راهنية «المتشائل» لبنانياً

*عبده وازن

حمل الممثل الفلسطيني محمد بكري الى بيروت رواية «المتشائل» للكاتب الفلسطيني الرائد اميل حبيبي في عرض مسرحي بديع ما برح يجول به مسارح العالم منذ سنوات. قدم بكري مساء امس الاحد المسرحية المستوحاة من رواية «الوقائع الغريبة لاختفاء سعيد ابي النحس المتـــــشائل» على مسرح المدينة في سياق الاسبوع الفلسطيني الذي تحييه دار النمر، فبدا النص كأنه كتب الآن، نظراً الى راهنية فكرة «التشاؤل» الفلسطيني التي غدت امثولة تُردد كل يوم. فهذه الرواية الفلسطينية الفريدة تعيد الى الذاكرة صورة اخرى عن مأساة الداخل الفلسطيني، دامجةً، على طريقة البطل «المتشائل» أو المتشائم- المتفائل، المأساة بالسخرية واليأس بالعبث.

تمثل هذه الرواية التي أنجزها حبيبي في العام 1974 خير تمثيل الأبعاد التراجيدية للشعب الفلسطيني الذي اختار «غربة» الداخل منذ العام 1948. فالحكايات التي يسردها الراوي المأسوي الساخر تطابق الحكايات الأليمة التي يكتبها الفلسطينيون اليوم بدمائهم وجروحهم. فالبطل الذي يدعى سعيد أبو النحس المتشائل يكتشف في الختام، بعد ما عانى الكثير من كيد السلطة الإسرائيلية، ان المستقبل لن يصنعه سوى ذلك الشاب الذي يهوي بفأسه على قاعدة «الخازوق» الذي وجد سعيد نفسه متربعاً عليه. ولم يتمالك الشاب حينذاك عن دعوة «المتشائل» للنزول الى الشارع واختيار طريق النضال. غير ان البطل الغريب الأطوار والمتناقض لم يلبث ان وقع ضحية «الخازوق» و «الكابوس» معاً، كما يعبّر، فهو إذ يتربّع وحيداً على رأس ذلك «الخازوق» يدرك ان «الكابوس» يجثم على صدره ، ولن يلتمس الخلاص إلا على يد الكائن الفضائي الذي يأتي من خارج الأرض، أي عبر المخيلة «الغرائبية».

ليس «سعيد» المتشائل البطل السلبي إلا ضحية «المنفى» الداخلي والحصار، ضحية الخوف والبراءة، ضحية الانفصام والاقتلاع. وهو يفشل في المهمة التي ألقتها عليه السلطة «المغتصبة» تبعاً لعجزه عن أداء شخصية الشرير. وسرعان ما يعود الى رشده الوطني وذاكرته الوجدانية فيمضي في الطريق الذي رسمه أبناء أرضه المحتلة والمغتصبة، فيسقط عن نفسه هويته المزدوجة وينتصر لانتمائه الفلسطيني.

كتب اميل حبيبي هذه الرواية الطريفة، المأسوية والساخرة، في ظل الاحتلال، تحت وطأة الإرهاب الإسرائيلي في الداخل. ولعل هذه الظروف الشائكة والصعبة حدت به ربما الى اختيار الترميز والمجاز و «المواربة» في الكتابة الروائية. واستطاع عبر هذه العناصر ان يكسر الشكل الروائي التقليدي. فإذا الرواية سلسلة من الحكايات والطرائف «والمآسي» يرويها راو، هو قرين الكاتب، على لسان راو آخر هو سعيد «المتشائل».

يبدو الراوي- البطل أقرب الى «الحكواتي» الذي يستخدم عناصر الحكاية الشعبية ولكن عبر لغة عربية رشيقة وجميلة لا تخلو من خصائص «المقامة» والأمثال والحكم. وكان حبيبي سبّاقاً في توظيف بعض الأشكال التراثية في سياق روائي يتمرد على بنية الرواية وشكلها التقليدي. وسعى الى «تجريب» عناصر الرواية مؤسساً أدباً روائياً يجمع بين الكتابي والشفوي، بين الأصالة والمعاصرة، بين السخرية والمأساة. واستطاع من خلال هذه الشخصية الطريفة التي ابتدعها تحت اسم «المتشائل» ان يؤسس نموذجاً فريداً بات أشبه بالمثل الذي يضرب أو الرمز الذي يُدل عليه. إنه «المتشائل» أو البطل الهجين، المتناقض، والمتهافت، المنفصم بين البراءة والشر، بين «الخازوق» و «الكابوس».

بدا تقديم «المتشائل» عرضا مسرحيا في بيروت الان وكأنه مشاركة غير مباشرة في السجال الذي تشهده المدينة حول قضية السينمائي زياد الدويري المتهم بـ «التطبيع» مع العدو الاسرائيلي نتيجةَ تصوير فيلمه «الصدمة» في اسرائيل قبل خمس سنوات. ويذكر الجميع كيف خوّن مناهضو التطبيع كاتبنا اميل حبيبي في العام 1992 عندما وافق على نيل جائزة اسرائيل للابداع، وقد تسملها من يد الارهابي اسحاق شامير غير مبال بالحملة الفلسطينية والعربية التي قامت ضده. وكان قبل عامين حاز وسام القدس تكريماً له ولمساره النضالي. حينذاك ارتفعت اصوات «متطرفة» واخرى معتدلة منادية اياه برفض الجائزة الاسرئيلية وبعدم منح الدولة العنصرية شرف مكافأة الادب الفلسطيني ولو زوراً أو «تذاكياً». طبعاً الآن لم يعد يذكر احد ذلك الخطأ الكبير الذي ارتكبه هذا الروائي الرائد، لا سيما بعد رحيله، على رغم «الخضة» التي احدثها. سقط «الخطأ» وسقط التخوين وسقطت الجائزة الاسرائيلية ولم يبق سوى اميل حبيي واعماله البديعة، وفي مقدمها «المتشائل»، هذه الرواية التي تمثل الحالة الفلسطينية المتراوحة بين تفاؤل وتشاؤم شبه أبديين.
_______
*الحياة

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *