رغم رحابة اللغة وثرائها، فإنّنا نضطرّ دوماً إلى الاستعارة من أجل قول ما يمكن قوله، أو الإيحاء بما ينبغي إسكاته. هل يمكن للاستعارة أن تقول دوماً ما يفيض عن اللغة؟ أم أنّ بعض الاستعارات وقع انهاكها، بحسب تعبير نيتشه، بحيث قد تضطرّ إلى الصمت أو الاستقالة؟ في هكذا أسئلة تعتمل صراعات خطيرة في صمت عميق حول سياسات الحقيقة والخطاب والمعنى: اللغة حقل خطير والصمت أحد أشكال خطورتها.
الاستعارة أو النقل أو المجاز: ثمّة منذ البداية مشكلة في نقل المصطلح إلى لغة الضاد. ومادامت الاستعارة نفسها، من جهة مفهومها، مجاز عبور ووسيلة نقل وفق قانون طرقات وإشارات مرور كما تحتمل اللغات من الأصل اللاتينيّ، سيكون من المناسب لنا بدءاً المحافظة على كمّية الغموض والتردّد الكامن في هذا المصطلح من أجل الظفر بالعمق الإشكالي المناسب ومن أجل مساءلته والتوجّه نحو معانيه الممكنة. ربّ غموض وتردّد كفيلين بعبور المسافة التأويليّة التي تفصل بين بيت القصيد لشاعر العرب أبي العلاء وبين الشرح الوسيط لكتاب الشعر لابن رشد الذي ينقل ميتافورا اليونانيّة بالاستعارة قائلاً ما يلي: «.. وينبغي أن تعلم أنّ في هذا القسم تدخل الأنواع التي يسمّيها أهل زماننا استعارة وكناية. والاستعارة هي إبدالٌ مِن مُناسبِه».
معركة فلسفية
ليست الاستعارة مشكلة لغويّة فحسب، بالرغم من أنّها غير ممكنة إلاّ بوصفها كائنا لغويّاً محضاً، بل ولعلّها الكائن اللغويّ الوحيد الذي لا يحتاج إلى أيّ حامل حسّي كي يكون. إنّ الاستعارة هي موضع معركة فلسفية أيضاً. يتعلّق الأمر تحديدا بمعركة تأويلية دارت بين نصّين وبين فيلسوفين: بين كتاب «الاستعارة الحيّة» للفيلسوف الفرنسي المعاصر بول ريكور، ونصّ «استقالة الاستعارة» للفيلسوف الجزائري الأصل جاك دريدا. وهي معركة تراهن على سؤال فلسفيّ مربك حول استعمال اللغة، بوسعنا صياغته كما يلي: هل يحقّ لنا استثمار الثراء العجيب للغة؟ وماذا تستطيع الاستعارة إزاء فائض المعنى الكامن دوماً في اللغة؟ وهل تقول الاستعارة الكينونة كما هي أم هي تحمل دوماً آثار الغياب والصمت وهسهسة اللغة؟
ثمة إذن بين الحقيقة والاستعارة صلب حقل اللغة الوسيع ضرب من التواطؤ الغامض، وهو ما يضعنا أمام أمّية محرجة: إمّا أنّ اللغة تقول أكثر ممّا نستطيع أن نعقله، أي أكثر من الحقيقة نفسها، ولذلك ينبغي أن نؤوّل المعاني المتراكمة داخل المفاهيم، وإمّا أنّ اللغة قد سكتت عمّا هو مكتوب فيها وقدّمت لنا ما يمكن للاستعارة أن تقوله، وهي إذن لا تقول أكثر ممّا يسمح به المفهوم؛ ولذلك ينبغي أن نفكّك المفهوم وأن نتخلّص من الاستعارة التي فرضته علينا، لأنّ وراء كلّ مفهوم استعارة ميّتة وقع نسيانها. ربّما تكون الاستعارة إذن في حالة انسحاب رغم امتدادها المتفاقم واجتياحها لساحة الفكر العالمي اليوم: تلك هي أطروحة دريدا الذي يكتب ضدّ الاستعارة الحيّة للفكر التأويلي السرديّ لبول ريكور..
في هذا الجدال الفلسفي بين ريكور ودريدا حول الاستعارة، أي بين استعارة حيّة واستعارة مطالبة بالأفول عن ساحة اللغة، ثمّة أيضاً معارك فلسفيّة وسياسات مختلفة للخطاب: لأيّ شيء تصلح اللغة بوصفها لوغوسا، أي لغة الحقيقة، هل من أجل القول، قول الكائن وما يحضر منه من معانٍ رمزية عميقة، أم أنّ اللغة قد قالت الكثير إلى حدّ الآن وربّما هي لم تعد قادرة على قول أيّ شيء، وأنّه علينا أن نبحث عمّا لم تقُل، أي عن كتابة آثار الصمت ولغة الهامش؟ هل نواصل زمنية السرد القائمة على حضارة الكتاب؟ أم نقول مع دريدا «لقد انتهت حضارة الكتاب.. وبدأت حضارة الكتابة»؟
الاستعارة تقول الحقيقة
يُعتبر كتاب ريكور الاستعارة الحيّة (1975) محطّة فلسفيّة حاسمة في النقاش الفلسفي المعاصر حول الاستعارة كمشكلة تأويلية وفكريّة دقيقة. ذلك أنّ الأمر يتعلّق في هذا الكتاب بالدفاع عن الفلسفة بوصفها تملك حقلها الاستعاري الخاص بها رغم كونها مستقلّة عن الشعر وعن كلّ أشكال الخطاب الأخرى. وهو كتاب مفصليّ في مشروع ريكور الفلسفيّ الذي انطلق بكتاب صراع التأويلات (1969) وانتهى إلى ثلاثية الزمان والسرد (1983 – 1985). ويهدف كتاب الاستعارة الحيّة إلى إنجاز تأويليّة عامّة من خلال نقاشات فلسفيّة مع التقليد الأنغلوسكسوني التحليلي والتحليل النفسي والظاهراتيّة والبنيويّة. والغرض العام من وراء هذه التأويلية العامة هو ترميم فلسفة الذات الحديثة، أي الكوجيتو المجروح، وذلك ليس عودة على كوجيتو ديكارت، بل من خلال تجديد طاقة الذات عبر براديغم اللغة كأرضيّة مشتركة للفكر الفلسفي المعاصر بعامّة. وضمن هذا الأفق العامّ يحاول كتاب «الاستعارة الحيّة» ضمان العبور بالاستعارة من حقل الألسنيّة إلى حقل الهرمينوطيقا، بحيث يقع التحوّل من الجملة إلى الخطاب أي كلّ أشكال القصص والسرد بما فيها الشعر والكتابة بأنواعها. وهنا لم تعد الاستعارة تتعلّق بالكلمة ولا بالدلالة إنّما هي تتعلّق بالمرجع. والمقصود هنا تحديدا هو المنطوق الاستعاريّ بوصف الاستعارة قدرة لغويّة على «إعادة وصف الواقع». وذلك يعني أنّ كلّ منطوق لغويّ إنّما هو يقول دوماً شيئا ما أي يقول الحقيقة أي يقول الواقع.
وفي هذا المعنى يكتب ريكور معرّفاً الاستعارة ما يلي: «إنّ الاستعارة هي استراتيجيّة خطابيّة تُحافظ وتُنمّي القدرة الاستكشافيّة للتخييل عبر محافظتها وإنمائها للقدرة الخلاّقة للغة» بحيث أنّ ما يحدث هو ضرب من اجتياح الاستعارة لحقل الواقع ممّا يخوّل الكلام عن فلسفة ضمنيّة خاصّة بالمرجع الاستعاريّ. وهو ما يؤدي إلى الدفاع عن استقلالية الفلسفة وعن مخزونها الاستعاري الخاصّ بها.
دريدا وانسحاب الاستعارة
يتنزّل تفكيك دريدا للاستعارة ضمن مشروع نقد عامّ للميتافيزيقا بوصفها قائمة على مركزيّة الكلمة ووحدة المعاني وثباتها. وفي هذا السياق يتنزّل معنى «انسحاب الاستعارة» نفسها: ذلك أنّه لا يمكننا اقتراح أيّة نظريّة في الاستعارة لأنّنا نتكلّم دوما داخل استعارة ما أو في شبه استعارة دائمة. فالاستعارة هي في حالة انسحاب دائم كلّما هممنا بتعريفها إلاّ وتاه بنا الكلام في طيّاتها. لذلك تخرج الاستعارة من الخطاب وتتنزّل ضمن الكتابة. إنّها تنسحب من الخطاب. والكتابة إنّما هي دوما في شوق دائم إلى شيء آخر غير الدلالة، أو الحقيقة أو التحكّم بالمعنى، إنّها في شوق إلى ضلالها وتيهها الخاصّ.
انسحاب الاستعارة هو نصّ محاضرة ألقاها دريدا سنة 1978 في جامعة جنيف في ملتقى دولي تحت عنوان «الفلسفة والاستعارة». وفي هذا النصّ ينطلق دريدا من السؤال التالي: «ما الذي يحدث مع الاستعارة؟» ويعترف دريدا منذ البداية بغموض العبارة وكثافتها. فالاستعارة عنده تعني السكن والترحال في المدينة والتنقّل من مكان إلى آخر، بل والاستسلام أيضاً لعمليات النقل بأنواعها وكأنّنا كائنات استعارية أو مجازيّة وكأنّ العالم برمّته هو مجرّد حقل عبور.. وضمن هذا العبور الدائم ثمّة ضرب من الدور المفرغ: فالاستعارة تحتوينا كلّما بحثنا عنها، إذ لا نستطيع الكلام عنها من دون أن نستعير منها ما به نقولها هي نفسها.. وهكذا نظلّ في نوع من الدين أو من الإعارة الدائمة كلّما تعلّق الأمر بالتفكير في الاستعارة. إذن الاستعارة هي من قبيل ما لا يُعالجُ، وما لا يفكّر فيه..
وهذا يعني أنّ نصّ «انسحاب الاستعارة» هو نصّ يناظر نصّ «الاستعارة الحيّة» في معنى دقيق جدّاً: ثمّة مسافة ما يرسمها دريدا على ريكور هي المسافة بين من لا يزال يعتقد في قدرة الاستعارة على قول الحقيقة، ومن ينادي بضرورة تفكيك الخطاب القائم على الاعتقاد بأنّ الاستعارة تقول الكائن، أي نمط كينونتنا في العالم.
يتعلّق الأمر في تصوّر دريدا بمسألة الاستعمال المشطّ للاستعارة إلى درجة انهاكها وتفقيرها. وبهذا المعنى يذهب دريدا إلى تشخيص الاستعارة بوصفها وجها من الوجوه البلاغية البراديغماتية ضمن ارث اللوغوس الغربي الذي يشتغل دريدا على بيان نقاط العطالة صلبه. والسؤال الفلسفي الذي يدير هذا النقاش، عبر العلاقة مع هيدغر، هو التالي: هل ثمّة موت للاستعارة أم صمت لها أم أنّ الاستعارة حيّة مادام ثمّة لغة هي الحاضنة للكينونة وللحقيقة ولمعنى العالم؟
لكن ما ذا يعني انسحاب الاستعارة؟
عن هذا السؤال يجيب دريدا كما يلي: «ليس الانسحاب شيئاً، أو كائناً أو معنى. فهو انسحاب من كينونة الكائن بوصفه كذلك.. وانسحاب الكائن دون أن يكون ودون أن يُقال في مكان آخر». وفي الحقيقة، ليس بوسعنا أن نفهم أطروحة انسحاب الاستعارة دون أن نعيدها إلى علاقة تشابك عنيد يقيمه دريدا مع أطروحة هيدغر حول سؤال نسيان الكينونة أو انسحابها.
انسحاب الاستعارة هو إذن انسحاب الكينونة نفسها أي سحب الاستعارة حتى نترك المكان للتفكير بطريقة ما بعد ميتافيزيقية، أي تفكيكيّة. وذلك يعني بحسب أطروحة دريدا استحالة قول كينونة الكائن الذي تدّعي قوله الاستعارة كما يذهب إلى ذلك بول ريكور. ذلك أنّنا لا نستطيع أن نلتقي بالكائن لأنّه يلبس دوما معنى الكينونة في حقبة ما. انسحاب تُفهم ههنا في معنى تعليق المعنى أي امتناع الكينونة عن أن تُقال في كلّ مرّة لأنّنا ما إن نهمّ بقولها إلاّ وانسحبت كي تترك لنا الاستعارة مكانها.
فدريدا يقصد تحديداً أنّ الاستعارة قد وقع إنهاكُها واستنفادُها، وأن ليس ثمّة من معنى من أجل أن يكون ثمّة استعارة. أمّا ريكور، فإنّ إرادة الحقيقة لديه لا تزال في صحّة جيّدة والمطلوب عنده هو عندئذ استخراج أكثر ما يمكن من المعنى. وفي حين يعتقد ريكور بأنّه ثمّة دوما فائضاً من المعنى، يذهب دريدا إلى أنّ المعنى هو من انفعالات الميتافيزيقا القديمة، وأنّ المفهوم لا يمكن أن يقول كلّ شيء وأنّ الاستعارة لا تقول الكائن بل هي تقول اللاشيء. وإنّ ما يتبقى هو فقط الخطوة والطريق، ما يمرّ وما يعبر وما يتحرّر من العبور..
خلاصة القول:
إنّ انسحاب الاستعارة في المعنى الذي يقصده دريدا في خصومته مع التصوّر الذي قدّمه ريكور عن الاستعارة الحيّة، يمكن تلخيصه كما يلي:
= عندما تكون الاستعارة أداة لقول كينونة الكائن، فهي لا تقدّم لنا إلاّ المعنى الميتافيزيقيّ للكينونة. وإنّ ما لا تستطيع أيّ استعارة أن تقوله لنا إنّما هو انسحاب الكينونة عندما نظنّ أنّنا قلناها بعدُ.
= إنّ الاستعارة توهمنا بأنّنا في حضرة الكينونة وهي في الحقيقة لا تقول إلاّ غياب الكينونة، أي هي لا تقول إلاّ مرورا ما للكينونة في سماء الكائن من دون أن يراها. = إنّ الاستعارة والمفهوم والعلامة هي أدوات مركزية اللوغوس وعلينا تفكيكها بدلاً من الاعتقاد في جدواها.
انسحاب الاستعارة
لكن ماذا يعني انسحاب الاستعارة؟
عن هذا السؤال يجيب دريدا: «ليس الانسحاب شيئاً، أو كائناً أو معنى. فهو انسحاب من كينونة الكائن بوصفه كذلك.. وانسحاب الكائن دون أن يكون ودون أن يُقال في مكان آخر». وفي الحقيقة ليس بوسعنا أن نفهم أطروحة انسحاب الاستعارة دون أن نعيدها إلى علاقة تشابك عنيد يقيمه دريدا مع أطروحة هيدغر حول سؤال نسيان الكينونة أو انسحابها.
انسحاب الاستعارة هو إذن انسحاب الكينونة نفسها أي سحب الاستعارة حتى نترك المكان للتفكير بطريقة ما بعد ميتافيزيقية، أي تفكيكيّة. وذلك يعني بحسب أطروحة دريدا استحالة قول كينونة الكائن الذي تدّعي قوله الاستعارة كما يذهب إلى ذلك بول ريكور. ذلك أنّنا لا نستطيع أن نلتقي بالكائن لأنّه يلبس دوماً معنى الكينونة في حقبة ما. انسحاب تُفهم هنا في معنى تعليق المعنى أي امتناع الكينونة عن أن تُقال في كلّ مرّة لأنّنا ما إن نهمّ بقولها إلاّ وانسحبت كي تترك لنا الاستعارة مكانها.
___
*الاتحاد الثقافي