الإبداع علاج

*لطيفة لبصير

هل يمكن اعتبار الإبداع علاجاً للذات؟ هل يمكن أن يساعد على عيش الحياة بشكل أفضل؟

يعتبر ارتباط الكتابة بالعلاج عموماً فكرة لها امتدادها في الزمن، فقد اعتبر فرويد بأن الكتابة هي بمثابة علاج للإنسان، كما اعتبر جُل المبدعين مرضى. وبالرغم من أن هذه الفكرة تبدو فكرة نظرية بعيدة كل البعد عن الكتاب وعن الحقيقة، خاصة أن الكتاب يرون أنهم بعيدون كل البعد عن الشخصيات التي يخلقونها، ويرفضون نسب ضمائر المتكلم إلى أنفسهم، فإن العديد من التجارب أثبتت أن في هذه النظرية الكثير من المصداقية، بحيث إن العديد من الإبداعات كانت تشبه إلى حد ما مبدعيها، رغم استقلالية النص وغناه إلا أنه يضمر بشكل ما ذلك اللعب الاستيهامي الذي يعيشه المبدع والذي حوله إلى مجازات واستعارات ومواد فنية.

حين نتأمل تاريخ الإبداع عموماً، نجد أن العديد من المبدعين عانوا من أزمة منتصف العمر أكثر من غيرهم، والغريب أن أغلبهم توقفوا عن الإبداع في مرحلة مبكرة، أو انتحروا واضعين حداً لحيواتهم وتخييلاتهم، مثل فان جوخ وفيرجينيا وولف ورامبو. وقد ركز العديد من الأبحاث على الفنون كعلاج للذات عموماً، بحيث يعتبر الفن من رقص وموسيقا ورسم ونحت علاجاً حقيقياً للذات. وفي كتابه «الفن كعلاج» يرى الباحث ميشيل بريات Michel Briat أن كل الأشكال الهندسية التي يقوم بها الفرد وهو يتعلم كيف ينقل التوتر الشخصي في فن الكولاج مثلاً، تأتي بنتائج لا يمكن أن نتوقعها، فهي تكسر كل الارتباكات الداخلية التي تصيب الأفراد، وأيضاً تقوم بعلاج قوي لحالات الاكتئاب القصوى التي تؤدي إلى الهذيان أو الموت، وقد عملت الكتابة على علاج الكثير من الحالات العصابية والهذيانية أيضاً مثل كتاب «مذكرات مجنون» الذي كتبه سكرايبر، وقد كان يعاني من الجنون، فجاء كتابه مليئاً بالصياغات اللاواعية، لكونه كتب بالدرجة الأولى، أي دون تشطيب أو قص للزوائد التي يفكر فيها المبدع وهو يعيد صياغة ما كتبه، ويعتبر بمثابة علاج ذاتي بحيث يطرد المبدع كل أشباحه الداخلية ويعدمها حين يراها أمامهن وكأنها تحدث في ذلك المشهد الآخر المعتم للذات.

يمكن اعتبار الكتابة مثل علاج ذاتي حتى لو لم يكتب الكاتب عن ذاته، فهو يتحرر حين يخلق عوالم أخرى؛ لأنه يبث فيها كل عوالمه الغامضة التي لا يستطيع تفسيرها،ولذا ترتبط الكتابة عموماً بسعادة الطلق. وقد عالج العديد من علماء النفس ذواتهم انطلاقاً من سرد حيواتهم الشخصية وتحليلها، حين نقلوها إلى الورق ونظروا إليها نظرة أخرى، وكأنها تحولت إلى جسد آخر مغاير تماماً للأنا التي تكتب. وقد كتبت الروائية ماري كاردينال marie cardinal رواية تحمل عنوان «كلمات ينبغي أن تقال» وهي بمثابة علاج تحليلي استطاعت من خلاله الكاتبة أن تعالج نفسها بوساطة الكلمات، وكان ذلك خلال مرحلة أساسية من حياتها بحيث إنها أصيبت بمرض عضال نتج عنه اكتئاب حاد، وكان هذا الكتاب بمثابة علاج خاص، فقد كانت الكلمات تنقل الرعب والخوف الذي أصيبت به الذات، وعنونت ما أصابها بالشيء، بحيث لم تكن تستطيع أن تتحدث بشكل مباشر عن المرض، تقول الكاتبة:

«الشيء كان بداخل تفكيري، فلم يكن داخل جسدي، أو لم يكن أبداً خارجه. كنت وحيدة أمامه. كل حياتي كانت بمثابة قصة بيني وبينه».

يعتبر هذا الكتاب نوعاً من العلاج الذي يشبه بشكل ما العلاج التحليلي العيادي الذي يرتبط هو الآخر بالكلام، إلا أن كلام المريض ليس هو كلام المبدع، فالمريض يعمد إلى تداعيات خاصة تكون بمثابة خطاب دون رأس أو قدمين، في حين يعمد المحلل إلى تحويله بوساطة إعادة تركيب خطابه المتقطع الشذري، في حين يكون خطاب الروائي كلاماً يعالج به ذاته بشكل مباشر وهو يكتبه لأنه يتحرر منه. وقد دفع العديد من المحللين النفسانيين مرضاهم على تدوين أفكارهم ومراحل حيواتهم، وذلك حتى يستطيعوا تجاوزها.

وفي التحليل النفسي الحديث بدأت المراهنة على اعتبار المريض زبوناً، لأن في هذه الكلمة نوعاً من القوة والاختلاف عن الكلمة الأولى، وذلك لكي يتم منح الثقة الكبرى للحالة التي تعاني فقط من ارتباك مؤقت بالوسط وبالواقع الداخلي لكي يستعيد علاقته بالعالم، ويركز هذا النوع من العلاج على الدراما العلاجية، وذلك حتى تذهب الذات إلى أقصى تدمرها لكي تستطيع أن ترى صدماتها بشكل أقوى من الحديث عن الأشياء البسيطة والعادية.

يساعد الإبداع بجل أنواعه على علاج الذات، وقد عمد التحليل النفسي على اعتبار الفن والكتابة طرداً للمراحل الزرقاء التي تعبر في حيواتنا، وفي تاريخ الإبداع نجد العديد من الارتباكات التي عانى منها المبدعون، بحيث كان الفن والإبداع بمثابة تفريغ لنفسيتهم المأزومة، ويظل ذلك شاهداً على أن الإبداعات تنقل لنا عوالم مليئة بالدهشة والغرابة والأزمات التي تساعدنا أيضاً على عيش حياة أفضل، حتى لو كانت تنقل لنا أفظع ما أنتجته البشرية.
_________
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *