التكنولوجيا الاتصالية الجديدة في خدمة الكتابة

يحيى القيسي*

 

يبدو أن التطورات المذهلة التي حدثت في مجال تكنولوجيا الاتصال خلال العقد المنصرم أصبحت تسير بشكل متسارع بحيث لا يكاد المرء يستوعبها، ولا يمكنه بالطبع من ملاحقتها، فكلما ظهرت وسيلة اتصالية إلكترونية جديدة، وبدأ الناس في استخدامها والاعتياد عليها سرعان ما تظهر وسيلة أخرى لتلغي ما سبق أو تهيمن عليه.

 ومع هذا اللهاث المستمر في الملاحقة حتى لا يبدو المرء متخلفا عن عصره، وأيضا محاولة فهم هذه الظواهر المتواصلة والسيطرة عليها لصالح الحياة اليومية، وأيضا في مجال الآداب والفنون فإنّ النتيجة تبدو غير مبشّرة، وخصوصا فيما يتعلق بصراع المكتوب والشفوي، إذ تميل الكفة لصالح الاستخدام المسرف للصور والرموز والمقاطع الصوتية، والفيديوية، فيما تتراجع الاهتمامات بالجانب المكتوب ولا سيما في النصوص الطويلة والإبداعية منها، فحتى ما يتم استهلاكه غالبا من المكتوب يتعلق بالأخبار العاجلة، وبالحكم والعبارات المكررة، ناهيك عن الأدعية والمدونات العاطفية ذات البعد الديني.

في نهاية العام 2012 كانت محطات الأخبار منشغلة في بث الحكايات والأساطير الخاصة بنهاية العالم، وكيف أن العديد من الشعوب تؤمن بذلك وتستعد لهذه النهاية، فيما انشغلت بعض الدول العربية بمواجهة الربيع الزائف والهجوم الكاسح للتطرف، وأصبحت متورطة بشكل يومي في الانغماس بالحلول التي تحفظ مجتمعاتها ونظمها السياسية من الانهيار، وفي تلك الأثناء جاءت فكرة تأسيسي لموقع الكتروني ثقافي عربي، يساهم بشكل أو بآخر في الانتصار لثقافة الحياة، والتنوير عبر نشر الآداب والفنون والفكر، وهذه مساهمة في النشر على نطاق واسع في كل أنحاء العالم للكتابات المنشغلة بهذه الحقول في ظل تراجع الصحف الورقية والمجلات وصعوبة وصولها إلى مناطق عديدة عربية أو أجنبية، لقد كانت هذه المحاولة الناجحة وما تزال وسيلة لمواجهة المد الهائل في شبكة الانترنت للمحتويات الشفاهية الضحلة، وأيضا المساهمة في توريط أكبر عدد من متصفحي الشبكة المنشغلين ليلا ونهارا بالالعاب الالكترونية أو الأخبار السياسية والاجتماعية في عالم الثقافة والفكر والفنون عبر محتويات رزينة ولكن يتم تقديمها بعناصر تشويق من صورة وفيديوات أيضا، وبالتالي تشكل وجبة معرفية تغني عن الكثير من الهراء والزبد الذي لا يفيد أحدا ولا يساهم في تقدم المجتمع .

واليوم فإن الخيارات المتاحة عبر وسائل التواصل الاجتماعي كثيرة وبالتالي صار من الواجب أن يتم توظيفها للترويج للمحتوى العميق والدسم بشكل أو بآخر، وهي الوسيلة الوحيدة للتحايل على هذا المد الهائل لمحتويات هذه الوسائل أو ” التسونامي ” المرعب للرداءة والسطحية، فالذي أراه أنه لا يمكن بحال من الأحوال مواجهة هذا التسونامي بالطريقة التقليدية، بل الأفضل والأكثر نجاة وجدوى محاولة الركوب على الموجة وتوظيفها لصالح المكتوب وخصوصا في الجانب المعرفي والأدبي.

في ربيع العام 2010 كان الفيس بوك جديدا نوعا ما في المجتمع العربي، ولم أكن على قناعة بالتسجيل فيه، إذ كان انشغالي بالقراءة والكتابة أكثر جدوى، غير أن صديقا لي أقنعني أن مثل هذه الوسائل الاتصالية الاجتماعية تعتمد على ما تريده منها ، وكيفية توظيفها لصالحك، وعدم الركون إليها لتغرقك، وأنها يمكن أن تكون مفيدة جدا في مجال نشر الكتابة الإبداعية والتواصل المباشر مع القراء والكتاب أيضا، وهذا ما حصل، فقد ساهمت هذه الوسيلة أي ” الفيس بوك ” منذ ذلك الحين في تعريف الاف القراء من مختلف مناطق العالم برواياتي بل نشرت الكثير من الروابط لتحميلها، وتعرفت بشكل مباشر على القراء والمتابعين لأعمالي واستمعت منهم إلى ملاحظاتهم، وبالتالي ساهمت هذه الوسيلة في تحقيق مبيعات أكثر لرواياتي الورقية وقامت بخدمتها والترويج لها بشكل فعال.

إن التصورات الخاطئة المسبقة عن التكنولوجيا وأنها عدو يمكن أن لا تكون دقيقة، إنها وسائل فقط يمكن توظيفها كما تريد، فقد تجلس ساعات طويلة فاتحا صفحتك على الفيس بوك من أجل الدردشة الفارغة أو التعارف، وقد يكون الأمر غير ذلك، هذا بالتالي يعتمد عليك، وإن كان الأمر يتعلق بوسائل اتصالية اجتماعية أخرى مثل السناب شات أو الانستغرام حيث الاستخدام الأكثر للصور والفيديوات فإنه يمكن تحويل هذه الوسائل ذات الاستخدام الصوري المفرط من أجل الترويج لامسية أدبية أو لكتاب جديد أو لفيديو حواري، وقس على ذلك ما يمكن أن يحدث في وسائل الاتصال الاخرى والقادمة أيضا.

الجيل الجديد في أوروبا ما يزال يستخدم الهاتف الذكي جنبا إلى جنب مع الكتاب، فلكل استخداماته، ومن المألوف أن تجد راكب القطار أو الطائرة منشغلا في المطالعة لكتابة ورقي، فالمشكلة تكمن أساسا في طبيعة التربية في تلك المجتمعات ودور المدارس ووسائل الإعلام، أما في المجتمعات العربية تحديدا فإن الغلبة ستكون لصالح الوسائل التكنولوجيا واللعب بها، فالقراءة أساسا عادة غير منتشرة بل نادرة في هذه المجتمعات، ولا تشجع المدارس ولا العائلات عليها للأسف، وبالتالي ستكون الصورة هي المتسيدة في المشهد بدلا من المكتوب، وسيحتاج الجيل الجديد إلى ضخ مذهل من قبل الإعلام لتغيير هذه الصورة النمطية البائسة، رغم ان البذرة تبدأ من المدارس والتنشئة العائلية لإفهام الطفل بالأولويات وبالاستخدام الأمثل لوسائل التكنولوجيا وكيفية توظيفها في خدمة زيادة معارفة وتعميق شخصيته وربطه بشكل إيجابي بالتطور الحاصل في العالم.

دعونا نتفاءل دوما بأن يخرج من بيننا هذا الجيل الذي سيشعر بالملل من السطحي واليومي المستهلك لهذه الوسائل، ويبدأ بالبحث عن كل ما هو عميق ومتميز ومؤثر، وهذا أمر ليس بالمستحيل، فبقليل من العمل الدؤوب والجدية، والرؤى الاستراتيجية، سيتم ذلك، وعندها لن نشكو من الغث الهائل للثقافة الصورية، والاختزالات المخلة، فهي لا بد ستسير جنبا إل جنب مع كل ما هو تأصيلي للكلمة ومؤثر في صياغة الوجدان العربي الجديد للمعرفة.

___________________

*روائي وإعلامي أردني/ رئيس تحرير ثقافات.

نشرت في العدد الأخير من المجلة العربية – السعودية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *