*عبد السلام بنعبد العالي
عندما ظهر كتاب عبد الفتاح كيليطو في نسخته العربية متزامناً للكتاب نفسه في صيغته الفرنسية، كان إعلاناً عن ثورة، لا في نظرتنا إلى الأدب فحسب، وإنما في تأريخنا له وانتقادنا إياه. ذلك أن هذا الكتاب لم يكن مجرد «تاريخ للأعمال الأدبية ومؤلفيها»، ولم يكن ليدخل ضمن التأريخ التقليدي للأدباء وأعمالهم، إنه لم يكن يهدف إلى أن يدرُس بعض أشكال الخطاب في قيمتها التعبيرية، أي من حيث إنها تصدر عن «حوافز» «عميقة» وقدرات «إبداعية» و«مشروعات» فردية، خطرت بأذهان مبدعيها وجالت بخلدهم، وإنما كان يهدف إلى أن يتعقبها في أنماط وجودها وتداولها وانتقالها. فهو لا يسأل هنا: كيف تقدر حرية فاعل أن تندرج في كثافة الأشياء لتعطيها معنى؟ كيف تقدر أن تجدد القول عندما تكرره؟ إنه لا يسأل: كيف يقدر الكاتب أو الشاعر أن «ينخرط» بمشاريعه ومقاصده الذاتية ضمن التراث الثقافي؟ وإنما: وفق أيّ شروط، وحسب أيّ أشكال أمكن لشيء مثل المؤلف أن يظهر في منظومة بعض الخطابات؟ أيّ وظائف أمكن أن يمارسها وبخضوعه لأيّ قواعد؟ ومجمل القول، فإن «المؤلف» لا يُسأل هنا كأصل وأساس، وإنما كوظيفة ومفعول لبعض أشكال الخطاب.
حفر داخلي
يستهل كيليطو مؤلَّفه باسترجاع ذكرى طفولة، حيث نلفي تلميذا مازال حديث عهد بالنصوص الأدبية، تلميذاً لم يتعلم بعدُ قراءة النصوص، يتوجه بالسؤال إلى أستاذه: لماذا الحرص على توقيع النصوص وربطها بمؤلف؟ هذا الحفر في الذاكرة سيصبح داخل الكتاب حفرا في ذاكرة الثقافة العربية الكلاسيكية، حيث يحاول الكاتب فحص «مفهوم المؤلف» في تلك الثقافة.
وقبل أن نتساءل عن الصورة التي اتخذتها هوية المؤلف في تلك الثقافة، ينبغي أن نؤكد أن هذه الثقافة ترفض «الغفلية»: «ففي هذه الثقافة لا يكفي لقول ما أن يتوافر على (انتظام خاص) كي يعتبر نصّاً، ينبغي، فضلاً عن ذلك، أن يصدر عن، أو يُرقى به إلى قائل يقع الإجماع على أنه حجة Autorité. حينئذ يكون النص كلاماً مشروعاً ينطوي على سلطة وقولا مشدوداً إلى مؤلف – حجة». وظيفة المؤلف أن يخصص نمطاً معيناً من أنماط وجود الخطاب، فأن يُربط قولٌ مّا باسم مؤلف، أن يمكن القول: هذا كتبه فلان، أو فلان مؤلفُه، فهذا يدل على أن هذا القول ليس كلاماً غفلاً يروج ويعبر ويُستهلك مباشرة، بل إننا أمام كلام يجب أن نتلقاه بشكل معين، كلام يلقى في تلك الثقافة وضعاً خاصاً: «إن الخطاب يظل مجال اهتزاز مقلق واستعداد احتمالي متوحش. ولن يُوقِفَ هذا التساؤلَ المحيّر ويُحدّدَ دلالة الخطاب العائمة إلا الانتسابُ إلى اسم بعينه: فكأن الخطاب، إن لم يحمل اسم مؤلفه، يكون مصدر خطورة ويصير أرضا غريبة تحار فيها الأقدام، وتختلط الاتجاهات لغياب نقطة مرجعية معينة مضمونة». وهكذا يُدرك الخطاب انطلاقاً من الاسم الذي يوقعه: «القطعة الشعرية تدرك انطلاقاً مما نعرفه سابقاً عن مؤلفها»، والنادرة يختلف مفعولها، بحسب نسبتها إلى ماجن أو إلى رجل متزمت.
التقليد راعي حياة الكلام
في بحثه عن الصورة التي اتخذتها وظيفة المؤلف في الثقافة العربية لا يسأل كيليطو النصوص عن مبدئها المفسر الذي يوحِّد تناقضاتها ويثبت أصولها ويضبط مصادرها، وإنما يتابع النصوص في كيفية تداولها وانتقالها وانتحالها. لذا فهو يفحص مفهوم المؤلف من زاوية السرقات والانتحالات. السرقة والانتحال والتزييف والتقليد ليست هنا أفعالاً مذمومة، ليست أفعالاً أخلاقية. التقليد راعي حياة الكلام. «فلولا أن الكلام يعاد لنفد». فلا وجود للكلام إلا في تكراره واجتراره. وكلما أعدنا الكلام وردّدناه نما وازدهر. «لكي لا يجفّ النبع ينبغي أن يسيل ويبذر المياه ويضحّي بنفسه ويستنفذ». لكل مقطوع شعري ذاكرة. وكل بيت شعري ينقل بيتا آخر، و«مهمة الشاعر أن يرسم رسما فوق آخر»، ويُكتب كتابة فوق أخرى.لا معنى هنا لانغلاق النص: «ألا يولد الاختراع الذي لا ينطوي على أي قدر من التقليد سوى غريب الكلام؟ ألن يكون في نهاية الأمر، إلا سراباً قاتلاً وقضاء على الكلام؟». ولكن، في عالم التقليد والتكرار هل يبقى للهوية وأسماء الأعلام والخصوصية والملكية la propriété، le propre، هل يبقى لهذه المفاهيم من معنى؟
فمن يتكلم وراء النصوص إذاً؟ الظاهر أن النصوص تروي ذاتها. يتضح لنا عند قراءة كتاب كيليطو أن التراث الأدبي يروي ذاته عبر الكاتب أو الشاعر، وأن الأنواع هي التي تُملي على الشاعر أو الكاتب «قواعد» التأليف ونماذجه وصوره. في هذا المجال لا قيمة لأسماء الأعلام: «فالشاعر لا يمدح أميراً بعينه، وإنما يمدح الأمير». والنسيب لا ينصب على امرأة بعينها، ولا يعبر عن عواطف شاعر بعينه، وإنما ينصبّ على المرأة، «وربما أتى الشاعر بأسماء لكثير من النساء في قصيدته تأكيدا على تعلقه بالتراث الشعري».
لن يصبح العمل الأدبي، والحالة هذه، تعبيراً عن مؤلفه، إنه ليس انعكاسا لحالات شعورية، فليس المؤلف فاعلاً، وإنما سيمسي هو ذاته مفعولاً، وبالضبط مفعول النوع ووليده. ليس الأسلوب هو الرجل. الأسلوب هنا هو النوع genre. صحيح أن في متناول الجميع أن «يُوَلّد» كلاماً، وأن يضع هذا الكلام على لسان مؤلف – حجة، «في متناول كل متكلم أن يضمّ الألفاظ والجمل. ولكن قبول العملية يتوقف على ذكر الاسم المناسب اللائق. وهكذا يمكن للكلام أن ينمو ويتزايد، بيد أن عدد المؤلفين محدود وينبغي أن يظلّ كذلك. لكل نوع أعلام هي القادرة وحدها على أن تجعل الكلام مقبولاً، ما دامت تتمتع بخلفية نصية معترف بها». والمؤلف لا يمكنه أن يهجر النوع الذي حصره داخله الاعتقادُ الشائعُ الذي حطّ فيه نهائياً. الحركة أمر محظور عليه، «يمكن أن ننسب إليه ما شئنا من نصوص ذلك النوع، ولكنه عاجز أن ينتقل إلى أخرى ليست بيئتَه».