المدن الوفية لإنسانيتها هي تلك المدن الحية التي تحتضن رموزها الثقافية وتؤسس المتاحف وتقيم النصب التذكارية لهم وتبتكر الاحتفالات في ذكرى ولادتهم أو لصدور كتاب جديد عنهم، تلك الشخصيات الملهمة من الكتاب والفلاسفة والفنانين الذين تركوا للانسانية تراثاً فلسفياً وفكرياً وأعمالاً فنية خالدة تعتبرها مدنهم المتحضرة كنوزاً ثقافية وتعليمية وتطبع المنشورات الترويجية عن منازل اقاموا فيها ومقاهٍ ارتادوها وقرى ولدوا فيها ولاتهمل أية مادة تخص حياتهم، كالمكتبات وادوات المختبر والأقلام والنظارات والملابس ومناضد الكتابة الا واقتنتها وحافظت عليها وعملت على صيانتها ووضعها في مواقع تليق بها، أما المدن الجاحدة كمدننا وهي نتاج بيئتنا الشرسة الطاردة لمفكريها ومبدعيها وفنانيها فهي التي تشتغل دوماً على آلية النسيان: تحرض البشر على إهمال ثقافتهم الوطنية بإهمال سلطتها لها، وتدمر مواثل تلك الثقافة فيقلدها أناس جهلة ممن لايحترمون مَعْلَماً ثقافياً أو إرثاً معنوياً أو مادياً كالمنازل التراثية وغيرها، فيعمدون الى تدميرها وبناء دكاكين وأسواق تجارية قبيحة بدلا منهاً، فعندما تجهل السلطة الثقافة وتنكر قيمة رموز البلد الثقافية يعتاد اغلب الناس على نكرانها والهزء بها والحكم عليها من وجهة نظر الفئة الحاكمة.
هل فكرت بغداد بإقامة تمثال للدكتورعلي الوردي مثلاً؟؟ هل جرؤت جامعة عراقية على إقامة تمثال للعالم عبد الجبار عبدالله الذي حصل على الدكتوراه من أرقى المعاهد العلمية في العالم معهد مساتشوستس للتكنولوجيا MIT ؟ أو نصباً لنازك الملائكة أو للزهاوي ؟؟
قرأت قبل أيام ما نشره الصديق صفاء صنكور عن مغامرة الفنان البريطاني الشهير فيل كولنز (المغني والموسيقار والممثل ورائد حملات الإعانة العالمية في الثمانينات) بنقل تمثال (فريدريك انجلز) الى مدينة مانشستر، فبحثت في صحيفة الايكونوميست عن تفاصيل الموضوع، وقرأت أن انجلز أمضى أكثر من عقدين في مانشستر وكان يراقب ويدرس ويوثّق الظروف المريعة لعمالة الأطفال والرجال والنساء في مدينة نضج فيها التحول الصناعي الرأسمالي وسحر الرأسمالية المرتبط بسحر فائض القيمة، وأنجز انجلز حينها أهم كتبه (أوضاع الطبقة العاملة في انكلترا).
اكتشف كولنز، أن مانشستر لم تحتفظ بأيّ رمز يشير الى انجلز، فقام من مستقره في برلين بالبحث عن تمثال لهذا الفيلسوف في البلدان التي تخلت عن الاشتراكية وتخلصت من تماثيل فلاسفتها بعد تفكك المنظومة الاشتراكية، وطال بحثه وسط ركام التماثيل والرموز التي أزيلت في بلدان الاتحاد السوفييتي السابق ودول شرق اوروبا.لقد كنا شهوداً على ذلك التفكك المباغت، ورأينا كيف احتفل سكان برلين بهدم الجدار الذي كان رمزاً لتقسيم ألمانيا ومدينة برلين، وكيف بيعت حجارته لهواة جمع رموز الاشتراكية بعد توحد شطري المانيا وتحولت شظايا الحجارة فيما بعد الى تذكارات ثمينة تعادل الاعمال الفنية قيمةً في بورصة الاسواق الفنية العالمية التي تتاجر بكل شيء، خاصة ما يشير الى تفكك خصم كبير كالمعسكر الاشتراكي .
وجد كولنز تمثالاً مهملاً لفريدريك انجلز – بطول ثلاثة أمتار ونصف – مقسوماً الى نصفين ومدفوناً في مزرعة شرق اوكرانيا، وبعد مفاوضات عسيرة اشتراه ونقله في شاحنة عبرت اوروبا وقال مامعناه: هناك سفر عبر الزمان، أما تمثال انجلز فقد سافر عبر فضاء أوروبا كفكرة حية. تبرع بعض أهل مانشستر ومنظمات خيرية فيها لدعم عملية إعادة تمثال الرجل الذي الهمته المدينة كتابة أهم مؤلفاته وليقف شامخاً وسط مانشستر التي اخلصت لذاكرتها الفكرية بينما تغرق رموز بلداننا في النكران والجحود والنسيان.
____
*المدى