حجم الروايات

*أمير تاج السر

أقرأ هذه الأيام رواية اسمها: ألعاب العمر المتقدم، للإسباني: لويس بانديرو، وهي رواية صدرت بلغتها الأصلية، أواخر تسعينيات القرن الماضي، لكنها نقلت حديثا إلى العربية، بواسطة صالح علماني، وأكدت ثقتي التي دائما ما أنوه بها، في الأدب الإسباني، أو بشكل أشمل: الأدب المكتوب باللغة الإسبانية، سواء إن كان إسبانيا خالصا، أو لاتينيا من تلك الدول البعيدة، التي أثرى كتابها الأدب، وما زالوا يثرونه إلى الآن، على الرغم من رحيل عمالقة مثل بورخيس وماركيز، وفوينتس، لكن بالطبع، تأتي في أي مكان، أجيال جديدة، تحمل إيقاعها الخاص الذي لن يحيد كثيرا عن إيقاع الأجيال التي سبقتها، وفقط قد يكون فيه بعض الخفة المطلوبة، وبعض البهار الجديد الذي تقتضيه ظروف العصر.
رواية بانديرو، جاءت بعدد صفحات كبير تجاوز الستمئة، ذلك العدد الذي قد يخيف القارئ، وقد يشعره بالملل، حتى قبل أن يقترب منها، لكن حين تبدأ القراءة، وتحتك بجمال اللغة، وثراء المعنى، وعالم غريغوريو الحالم بحياة مختلفة عن حياته التي فرضت عليه من عمه، تجد نفسك لا تستطيع التوقف، ستحب عالم غريغوريو، ستحب أحلامه وأوهامه، وكوابيسه، وقصة حبه التي ابتدأ ينسج خيوطها على رائحة عطر، شمه وهو تحت طاولة كشك، هو كشك العم الخالي إلا من أشياء كثيرة غبية، والعم نفسه، ليس بعيدا عن الغرابة، وقد رسم بطريقة فذة فعلا، وأظنه النموذج الحي لأي رجل شاخ، ولم تشخ أحلامه قط، ذلك أن الأحلام لم تكن بعيدة عن تحقيقها، بل تحققت نظريا، في تلك الأقوال التي يرددها باستمرار، حتى ليخيل لغريغوريو الذي جاء من الريف، ليعيش معه في المدينة، أن العم هو كل تلك الشخصيات والوظائف المهمة التي يذكرها. لقد حصلت هذه الرواية بثرائها هذا على جائزة، وانتشرت كثيرا بلغتها ولغات أخرى، ولم يتحدث أحد عن ضخامتها، أو كثرة عدد صفحاتها، وإنما قرئت هكذا، بكل تلك المعطيات.
رواية أخرى، تحدثت عنها كثيرا، هي «ظل الريح» لكارل رويس زافون، وهو إسباني أيضا، وتدور أحداث روايته الساحرة التي نقلها للعربية صديقنا معاوية عبد المجيد، في برشلونة، وحول كتب منسية، تبدأ منها مغامرة عجيبة. هذه أيضا رواية كبيرة، وطويلة، وصعب التكهن بالزمن الذي يمكن أن تنتهي فيه، لكن الأسلوب يأخذك، ولا تستطيع أن تنجو منها إلا بإنهائها، سواء أن أنهيتها في أسبوع أو شهر، وستظل رائحتها عالقة بأنف القراءة، وطعمها عالقا بالتذوق، كنموذج فريد للخيال والسحر الذي يرافق الأدب المكتوب بالإسبانية. لا توجد بالطبع مقارنة بين «ظل الريح» و«ألعاب العمر المتقدم»، لكن فقط لفت نظري أن الروايتين تبدآن ببطلين صبيين في سن المراهقة، تتقدم بهما ليكبرا، ويصنعا لنا تلك العوالم الغريبة الساحرة، وأعتقد أن طول هاتين الروايتين جعلهما تمتلكان خاصية الصدر الواسع الذي يمكن أن يحتوي كل شيء، لذلك سنعثر على الحياة كلها هنا، نعثر على الحب والحميمية، والشقاء والجوع والصبر، والكابوس والفقد والتأقلم، وكل مفردة من المفردات التي لن تكون مشردة، ولكن تم إسكانها في مكانها الصحيح، وإذن «ظل الريح» أيضا، لم تطرد القراءة بسبب الضخامة وعدد الصفحات، وإنما شدها كثيرا، ومعروف أن الرواية في كل اللغات التي ترجمت إليها، حققت مبيعات كثيرة، وما زالت تحقق، على الرغم من مضي سنوات على كتابتها ونشرها بالإسبانية.
قلت مرة وأنا أتحدث عن رواية: «قصة عن الحب والظلام» للإسرائيلي عاموس عوز، تلك الرواية المذهلة الضخمة، التي اصطلح أنها سيرته الذاتية، أن عاموس لم يسع إلى غسيل ماضيه، أي لم ينظف سيرته من تلك الأشياء التي تعتبر وسخا، ونسعى كلنا للتخلص منه قبل نشر السيرة، لكنه سعى إلى كتابة عمل يوضح حقيقة حياته، وحقيقة ما في صدره من صلف عنصري، تجاه وطن لم يكن وطنه، وإنما اغتصب وتم احتلاله غدرا، هو لا يكبت الشعور بالعدائية، ولا يتحدث عن جذوره بأي خجل وحتى علاقاته النسائية، وفورانه الاستفزازي، وباختصار كل شيء، لذلك جاءت تلك الرواية الضخمة أيضا، ثرية جدا، ويمكن إكمالها في زمن قياسي، على الرغم من عدد صفحاتها الذي تجاوز الثمانمئة صفحة، هنا لن ننظر للأمور بعدائية، لن نستعر غضبا ونلقي بالكتاب، بل نتعرف بكل هدوء إلى ما يكنه المحتل من مشاعر، ونفكر في صيغة مثل صيغته للرد، هو لم يحمل سلاحا واقعيا، يشهره هنا وهناك، وإنما سعى لاستخدام الأدب كسلاح، ولطالما آمنت بوجود أسلحة كثيرة مخبأة في الأدب، ولكن كثيرين لا يعرفون كيف يستخرجونها، ويستخدمونها عند الضرورة، أعرف أن كثيرين لم يقرأوا قصة عن الحب والظلام، لأنها من نسج عدو، وأعرف أن كثيرين لن يقرأوها، وبالتالي ستظل تلك الإحساسات المترفة، المزعجة غائبة عنهم بلا شك.
هناك راوية مهمة للتركي أورهان باموق، تدخل في تصنيف الروايات ذات الوزن الثقيل، ولكن الممتعة أيضا، وهي رواية «ثلج»، التي قصد من كتابتها مناقشة أشياء كثيرة في مجتمعه أهمها ظاهرة حجاب الفتيات، وقد جعل بطله: كا، صحافيا يتحرى عن مسألة انتحار فتيات محجبات، وبعد ذلك دخل في مناقشة الظاهرة. باموق ليس مثل الإسبان، يكتب ببهارات خاصة، ويوظف خيال الكتابة بعيدا وليس أيضا مثل عاموس، يتحدث بانتفاخ وعضلات عنصرية كبرى، هو كاتب واقعي جدا، وبدا لي أن الرواية كانت مقصودة بالفعل لمناقشة أفكار محددة بدون أن يبدي ككاتب وجهة نظره.
هذه أيضا رواية ضخمة، وكثيرة العوالم، وستأخذ زمنا طويلا من أجل إنهائها لكنها ستنتهي في النهاية.
لقد أردت من ذكر تلك الروايات واستعراضها سريعا، أن أتحدث عن مسألة الضخامة التي تسود بعض الأعمال، والتي أصبحت ظاهرة عندنا أيضا، حين يتداعى البعض في ملء مئات الصفحات، ويطوحون بذهن القارئ هنا وهناك، ويملأون ذلك الذهن بكثير من الأشياء التي لا ضرورة لها، ولتبدو صورة الكتاب فاتنة في النهاية حين يوضع في المكتبات، بكل هذا العدد من الصفحات، وقد لا يقرأ أبدا أو تقرأ منه صفحات معدودة، ويهمل، وحتى إن تمت قراءته كاملة، ستضيع معالم كثيرة منه عند مناقشته مع آخرين أو محاولة استعادة أحداثه في ساعة استرخاء.
لقد ذكرت نماذج أجنبية مترجمة، وقلت إنني أؤمن بثرائها، لكن ولأكون صادقا فعلا، حتى تلك النماذج، رغم قدرتها على الجذب، لا تخلو من وقائع كثيرة بلا ضرورة، وكان من الممكن اختصارها أو إلغاؤها، وثمة تفاصيل خاصة عند الأتراك، تجعل من القراءة أحيانا عملا شاقا، هنا يصف الكاتب حتى بقعة طين علقت بحذائه، باعتناء شديد، ويمكن أن يصف قطرة ما سقطت على قميصه وهو يشرب، كأنه يصف قصرا منيفا، وفي رواية عاموس حديث طويل عن المشاعر الداخلية، كان من الممكن كتابته باختصار.
أخلص إلى أن بدانة الرواية مطلوبة في بعض الأحيان، تلك الأحيان التي تستوجب كتابة ملحمة، لا قصة عادية، وكانت كل تلك الكتب التي ذكرتها ملاحم، وسأظل مستغربا من قصة حب عادية، يمكن أن تحدث في أي زمان ومكان، يكتبها أحدهم في سبعمئة صفحة.
___
*القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *