كان شبيهاً بمحارب روماني: فارع القامة، كبير الجثّة مع تناسق في الأعضاء. وكان حاد النظرة كما لو أنه صقر ألف التحليق عالياً. لكن وراء كل هذا، كان هناك قلب ظلّ حتى النهاية يخفق بالحب وبالسخاء، وبالأمل، وبالإيمان بقدرة الإنسان على مواجهة الشرور بمختلف أنواعها وأشكالها. ذلك هو الشاعر الفرنسي الكبير رينيه شار الذي كان محبّوه وعشاقه يصفونه بـ«الشاعر الصّاعق».
ولد رينيه شار في 14 يونيو/ حزيران 1907 في قرية «ليزل – سور – سورغ» بجنوب فرنسا. وكان أصغر إخوته الأربعة، ومنذ صباه عشق العواصف والرعود، وكان يبتهج عندما تسوّد السماء وتغضب الطبيعة. كما أنه كان يحب النار، بل كان يقول إن النار هي «دليله الأعلى». وعندما أصبح شاعراً كتب يقول: «لا ينبغي علينا أن نخشى الحرائق، فمنذ البداية كنا أقباساً من نار». وربما لم يخطئ ذلك الناقد الفرنسي الذي كتب عنه يقول: «الصواعق كانت وقوده. والبرق كان مكثفاً لطاقة شعرية هائلة».
البرق العظيم
كان شار في الحادية عشرة من عمره لما أحس لأول مرة بـ «هواجس الشعر» تعتمل في داخله، واصفاً ذلك بقوله: «كنت في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمري عندما سقط عليّ ما كنت أسميه بالبرق العظيم. بعدها لم يعد هناك شيء يعنيني غيره. النهار لا يضيء. وحده الليل يوجد والضوء. غير أن هذا الضوء يأتي من الليل، وهو البرق النادر والعظيم. وهو لا يتلألأ إلا بين وقت وآخر، وفي عدد من المرات خلال حياة بكاملها. لكن في كل برق نحن نميّز أشياء أكثر بقليل من الأشياء التي رأيناها في المرة السابقة».
ويضيف شار أنه كان يجول في حقل، في السن المذكورة، لما أحس بشيء يسير بجانبه. ولم يكن ذلك الشيء غير الشعر. فما كان منه إلا إن شدّ على يديه بقوة. ومنذ ذلك الحين أصبح الشعر شيئاً أساسياً في حياته، تماماً مثل الهواء والماء والخبز.. بل إن الشعر سوف يكون حبه الأول والأخير.
وهذا ما أكّده عندما كتب يقول:
«في شوارع المدينة هناك حبي.
لا يهم إلى أيّ مكان يذهب
في الوقت المجزأ.
لم يعد صبياً
وباستطاعة كل واحد
أن يتكلم معه.
وهو لا يتذكر أبداً
من الذي أحب فعلاً…»
وكان رينيه شار في سن الحادية عشرة أيضاً لما فقد والده. غير أن ذلك لم يخلّف في نفسه أثراً كبيراً على ما يبدو. ولعل حبه الجنوني للشعر جعله ينظر إلى موت الأب كما لو أنه حدث عادي. ولأنه لم يكن مهتماً بالدراسة، فقد ترك المدرسة مبكراً، وتحديداً في سن التاسعة عشرة قائلاً لوالدته إنه لا شيء يعنيه منذ الآن غير الشعر. ثم لم يلبث أن أخذ يطالب عائلته التي كانت تملك العديد من مقالع الجبس بنصيبه من الإرث. وقد تسبّب ذلك في اندلاع معركة عنيفة بينه وبين شقيقه الأكبر. وأمام دموع الأم الأرملة، وحزنها انسحب رينيه شار من ما سمّاه في ما بعد بـ «جو التراجيديا الإغريقية». وفي فترة الغليان والهيجان هذه، انطلق الشاب المفتون بالعواصف والرعود إلى باريس وفي رأسه أحلام رامبو عندما ترك مسقط رأسه «شارلفيل»، ليرمي بنفسه وسط «لهب الشعر» غير عابئ بشيء.
سنوات الغضب
ارتبط رينيه شار بالشعراء الطلائعيين في ذلك الوقت، وتحديداً بلوي أراغون وبول ايلوار وأندريه بروتون زعيم الحركة السوريالية. وفي حانات «الحي اللاتيني» وحي «مونبارناس»، فتن بالشعارات الثورية التى كان يرفعها الشعراء الطلائعيون الغاضبون، والساخرون من أوروبا العجوز الخارجة للتو من حرب طويلة مدمّرة. كما تعرف إلى الفنانين والرسامين، الذين سيصبحون نجوماً في ما بعد من أمثال بابلو بيكاسو وجورج براك وسالفادور دالي.. ومتأثراً بأفكار السورياليين، شرع شار يكتب نصوصاً يسخر فيها من الوطن والعائلة.. وفي واحد من هذه النصوص، يقول:
«الشيء الذي نحن نتلهف للقيام به هو التدمير الكامل لهذا الصرح الذي تنحني من حين لآخر من إحدى نوافذه الفتاة المدانة البائرة ذات الألوان الثلاثة (يعنى بذلك فرنسا الملون علمها بثلاثة ألوان: الأزرق والأبيض والأحمر).
وفي هذه السنوات الملتهبة بالشعر وبالثورة والغضب، قرّر شار أن ينذر كل وقته وكل جهوده للشعر وللكتابة تماماً مثلما هو الحال بالنسبة إلى صديقه أندريه بروتون. ولمواجهة المصاعب الحياتية في المدينة الكبيرة، كان عليه أن يلجأ بين وقت وآخر إلى بيع لوحات ورسوم أصدقائه الفنانين.
كان رينيه شار في سن العشرين، لما كتب تعريفه لشعر، وفيه يقول: «كل شعر لا بد أن يولد حراً، ومجنوناً قليلاً، مجنوناً ومتمرداً في الأيدي التي تأتي به إلى العالم. وعليه أن يجهل ويتجاهل السباق نحو الخير والبحث عن الشر. لهذا السبب ومن دون هم أو قلق هو إنساني. شجرة ليلية هو ينبت في قلب النهار. وهو يصلح لتحولاتنا ذلك أنه يقول الحقيقة أو هو يعتقد ذلك. وكل المعذبين والمقموعين يشعرون ويعرفون أن الشعر هو أخوهم، وهو التلعة الطرية في طريقهم».
في عام 1929 احتدت الأزمة الاقتصادية في كل البلدان الأوروبية وامتلأت شوارع المدن الكبيرة بالعاطلين، واليائسين والغاضبين وفي الآفاق بدأت تلوح علامات حرب جديدة مدمرة. وفي 15 ديسمبر/ كانون الأول من العام المذكور، أصدرت مجلة «الثورة السوريالية» التي يشرف عليها، ويرأس تحريرها أندريه بروتون «مانيفستو» جديداً يتضمن الدعوة إلى أن تكون «السوريالية في خدمة الثورة». وقد تحمس رينيه شار لهذا البيان، وأصبح أكثر التصاقاً بالحركة السوريالية، وأكثر وفاءً لأفكارها، وأطروحاتها الأدبية والفنية والايديولوجية والسياسية. ولتأكيد ذلك، لم يكن يتردد في الاعتداء بالضرب على الذين يناهضون الحركة السوريالية. كما كان يدافع بشراسة عن زعيمها أندريه بروتون الذي رفض رفضاً قاطعاً الانضمام إلى الشيوعيين، مهاجماً بشدة الداعين إلى ذلك، ومن سمّاهم بـ«أبناء العائلات المدللين«، وجميع الذين «يتصورون أن الأدب شكل من أشكال التسلية». وعندما احتدت المعركة بين السورياليين، انسحب رايمون كينو «ساخراً ومجروحاً»، وصمت ميشال ليريس، أما بريفير وبيكابيا، وماسون ودينوس فقد ثاروا ضد اندريه بروتون، وعبر نصوص حادة اللهجة شرعوا في مهاجمته ناعتينه بأقبح النعوت؛ فهو «أخ مزيّف» و«لاعب بيلوت» و«قندلفت» و«شرطي» و«قس».
مطلع الثلاثينيات، انتسب لوي اراغون إلى الحزب الشيوعي الفرنسي بزعامة موريس توريز، وكتب قصيدة مباشرة هاجم فيها بشدة الاشتراكيين الديمقراطيين، وأكد أن الثورة لا بد أن تكون بقيادة الحزب الشيوعي أو لا تكون. وقد اغتاظت السلطات الفرنسية الحاكمة من هذه القصيدة، وطالبت بمحاكمة صاحبها. وبالرغم من أن قصيدة رفيقهم القديم لوي أراغون لم ترقَ لهم لا على مستوى الشكل، ولا على مستوى المضمون، فإن بروتون وشار وايلوار وكريفيل وبنجامين بيريه سارعوا بإصدار بيان يعبرون فيه عن مساندتهم المطلقة له، وعن رفضهم القاطع لمحاكمة الشعراء بسبب أفكارهم.. لكن خلافاً لما كان منتظراً منه، نشر لوي أراغون مقالاً في جريدة «لومانيتيه» لسان الحزب الشيوعي الفرنسي، أبدى فيه تحفظاً شديداً إزاء «البيان السوريالي»، وانتقد الموقعين عليه، باعتبارهم «بورجوازيين صغاراً يخشون الثورة الشيوعية الحقيقية». عندئذٍ ازدادت المعركة حدة بين من تبقى من السورياليين حول أندريه بروتون، وبين لوي أراغون. وقد اعتبر رينيه شار أن هذا الأخير «خائن يسعى لضمان مستقبل حياته اعتماداً على عمل قار يضمن له راتباً شهرياً».
وخلال هذه المعركة الحامية، بدأ رينيه شار يعاين نقائص الحركة السوريالية، خصوصاً على المستوى السياسي. وربما لهذا السبب اختار بعد أن أصدر مجمل الأشعار التي كتبها حتى ذلك الحين ضمن ديوان سماه: «المطرقة من دون معلم» أن يعود إلى مسقط رأسه «ليل – سور- سورغ»؛ بهدف تنظيم أفكاره، بعيداً عن صخب العاصمة ومعاركها الأدبية والسياسية التي كانت في اشتعال دائم.. حدث ذلك عام 1934 وهناك في الغابات، وفي الحقول، راح رنيه شار يعمل على «صنع صوته الخاص به».
مع المقاومة
عند اندلاع الحرب العالمية، انضم رينيه شار إلى حركة المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي، ليصبح أحد قادتها الكبار في جنوب البلاد. وقد كتب إلى أحد أصدقائه يقول: «على هذه البلاد أن تخرج من جمودها، ومن أفكارها المسبقة المتسمة بالبلاهة والغباء، ومن شيخوختها المعفّى عليها. علينا الذهاب قدما إلى الأمام، وعلينا أن نصبح قساة لكي ننتصر». أما إلى زوجته فقد كتب يقول: «اتخذي موقفاً بأقصى السرعة، أنت ووالديك، ذلك أنه عليك أن تنتظري بربرية منهجية من قبل هؤلاء السفلة». وعندما بدأ النازيون يقصفون المدنيين كتب يقول إلى سيدة تدعى جورجيت غولدشتاين: «لقد حملت على ذراعي أطفالاً ونساء ملطخين بالدم. فالذين كان عليهم أن يقدموا لهم المساعدة فرّوا هاربين من القنابل ذلك أني لم أرَ غير أناسٍ جبناء».
خلال الحرب، وعلى مدى أربع سنوات، لم يكتب رينيه شار ولو قصيدة واحدة. إلاّ أنه كان يسجل انطباعاته كلما أتاحت له الفرصة ذلك. وفي ما بعد سوف يجمع تلك الانطباعات ضمن كتاب سماه: «أوراق هيبنوس». وعندما قرأه ايلوار، كتب إلى صاحبه يقول: «هذا الكتاب الصغير، عمل عظيم وهائل. لقد غرست في الأرض سيفا سيظل هناك أبد الدهر».
بعد نهاية الحرب، عاد رينيه شار من جديد إلى باريس ليرتبط بعلاقة صداقة وطيدة مع كل من البيركامي، ورايمون كينو، وفرانسيس بونج. وبين الوقت والآخر كان يلتقي بأصدقائه القدامى من أمثال بول ايلوار، ولوي أراغون، وجورج باتاي وأيضاً براك وبيكاسو وماتيس… وقد أجبرته المصاعب المادية التي كان يواجهها في ذلك الوقت على السكن في فندق صغير في الحي اللاتيني، واصفاً إياه في هذه المرحلة من حياته، كتب أحدهم يقول: «كان رنيه شار يستقبل الشعراء الشبان الذين وجدوا فيه الصديق الرائع السخي، الذي لا يبخل عليهم بشيء، وكان دائم الانتباه إلى كل ما كانوا يكتبونه. وكان يقضي أوقاتاً طويلة معهم وذلك على الرغم من مواعيده الكثيرة. والأقربون إلى نفسه كانوا يلتقونه في الصباح، حتى وهو ناهض للتو من النوم. وفي الحين يثار نقاش سياسي حول الحدث الذي جدّ بالأمس. وبعد أن يقدم القهوة لضيوفه، وهي عادة ما تكون جيدة للغاية، يغادر شار غرفة الفندق الصغيرة، ويمشي في باريس. ودائماً تكون المدينة المكان السحري للقاءات وللعجائب. وقد ظل شار سوريالياً على هذا المستوى على الأقل، فهو يتحدث بقوة. ومرة يكون أليفا، ومرة يكون شبيها بوسيط وحى يفتح للعضو الجديد أبواب متاهة».
مطلع الخمسينيات، أصبح شار واحداً من أكبر الشعراء في فرنسا. ولم يتردد البير كامو في تشبيهه برامبو، وبأبولينير. وبالرغم من أن الشعر كان دائماً وأبداً أكثر شيء يشغل ذهنه، وخياله، فإنه كان يتدخل بين وقت وآخر للتعبير عن مواقفه السياسية أو غيرها. وعندما احتدت المعارك بين سارتر وكامو، ساند هذا الأخير، واعتبر كتابه: «الإنسان المتمرد» (كتاباً عظيماً). وعندما توفي كامو في حادث سيارة رثاه قائلاً: «ليس هناك خطّ مستقيم ولا طريق مضاء مع كائن غادرنا. أين تنتشي مودتنا؟ حلقة بعد حلقة، هو يقترب، لكي يتوارى في الحين، أحياناً يلتصق وجهه بوجهنا، ولا يحدث غير بريق متجمد. اليوم الذي يطيل السعادة بيننا وبينه ليس له مكان. مع الذي نحن نحب، كففنا
في السنوات الأخيرة من حياته، عاد رينيه شار إلى مسقط رأسه من جديد ليعيش وسط الطبيعة، في بيت بسيط للغاية، مفتوح على الحقول والهضاب. وكان أصدقاؤه المخلصون يزورونه بين وقت وآخر. وفي التاسع عشر من فبراير/ شباط 1988، لفظ أنفاسه في مستشفى «فال دو غراس» بباريس. وكان في الرابعة والثمانين من عمره.
بدمٍ بارد
مُنتقداً الاستعمار كتب رينيه شار: «وفي حين أننا لا يمكن أن نعود من «بيريبي» فإن السكان الأصليين في الهند الصينية (فيتنام الآن) يمثلون أمام المحاكم الفرنسية ثم يقتلون بدم بارد، وبطرق مشروعة لأنهم حاولوا التخلص من العبودية المرعبة التي تسحقهم وتثقل كواهلهم».
شراك الحقيقة
معلقاً على تعريف رينيه شار للشعر، كتب أحد النقاد يقول: «أبداً لن ينحرف رينيه شار عن التعريف الذي وضعه للشعر وهو في العشرين من عمره. فهذا الشاعر لن يفعل شيئاً آخر بعد ذلك غير صقل وتنقيح قصائده لكي يوقع الحقيقة في الشراك بشكل أفضل، ويجتث الانفعال من غطائه. ومكتبه شبيه بأتيليه في حالة هيجان وغضب. وهو يسيئ معاملة جمله ويخرج أحشاءها في الزمن الذهبي لشبابه وللسوريالية. وهو يقطع ويشطب ويحذف، ويخرج أصداء استيهامات عقمه».
____
*الاتحاد الثقافي