إيشيغورو والرواية المعاصرة… الذاتية ما بعد القومية وتمازج الثقافات
أكتوبر 5, 2017
خاص- ثقافات
*لطفية الدليمي
مقطع من الفصل السادس المعنون ( المستقبل والرواية المعاصرة) من كتابي المترجم ( الرواية المعاصرة ) للبروفسور (روبرت إيغلستون ) الذي سيصدر قريباً عن دار المدى، والمقطع يتناول رواية ( لا تدعني أذهب أبداً ) للروائي كازو إيشيغورو الفائز بجائزة نوبل للأدب 2017.
رواية لا تدعني أذهب أبداً Never Let Me Go ( 2005 ) للروائي كازو إيشيغارو Kazuo Ishiguro تختلف عن الرواية السابقة : تكرّس هذه الرواية جانباً مهماً منها للخيارات الأخلاقية والعلاقات العائلية (الشخصية الرئيسية في الرواية هي فتاة تُراقِص لعبة للأطفال وتتظاهر بأنها أمّ ) ؛ غير أنها ترسم صورة للمستقبل أكثر تشاؤماً ورعباً بكثير ممّا تفعل الرواية السابقة، لكن هذه الصورة التشاؤمية المرعبة والمظلمة تنساب بخفة وتؤدة مع تطور الرواية ولا نكاد نرتطم بوقعها الصادم فينا بسبب لمسة المقاربة الخفيفة التي برع فيها الكاتب، وكذلك بسبب المزاج الهادئ غير المنفعل للشخصية المركزية في الرواية، كاثي إج. Kathy H ( الرواية تُسرَد بصيغة الشخص الأول )، وبسبب هذه المزايا في الرواية فإن تأثير ” مابعد القراءة after – reading ” يستمر طويلاً مع القارئ ( المقصود بمصطلح ما بعد القراءة هو الطريقة التي يستمر بها تأثير الرواية في القارئ لبعض الوقت بعد إتمامه قراءة الصفحة الأخيرة منها ).
إن كل أعمال إيشيغورو تختصّ بالمساءلة الاستكشافية للتشابكات التأريخية المعقدة بين الفرد ومجتمعه الأوسع وبخاصة في تلك الأوقات التي يكون فيها المجتمع أمام معضلات أخلاقية مفصلية عميقة التأثير، ويعمل إيشيغورو دوماً على اقتفاء أثر المثالب الجمعية والتواريخ الفاسدة، ومن ثمّ مساءلة كيفية ترشّحها ومفاعيل تأثيرها في الشخصيات الرئيسية لرواياته. رواية (لاتدعني أذهب أبداً ) تختلف قليلاً عن الخط العام لروايات إيشيغورو من حيث أنها تركّز الاهتمام الأكبر فيها على شخصية ليست مُساهِمة في الفساد بل هي ضحية من ضحاياه العديدين. تحصل وقائع الرواية في إنكلترا أواخر تسعينات القرن العشرين، وهي تبدأ على النحو التالي :
اسمي كاثي إج. ( Kathy H. ). أنا بعمر الحادية والثلاثين، وقد عملت في حقل خدمة الآخرين ما يزيد على الأحد عشر عاماً. أعلم أن هذه الفترة تبدو طويلة ؛ غير أنهم يريدونني أن أعمل في الخدمة لثمانية شهور إضافية وحتى نهاية هذه السنة.
حرف ( إج H ) ذو دلالة بالغة : ما السبب وراء عدم امتلاك كاثي اسماً كاملاً ؟ يذكّرُنا الحرف المفرد هذا بتلك الشخصيات في روايات كافكا الموصوفة بحرف ( K ) والعالقة في عوالم متصارعة، ويذكّرنا كذلك بالشخصيات التي تدعى بأرقام لصيقة بها ( تذكير بحال السجناء كما جرت العادة غالباً، المترجمة )، وفوق ذلك فإن مصطلح ( العمل في خدمة الآخرين ) يبدو ببساطة أكثر من محض وصفٍ لوظيفة يؤديها المرء.
تمضي كاثي في وصف نشأتها في مدرسة أنيقة ثرية تدعى (هاليشام )، ولا يبدو الطلبة في تلك المدرسة منخرطين في تحصيل دروس كثيرة باستثناء الفنّ، ويدعى المدرّسون في هذه المدرسة ( الحرّاس ) – تلك استعارة أنيقة أخرى في تلك المدرسة الأنيقة. يبدأ القارئ شيئاً فشيئاً، ومع تقدّمه في قراءة الرواية، يدرك بأن كاثي وزميلها تومي وكلّ أصدقائهم الآخرين ليسوا سوى مستنسخات بشرية Clones، وانهم ما وُجدوا لغرض سوى التبرّع بأعضائهم البشرية ( يوصفون بالمتبرّعين عوضاً عن كونهم هِباتٍ مجانية، وهذا جانب من جوانب العالم الفظّ ذي النظرة المشوّهة. في إنعطافة كفوءة من جانب المؤلف يعمل بعض هؤلاء المتبرعين في خدمة زملائهم المستنسخين المحتضرين، وهنا نسمع، وبصورة أساسية، صوت قطعة من التقنية : كائن بشري مستنسخ وراثياً له مشاعر، ورغبات، ومخاوف، وشخصية – هو شخص بشري مثلنا إذن – قُدّر له أن يستخدم ثم يُطرَح جانباً. لنستمع إلى أحد الحرّاس المتقاعدين وهو يخبر كاثي :
ينبغي أن تحاولي رؤية الأمر من الوجهة التأريخية. بعد الحرب ( المقصود هو الحرب العالمية الثانية، المترجمة )، في بداية الخمسينات، وبعد أن توالت الفتوحات العلمية العظيمة بسرعة عظيمة لم يكن ثمة مايكفي من الوقت لطرح أسئلة حساسة تفيض بالمشاعر. كان أمامنا فجأة الكثير من هذه الإمكانيات الجديدة، والطرق الجديدة في علاج حالات كانت تعدّ سابقاً عصية على العلاج….. لوقت طويل فضّل الناس الاعتقاد بأن هذه الأعضاء البشرية تظهر من لا شيء، أو في أقصى الحالات كانوا يظنون أنها تُزرَعُ في نوع من الفراغ. كان ثمة دلائل ؛ غير أن الناس عندما باتوا مهتمّين بأمر… بأمر الطلبة ( أي المتبرّعين من طلبة مدرسة هاليشام، المترجمة ) كان الوقت قد فات وتأخّر الأمر كثيراً….. كيف يمكنك أن تطلب من عالمٍ بات مقتنعاً أن السرطان داء يمكن علاجه،،، كيف يمكنك أن تطلب من هكذا عالَمٍ ان يطرح كل شيء جانباً ليعود ثانية إلى الأيام المظلمة ؟ بصرف النظر عن مدى شعور الناس بعدم الراحة أزاء كينونتك الوجودية فإن إهتمامهم الطاغي الأول سيبقى في ضمان أن لا يموت أطفالهم أو شركاؤهم أو والديهم أو اصدقائهم بسبب السرطان أو اعتلالات الأعصاب الحركية أو أمراض القلب……….
يُشجّعُ الطلبة في هاليشام على إنتاج الفنّ لأنه – كما يقول الحارس المتقاعد – ” سيكشف عن حقيقة ذواتكم الداخلية….. لأن فنّكم سيكشف عن أرواحكم ! “، وهذا الفنّ الذي يبدو رؤيوياً إلى حدّ ما استخدمه الكاتب كواحد من الدلائل للبرهنة على أن تلك المستنسخات البشرية كانت إنسانية إلى حد بعيد وينبغي أن تلقى معاملة أفضل بكثير، ولكن لا يبدو أن لها تأثيراً كبيراً في إحداث فرق محسوس بأي قدر كان : كاثي ورفقاؤها واقعون في مصيدة لايستطيعون منها فكاكاً، وهذه المصيدة لاتتمثّل في الحرّاس أو الأبنية المسوّرة بجدران عالية ؛ بل هي ببساطة القبول العالمي المذعن لهذا ( التفكير التقني ) الذي يقبل وجود كاثي ورفقائها من أجل نحرهم لاحقاً طلباً لأعضائهم البشرية، ولاي بدو ثمة ممانعة من جانب هؤلاء ولا بارقة أمل في الخلاص كذلك. نحن في الغالب لا نلحظ ( الإطار ) التقني الذي يغلّف حياة هؤلاء ( كاثي ورفقائها )، وربما يفيدنا هذا الإطار من خلال تذكيرنا بالكيفية اللامبالية التي نتعامل بها مع الكثير من الأطر التقنية في حياتنا غير الروائية بحيث باتت الأمور تُقبَلُ كما هي من غير مساءلة جدية للآثار المترتبة عليها، وهنا يحضر على الفور الناقد الألماني العظيم ( والتر بنجامين Walter Benjamin ) الذي كتب يوماً ( ليس ثمة وثيقة تحكي عن الحضارة وهي ليست في الوقت ذاته وثيقة للبربرية المقترنة بتلك الحضارة ).
الصورة الأساسية والأكثر جوهرية في الرواية بكاملها هي تلك التي نرى فيها كاثي وهي ترقص لوحدها على أنغام أغنية ( لا تدعني أذهب أبداً ) وتُلاعب دمية لها في الوقت ذاته :
سأتخيّل… امرأة أخبروها بأن لن يكون لها أطفال وهي التي لطالما تاقت حقاً لهؤلاء الأطفال كلّ حياتها، ثم تحصل معجزة، شيء مثل معجزة، ويكون لها طفل، وتحمل ذلك الطفل قريباً في أحضانها وتتجول وهي ملتصقة به وتغني ( طفلي، لاتدعني أذهب أبداً….. ) لأنها مفرطة السعادة والفرح ؛ ولكن أيضاً بسبب كونها خائفة من أن شيئاً مخيفاً سيحصل : ربما سيمرض ذلك الطفل أو سيؤخذ بعيداً عنها……
لا يسمح لكاثي أبداً بأن يكون لها أطفال، ولربّما تكون قد صمّمت وراياً لتكون غير قادرة على إنجاب أطفال. الطفل إذن في الرواية هو كناية عن ذاتها هي، المسلوبة، وعن آمالها وتطلعاتها لمستقبلها الشخصي المتسربل بالفناء، والقاحل والعبثي والخالي من لحظات البهجة ماخلا تلك البرهات التي تداعب فيه دميتها الأثيرة. إن فقدان الأمل في مستقبل طموح بالنسبة للمستنسخات البشرية ( وهو ما تعبّر عنه تلك الصورة الأمومية الجديرة بكل شفقة وتعاطف ) هو بالضبط نتيجة لغياب الحب الإنساني الشفاف والرقيق الذي يكنّه المرء لأطفاله، وشركائه في الحياة، وأبويه، وأصدقائه،،، وبهذه الكيفية، ومن خلال الحب، ينعطف أي أمل خالص في التقنية وحدها ليستحيل أمراً شريراً في نهاية المطاف.
وهذا مقطع ثان من الفصل الأخير من كتابي المترجم ( تطور الرواية الحديثة ) للبروفسور ( جيسي ماتز ) والذي ستصدر طبعته الثانية قريباً عن دار المدى، والمقطع مستلّ من مادة ضمن الفصل الأخير عنوانها ( أربعة روائيين حداثيين معاصرين ) تتناول : فيليب روث، توني موريسون، كازو إيشيغورو، ديفيد فوستر والاس. المقطع الآتي يختصّ بالروائي ( كازو إيشيغورو ) الحائز على جائزة نوبل للأدب 2017 :
يمكننا الحصول على مثال مميّز لمثل هذه ( الذاتية المابعد قومية ) إلى جانب مثال مدهش عن الطريقة التي يمكن بها أن تتمازج الثقافات في الروايات المنفردة في عمل واحدٍ من أكابر الكُتاب المُعولمين : كازو إيشيغورو Kazuo Ishiguro ؛ إذ لكونه يابانياً وبريطانياً معاً فقد كان له على الدوام حسّ متفرد بالأشياء التي تتشاركها الثقافتان اليابانية والبريطانية، وجعل الكاتب من ذلك الخليط القاعدة لإحساسه النقدي المتفرد.
في رواية ( بقايا النهار The Remains of the Day ) ( 1989 ) يحكي إيشيغورو عن كبير خدم Butler إنكليزي : رجل يستذكر سنواته الخاليات التي قضاها في الخدمة المخلصة لسيده الأرستقراطي الإنكليزي ذي الحظوة ( في المجتمع السياسي الإنكليزي ) والذي حاول التأثير على مجريات السياسة الإنكليزية في السنوات السابقة لنشوب الحرب العالمية الثانية، ثم نكتشف لاحقاً أنه لم يفعل ذلك بطريقة إيجابية بل على نحوٍ أراد فيه للحكومة البريطانية استرضاء النازيين. يبدو في الرواية بطل إيشيغورو، كبير الخدم، وقد قام بعمل مؤثر ومميز للغاية تجاه الأرستقراطي الإنكليزي وعلى نحوٍ جعل من واجباته المهنية تتقدم على إلتزاماته الشخصية، ولم يناقش يوماً سلطة سيده أو سطوته مطلقاً ؛ ولكنه بعد كلّ تلك السنوات بات يرى أن كل تلك الأمور كانت خطأ فادحاً !! وفي اللحظة التي كان عليه أن يعترف فيها بأن سيده كان مخطئاً توجّب عليه أيضاً أن يقرّ بخطأ الخدمة المطيعة العمياء وأنه قد أتلف حياته الشخصية ودمّرها بمنحها هبة خالصة مطلقة لحياة رجل آخر : ( أنت ترى، أنا وثقت. وثقت بحكمة سيادته النبيلة. كل تلك السنوات التي خدمته فيها وثقت بأنّني كنت افعل شيئاً ذا بال، حتى أنني لاأستطيع القول بإقتراف أخطاء شخصية تخصّني أنا وحدي !!. حقاً، على المرء أن يسائل نفسه دوماً : أيّة كرامةٍ أربحها بفعل أمر مثل هذا ؟ ). هذه النهاية مأساوية على نحو تقليدي ولكنها في الوقت ذاته تبدو وكأنها تتناول أموراً عدة : الفشل الشخصي المأساوي هو ثيمة أولى، وثمة ثيمة ثانية تختصُّ بفشل الطريقة الإنكليزية في الحياة، وهناك إشارة أيضاً – وإنْ كانت بعيدة – إلى فشل الأسلوب الياباني الخاص بأداء الواجب. لا يبدو إيشيغورو بأنه يكتب عن المزاج الإنكليزي المأساوي فحسب بل عن نظيره الياباني كذلك منطلقاً من الإحساس بأن الثقافتين الإنكليزية واليابانية تتشاركان ذات السمة التي تُعلي من شأن المبالغة في إبداء مظاهر الالتزام الاعمى ( إلى حد التكريس الكامل )، وأنّ هذا الأمر يمكن أن يتسبب في نهايات فردية وجماعية كارثية. ثمة شيء ما بشأن الطريقة التي يتمكّن إيشيغورو بواسطتها من الجمع بين رؤيتيْن إنتقاديّتيْن لثقافتين متباينتين، ويدفعنا هذا الشيء لتبنّي إقتراح بوجود تمايز عولميّ ؛ إذ يبدو إيشيغورو وكأنه يكتب روايته وهو يضع الجمهور العالميّ ( وليس أيّ جمهور محليّ محدّد ) في حسبانه، وهو يفعل هذا الأمر مدفوعاً بإحساسه المؤسّس على قدرته في إلقاء الضوء الكاشف على الثقافات المختلفة ودفعها لتكون مادة مفترضة ومعتبرة لموضوعة روائيّة تخييلية.
هنا، أيضاً، نلمح نظرة تجنح إلى ( تفكيك ) النزعة الإقليمية، ونتحسّس ذاتية هجينة وبرهاناً على أنّ تقنيات الرواية الحديثة تناسب تماماً التعقيدات العولمية – التعقيدات في أكثر أشكالها عمقاً،،، لامحض تلك التعقيدات الخاصة بالتنوع الثقافي على الأرض ؛ ولكنْ تلك التعقيدات الأكثر تجذراً وغرابة والناتجة عن التلاقح بين الأمزجة الثقافية مع الميل إلى تأسيس نظرية حول الواجب الأخلاقي. إذا كانت الحداثة الآن تعني خليطاً من الأساليب الثقافية فإن الرواية الحديثة تمتلك – بين قدراتها الكثيرة – المنظور الذاتي، والنزعة التشكيكية، والميل نحو إجتراح البوح والمناجيات مع الآخرين ( Dialogism ) وهي ذات الميزات التي يمكن أن ترينا على نحوٍ شديد الدقة كيف يمكن تشكيل الذاتية العولمية لكاتبٍ مثل إيشيغورو.