أن تكتب… أن تشنق ابتداء أباك، وتحرق كل ما كتب

خاص- ثقافات

*محمد كريش

– الكتابة إبداع، والإبداع  يشمل كل مسارب “التفعل” الإنساني في الوجود.

أن تكتب، هو أن تشنق ابتداء  أباك وتحرق كل ما كتب. وأن تعلو، في منتصف ليل ماطر زمهريري،  مقبرة أجدادك وتصرخ  بوضوح، حتى تضطرب وتفزع الأموات والأحياء، ويسمع  صدى صوتك جذور الأشجار والحلزونات والعقارب والقردة:

– أنا لست منكم، أنا لست منكم، أنا النبت الجديد، أنا سماء  وشمس الآتي! أنا الغد!

أن تكتب، أن تفضح، عبر مكبر صوت عملاق، معتليا قمة جبل “إفرست”؛  قبحك وقبح جدك الأول والقبيلة وأعرافها. تقعي ناظرا إلى الأفق والسماء، وخلفك يداك على الأرض يسندان ظهرك. ثم عاليا،  تشتم  وتلعن هذا الإنسان المزيف الأحمق الذي هو أنت. وتلعن تلك الغيمة فوقك، تلك التي تحبس إمطارك وتجعل منك عطشا. وتمنعك من أن تبسط النور في عتمتك وفي الأفق.

 الكتابة أن تهجر حروف الأصنام المخصية، تلك التي تفوح بالعقم والموت. وأن تعلن حربا بحروف الشبق والشره، عليك وعلى الكون وعلى الحبر، وتنبذ  الألقاب والجوائز، وتزدري مهرجانات الشعر وثقافة التصفيق، والعناوين الصفراء النافقة. وأن تستوطنك كلمات مسعورة، تلك الحانقة بأنياب ومخالب من أنصال، كلمات مكمودة، مصابة بالسرطانات والأوبئة والهذيان. وأن تمتهن  صحبة الحشاشين والسكارى، وتقرفص على قلوب أطفال الشوارع  والمنبوذين، وأن تسكن المباغي والحانات، وأن تسكر وتعربد، وأن تبكي بجنون وتنتحب، تحصي خيباتك ومآسيك، وفواجعك  ورزاياك التي لا تنتهي. هكذا؛ حتى تعرف من أنت. فتزرع الورد في قلوب الأطفال والطريق والبركان.

 الكتابة  هو أن تنز دما  وصديدا يغلي، تلقي به  في وجهك ثم على المرايا وعلى ذاك الخد المورد أمامك، وتلك الأذقان الورقية  المرداء، المعطرة بالوهم والزيف، والكثير من النفاق. الكتابة ألا  تكترث وأنت تقول… أن تدوس على تلك الأعراف والأمجاد   الزائفة…

الكتابة أن تدنس بموبقات منطوقك  مقدس انتماءاتك المزيفة  لسربك الإنساني المزعوم.

ليتك تعرف أن تكتب… فهو أن تستحيل  أفعى خبيثة سوداء كالعدم، تلدغ  دونما هوادة  لكي تستقطع  حيزا صغيرا لوجودها الضيق، من رمضاء هذا الكون المتوحش الغادر.

أن تكتب هو أن تعيد كتابة وجودك. أن تجعل من قلق الحاضر قلقا مضاعفا. أن تدْعَك العالم أمامك  بحذائك المتعفن، وتصيره مسخا أكثر مما هو عليه. أو تحيله غيما مبعثرا في الروح، بدون ألوان، فقط أسود وأبيض، يختصر المسافات ولا يُتأتئ في فضحه. غيما له أنياب وأشواك  متمازجة  بقذارة  الإنسان وتفاهة شيئيته العبثية. وعنفوان تنطعه وتوهمه المهول. ثم تعيد إمطاره لاحقا، ماء حيا متحفزا وضاء من جديد، في حيز ما، من زمان ومكان الغد…

أن تكتب، أن تلقي  ببديهياتك ويقينياتك وكونك الحاضر في البحر أو في النار، وتنسى الأمر نهائيا. وتنثر الرماد  في المجرات  والعدم. وترمي به على وجوه مومياءات التاريخ… أن تكتب، أن تقتل دونما رحمة تلك الوصفات القديمة فيك، وتمحق تلك العادات والرتيب. أن تحرق الحروف والكلمات التي تعودت بها أن تسود صفحتك وصفحة الجيران وتسمي بها قطط الحي. وألاّ  تندم على طقوس أبيك. ولا تتحسر، هو كان يكتب لزمن ليس زمنك. فلا تعبث بحاضرك تهديه مجانا للأموات. ولا تصنع به  ورما سرطانيا للآتي. ولا تُعِد صياغة ذات أبيك في ذاتك أنت.

أن تكتب، أن تصنع الحلم وتفتله بالأمل، وتمد الناس والأشياء بالجمال والعشق، والمتعة ولو بعد حين. أن تكتب، أن تكون  درويشا مجذوبا يختزن المعنى والحكمة في ذاك القلب الرحب. لكنه لا يكترث حين بوحه الطلق. يدوس معالم  تلك الأصنام الموتى في المعلقات. وفي الألوان الصفراء المعمرة… مجذوب يكتب فقط  ذاته على صفحة الأثير ويمضي غير آبه…

أن تكتب، أن تبدأ من حيث انتهى قلم أبيك وجدك، وجد جدك. أن تنطلق من بدءك الأول، وأنت في زحمة  وضوضاء من حولك من المسافرين دون رجعة. وأن تبعثر أوراقك وأوراق من سبق، حتى تشرق شمسك ويكتمل قمر ليلك.

أن تكتب، أن تتوحد وتتفرد منزويا، وتتفكك كرذاذ صباح شفيف، لتنبعث من جديد ؛ هكذا دفعة واحدة، في حرف وبعد خالص أصيل بذاته، توقا لتكون موجودا، فقط كما تريد. أي كما أنت أنت… وتحلق حرا بعيدا في حلم من صنعك أنت. حينها سترسم بألوان قوس قزح، فراشة بيضاء وأخرى زاهية كربيع. تسكن إحداها الروح وأخرى القلب. تكونان بلسما يرتق بسعادة دافئة، انكسارات النظرات وحرقة العجائز والثكالى. أولئك المفجوعين خلف الضباب.

أن تكتب هو أن تعيد ترتيب الكون من جديد بألوان طازجة عذراء…
_______
*- فنان تشكيلي من المغرب

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *