يمتحون مما يُحيط  بالمدرسة من جمال الطبيعة، فعندما يكتشفون الحقيقة ويحضر الموت كقدر، يحضرون أنفسهم بأدب ولياقة كأنهم كانوا يعيشون ليموتوا، وعليه يحضِّرون لنهايتهم.

-5- مميزات الأسلوب الإبداعي لـِ كازو إيشيجورو

الرواية هذه تحولت إلى فيلم سينمائي،  لكن في نص مقتضب ومُقتصد، كتبته الكاتبة، اليكس غارلاند، وأخرج الفيلم، مارك رومانيك،  وقارئ الرواية، إنْ شاهد الفيلم، سيلاحظ أن شخوص ايشيجورو السردية، هم ابطال الفيلم السينمائي، الذين يعكسون طبيعة الكاتب، الذي يحمل في داخله تقاليد الانضباط اليابانية، والتي يعكسها على الحياة الرتيبة والكئيبة احيانا في انجلترا، حياة خالية من العطف والحنان.

له أعمال إبداعية  في القصة وكتابة السيناريو، إضافة إلى الأعمال الروائية التي اشتهر بها ككاتب عالمي متميز، إضافة إلى ما أزحنا اللثام عنه من أعماله الروائية أعلاه، له أيضا، رواية “عندما كنا يتامى”، وراية “من لا عزاء لهم”، ورواية “منظر شاحب للتلال”، وآخرهم، العمل الروائي، الصادر عام 2016 الموسوم بـ:  “العملاق المدفون”.

كتبت الناقدة الأميركية، كاثرين مورتِن، عن أعمال إيشيجورو، في مجلة “ذا نيويورك تايمز بوك ريفيو”، ” أن “الكُتاب الجيدين كُثُر، ولكنه من النادر أن نجد روائيين جيدين. إن كازو إيشيجورو يُمثل هذه الندرة، إذ تبدو روايته الثانية لي، من نوعية الروايات التي تُمدد وعي القارئ، لتُعَلمه أن يقرأ متسلحاً بالمزيد والمزيد من التبصر.”، فأعمال إيشيجور تغوص في بحر التعقيدات، في أكثر بُؤرها عُمقاً، تعقيدات ما بعد تدمير مدينة نكازاكي بالقنبلة الذرية، وهزيمة اليابان، لا محض تلك التعقيدات الخاصة بالتنوع الثقافي على الأرض بعد الرحيل عن البلد الأم والتواجد ببلد الإستقبال (انجلترا)؛ لكنْ تلك التعقيدات، الأكثر تجذراً وغرابة، والناتجة عن التلاقح بين الأمزجة الثقافية، مع الميل إلى تأسيس نظرية حول الواجب الأخلاقي وإكراهات المجتمع المادي، ومجتمع الحداثة، ومجتمع عصر ما بعد الحداثة.

فإذا كان مجتمع الحداثة، وما بعد الحداثة، يعني خليطاً من الأساليب الثقافية، وجلجة مادية طاغية، فإن المتن الروائي الحديث له من القدرات والتقنيات، لإبراز رؤية تشخيصية  تمتلك مميزات ودقة الذّات، التي يُمكن أن نقول، أنها ذات مُعولمة، وهي الذات ربما نفسها  التي يتمكن منها الكاتب إيشيجورو، على الرغم من محافظة، بلديه، اليابان وانجلترا ؟؟

اعماله حصدت الجوائز، نظرا لتفرد اسلوبه الإبداعي، وترك ابطاله بلا حل كما هي وقائع وأحداث الحياة، وهو الذي قال: “انا كاتب يحلم بكتابة روايات عالمية “، ما الرواية العالمية ؟ “أعتقد ببساطة، أنها رواية تنطوي على رؤية للحياة، تهم كيانات إنسانية متنوعة، تنطلق من خلفيات ثقافية متنوعة أيضا”، ويضيف: “أحيانا، ما نأخذ طرقا متعرجة في تناولنا للأشياء، وإذا ما استطعنا النجاح، فالأمر كله محض صدفة، نحن دائما عُرضة للفرص التي ننتهزها، والفرص التي ننجح في انتهازها”.

ويقول  في حوار صحفي له، عام 2016، وهو يوجه اللوم والنقد لنفسه على بعض الروايات التي وصفها بأنها “ليست جيدة”، كما همست له زوجته ، مؤكدًا، “لابد من كتابتها من جديد”، إلا أن الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم، قد فندت أخيرا، قوله عن نفسه، وأعلنت، الخميس 5 أكتوبر، فوزه بجائزة نوبل للآداب (2017)، والبالغة قيمتها “1.12 مليون دولار أمريكي”،  وأشادت اللجنة في حيثيات قرارها، بمنحه الجائزة، بقدرته على الكشف عن “شعورنا الوهمي بالارتباط بالعالم.. في روايات ذات قوة عاطفية هائلة.. تمس الذاكرة والزمن وأوهام النفس.”، وتضيف سارة دانيوس أمين الأكاديمية السويدية، “إنه روائي بديع، في رأيي، إذا مزجت بين جين أوستن وفرانز كافكا، تحصل على إيشيجورو”.

وقال إيشيجورو أمام جمع من الصحفيين، في منزله شمال لندن، بعد سماعه لخبر فوزه بالجائزة عبر وسائل الإعلام: “يأتي هذا في وقت يسود فيه العالم الارتباك بشأن قيمه وقيادته وأمانه. أتمنى، أن يُشجع حصولي على هذا التكريم الكبير، قوى الخير ولو بدرجة محدودة.”… !؟

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *