*واسيني الأعرج
الخيبات والهزائم المتكررة، والخيارات الخطأ، في العالم العربي، لم تكن فقط واحدة من أهم أسباب ظاهرة الإرهاب، ولكن أيضا تقف بقوة وراء العدمية التي أصبحت نمطا تفكيريا مهيمنا على الكثير من الأوساط الثقافية العربية.
فهل هذا يعني أن المثقف العربي يعيش اليوم في عدمية مُتَوَهّمَة له ولكل أحلامه وخياراته، في ظل زخم ثوري جديد، على محدوديته، هز اليقينيات كلها، ومنها يقين الهزيمة والانهيار؟ يتحدث الكثيرون اليوم عن دور المثقف في الحاضر، الذي أصبحت تحكمه معطيات جديدة، لكنهم في الوقت نفسه، يرهنون جهوده داخل نظريات قديمة، على نُبل مقصدها، لم تعد تستجيب للمعطى الحركي للعصر الاتصالي الذي نعيشه اليوم، ونتلقّى تأثيراته أحيانا باستسلام، بعد أن أثبت أنه الحاسم في عمليات التحوّل الكبرى، ولو بشكل مؤقت. في الحالة العربية، فقد لعبت وسائل الاتصال الحديثة دورا كبيرا وملاحظا، في إسقاط بعض رموز هرم النظم العربية، وانهيار النظام الحزبي السياسي القديم كفاعلية في تعبئة الجماهيرالتي أصبحت محكومة بما تمليه عليها الأقمار الصناعية التي تملأ السماوات.
ليس التويتر، والفيسبوك، والشبكة العنكبوتية، وغيرها من الوسائط الاجتماعية، التي كان ينظر لها بدونية إلى وقت قريب، أصبحت عنصرا حيويا في عمليات التغيير السريع. هل تكفي وحدها أم تحتاج إلى من يقف وراءها لتحديد استراتيجياتها، هذا نقاش آخر؟ فالسرعة النسبية التي سقط بها أساطين الحكم عربيا، كالرئيس زين العابدين بن علي، والرئيس حسني مبارك، وإلى حد كبير ملك الملوك معمر القذافي، تدفع إلى تفكير عميق. يبدو أن الوسائط القديمة كالأحزاب، وحتى التنظيمات الجماهيرية كالاتحادات وغيرها، لم تعد قادرة، على الأقل في صورتها الحالية، على تغيير أي شيء، إذ وصلت إلى سقف عطاءاتها. كانت هذه الأحزاب تجر وراءها، في الخمسينيات، الملايين من الجماهير الحالمة بالتغيير، أصبحت اليوم تعيش في قواقع فارغة من أية حياة، أسماء أكثر منها فاعلية سياسية واجتماعية، تضاهي الأنظمة في انغلاقها على الدوغما، وعلى التوريث، والمحسوبية واللاديمقراطية في الأجهزةالمسيرة، وتخلف الفعل السياسي الإيجابي، وإلغاء المواطنة، واستحضار سبل الأنظمة القبلية( القبيلية ـ نسبة إلى قبيلة) البائدة كلها، وحتى العرقية والجهوية لضمان استمرارية المصالح الضيقة.
ينتمي الفرد لها وهو يعرف سلفا ما الذي يُنتظر منه فعله. لم تعد طروحات ماكسيم غوركي حول التزام المثقف أو جون بو سارتر، كافية في تحديد وظيفة الكاتب في لحظات الثورات والتحولات حيث يصبح الارتباط بالأيديولوجيا رديفا للارتباط بالثورة. ولم تعد وجودية سارتر وكامو، مقنعة للكثير من الشباب الفاقدين لأي أمل في الحياة والتغيير، ولأية مرجعية نموذجية. حتى نظريات الكتل التي تبناها أنطونيو غرامشي لم تعد قادرة على منح المثقف العضوي، والجماهير الواسعة، سلاحا حقيقيا لتغيير شروطها الحياتية القاسية التي أصبحت شبيهة بالأقدار المفروضة، وتحتاج إلى أسلحة أخرى أقوى، وأكثر قدرة على إزاحة المظالم والأنظمة الظالمة. القليلون هم الذين رهنوا مشروع الحياة الكبير إلى رهان الكتابة.
فهم يعرفون سلفا أن هذا الرهان مليء بالهزات، ولا أحد يضمن ما تخبئ الدنيا من مفاجآت. وساروا وراء المغامرة حتى النهاية، بكل ما تحمل الكتابة من جنون ونُبل ورغبة في التلاشي في أخطر حالة انتحار إيجابي أنجبتها البشرية: الكتابة. قُتِل الحلاج ومزق ولم يتراجع عن طرحه الحر في العلاقة من السماء والأرض، لم يستسلم أبوالعلاء المعري، ولم يتنكر لخياراته الفلسفية القوية التي أعادت النظر في يقينية المعرفة، وطه حسين ونصر حامد أبو زيد والجابري وآركون وغيرهم كثيرون، كلما أدرجوا السؤال في عمق جهودهم، وهزوا يقين المجتمع النائم في برك آسنة، تعرضوا لأخطرالوسائل الرقابية التي قادتهم إلى التهديد بالاغتيال، أو أبواب المحارق والسجون. كلما كتبوا شيئا أو اختبروا سؤالا، أضافوا إلى قائمة أعداء التغيير، عدوا جديدا، وإلى مؤسسات الرقابة التي تقتفي أنفاسهم، وسيلة أخرى للمحو، ومنحوا قتلة الروح والجسد فرصة جديدة للكلام والسجال والضغينة. عيبهم الوحيد هو أنهم دخلوا بأرجلهم وأجسادهم وحواسهم أو ما تبقى منها، في الحياة، وحاولوا أن يجعلوا منها وسيلتهم للتفكير في النهاية.
هل من اليسير القول بأن المثقف العربي، والكاتب تحديدا، إنه لم يلعب دوره وهو يحمل في عمق قلمه ذاكرة تضع أمامنا اليوم القسوة كلها التي عانت منها الشعوب العربية؟ رحلة الكاتب العربي تراجيدية مزروعة بالحرائق والأشواك المؤذية، التي خاضها بكل عنفوان من دون يخوته ونبله.
كان الفارس الغريب، يعرف الهزيمة في غياب من يفهم رسالته، إذ لا ثورة ناجحة من دون قوة خلاقة تحميها، ومع ذلك خاضها، سلاحه السخرية والرغبة القصوى في فعل أي شيء حتى داخل الهزائم المكسورة.
كم من مثقف وسياسي في القرن الأخير فقط، اختطف ولم نعرف عنه أي شيء؟ كم من مثقف أذيب في محلول الأسيد، كي لا يترك القتلة أي أثر وراءهم؟ كم من مجموعات حوربت وعاشت المطاردات مورثة ذلك لأجيال كثيرة ولم تر النور في حياتها، وعاشت العزلة والخوف، حتى دُفنت في الظلمة والحسرة؟ لقد اشتغل الكثير من المثقفين برغم سلطان العزلة، في بلدانهم وفي المنافي، محملين بخسارات كبيرة: الأحلام الليبرالية التي باءت بالفشل، والوحدة العربية التي ظلت حلما معلقا في الهواء، رهانات المواطنة المتتالية. أين ذهب ذلك الإرث الإنساني العظيم؟ هل يمكن أن ينتفي بكل هذه السهولة؟ ألم يوجد ماض مؤسس للحظة الحاضر وموجه لها؟ هل يعقل أن تنشأ الانتفاضات من الفراغات؟ أسئلة تستحق أن تطرح اليوم في مجتمع عربي كسرت بوصلته ولم يعلم وجهته، في ظل تمزقات وانهيارات داخلية، وحروب أهلية مدمرة غير مسبوقة لا تنتج في النهاية إلا العدمية القاتلة؟ أما من سبل ومسارت أخرى أكثر إيجابية، وأكثر قدرة على زرع الأمل؟
_____
*القدس العربي